صدرت مجموعتي الشعرية الأولى بعد سنوات من كتابة ونشر قصائد منها في عدد من الصحف والمجلات. منذ 1965 ـــ وكنت حينها في السنة الأولى من المرحلة الثانوية على الأرجح ــــ وأنا أكتب نصوصاً تقلّد بعض ما قرأته من جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني (هتاف الأودية) وأمين نخلة (المفكرة الريفية...) وفؤاد سليمان...
والحقيقة أنني لم أتمكّن من تصنيف هذه النصوص واختيار ما يمكن وصفه بـ«القصيدة» إلا بعد سنوات حين اتسعت قراءاتي الشعرية (في المرحلتين الثانوية والجامعية) لأعمال شعراء وكتاب ممن كنا نطلق عليهم الشعراء الروّاد (أدونيس، خليل حاوي، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب)، ثم في المجلات الأدبية التي ازدهرت في لبنان والعالم العربي منذ مطلع الستينيات (شعر، آداب ومواقف). اخترت قصائد مجموعتي الأولى، إذاً، من محاولات ومسوّدات قصائد كنت قد نشرت بعضها واحتفظتُ ببعضها الآخر لعدم ثقتي بأنها أخذت صيغة «نهائية».
حين نشر الديوان في عام 1978 لدى «دار الفارابي»، فوجئت بأن عدداً من أصدقائي الشعراء (والكتّاب في الصفحات الثقافية) رأوا فيه تجربة جدّية ومختلفة عن مجموعات أصدقائي الشعراء الذين كانوا قد سبقوني إلى نشر مجموعاتهم الأولى. وأذكر هنا ما كتب في صحيفة «النهار» لنزيه خاطر وما نشر في مجلة «المستقبل» التي كان يدير صفحتها الثقافية الشاعر بول شاوول، وكذلك ما نشر في «السفير» و«النداء» لـ عباس بيضون وبسام حجار وحسن داوود وعلوية صبح. ولم أفاجأ بأنّ عدداً من النقاد والكتّاب تجاهل المجموعة ونظر إليها كمحاولة، في إطار محاولات سائدة ــ في قصيدة النثر خاصة لإفساد «وظيفة الشعر» والخروج على «الثوابت البنيوية للقصيدة العربية». والحقيقة أنني فرحتُ بالقراءتين المتعارضتين لأنهما كانتا تلامسان جانباً مما كنت أرغب فيه أو أحاوله في نشر المجموعة!
لم يكن الديوان، بالنسبة إليّ، «حدثاً» كما يتوهم الشعراء عادة في نشر مجموعاتهم الأولى، ولم يكن في الوقت نفسه محاولة «متعثرة» أشعر أن عليّ إعادة النظر في «تقويمها» أو تصويب خلل في عدد من القصائد.
نشرت مجموعتي الأولى في الثلاثين، على الرغم من أنني بدأت الكتابة في مرحلة مبكرة. وكنت، قبل نشرها، أحظى ــ إلى عدد من أبناء جيلي ــ باعتراف شاعرين كبيرين: أدونيس الذي أشار إلى أسمائنا في العدد 17/18 من مجلة «مواقف» ورأى أنها «تشكّل تجربة سيكون لها تأثيرها في تطور الحركة الشعرية...»، وأنسي الحاج الذي قدّم وصفاً ذكياً لتجاربنا في ملحق «النهار» ونعت تجربتي بـ«الجريئة».
الآن، حين أعود إلى ديواني الأول، أقع أحياناً على عبارات أو على قصائد على قدر من التشوش (اختيار المفردات، استعادة صور وصفية لشعراء رومانسيين قرأتهم، خلل في بنية بعض القصائد أو في ترابط أجزائها)، لكنني لا أشعر بالرغبة في تصويب هذه الأخطاء وإخضاع الديوان لـ«تجربتي» الراهنة. فالديوان هو أنا كما كنت أو ما حاولت أن أكونه. وأعتقد أن مثل هذه «الأخطاء» ملازمة لتجربتي كما لكل تجربة شعرية. فالقصيدة ليست تعبيراً نهائياً ومحكماً لرؤية الشاعر وحساسيته... ولغته. و«الإحكام» الذي نتحدث عنه في لغة القصيدة أو التطابق بين اللغة والتجربة، يبدو مستحيلاً ــ نحن نرى إيحاءات هذه التجربة ومقارباتها في لغة لم تكن متداولة أو مألوفة في حياتنا وثقافتنا.
ربما أقع حين أعود إلى ديواني الأول على عبارات «متعثرة» أو حتى على خلل في التعبير، في عدد من القصائد، ولكن هذا الخلل بات ملمحاً أساسياً في تجربتي الشعرية (وفي بنية القصيدة!) وأشعر أنّ هذه القصائد لا تزال تحركني ولا أملك القدرة أو الجرأة على أن أعيد النظر في صياغتها، أو أن أبدّل في «حروفها». وقد أجد في الديوان نصوصاً أقرب إلى مسوّدات قصائد، أو تصميماً أول لقصيدة ينبغي «كتابتها»... ولكن هذه النصوص تبدو على هذه الصورة أكثر عفوية وحدساً.
وقد أجد، أيضاً، قصائد «غامضة» لا تُلمّ بالتجربة أو «اللحظة الشعرية» (التي كنت أحاول التعبير عنها)، ولكن من قال إننا نكتب عن الأشياء التي نعرفها؟
حين نشرت ديواني الأول، لم أنجُ من الخوف الذي ينتاب معظم الشعراء لدى نشرهم مجموعاتهم الأولى، ولكن الديوان كان يحمل صوتي و«ملامحي»، وأن كان يحمل أصداء تجارب شعراء كثيرين ممن قرأت لهم، وأصداء حركة شعرية كانت بيروت ساحتها و«محترفها» الأكثر غنى وتنوعاً.
لم أنجُ من الخوف الذي ينتاب
معظم الشعراء لدى نشرهم مجموعاتهم الأولى، ولكن الديوان كان يحمل صوتي و«ملامحي»


حين أعود إلى الديوان، أعود
إلى اللقاءات الاحتفالية وطقوس القراءات على الأرصفة وفي المقاهي والحانات في أرجاء بيروت

أظن أن ديواني الأول، طَبع، إلى حدّ كبير، ملامح تجربتي الشعرية. وعلى الرغم من أنني أتردّد في قراءة عدد من القصائد أو المقاطع الرومانسية التي وضعت بلغة إنشائية (أو بلاغية) عالية ـــ كنا نظنّها وصفة أبدية للشعر ـــ فإنني أشعر بقدر من الاقتناع والغبطة حين أقرأ في بعضها الآخر لغة القصيدة المتصلة بأبعاد التجربة الشعرية ومفرداتها. وأشعر بالغبطة أكثر حين أسمع أصدقائي، من الشعراء ومن الوسط الأدبي والثقافي، يرددون، في مناسبات ومصادفات لقاءاتنا، سطوراً ومقاطع من قصائد الديوان (نحو ملكوت جميل، عبّاد الشمس، خارج الطقوس...).
وحين أعود إلى الديوان، أعود إلى اللقاءات الاحتفالية وطقوس القراءات على الأرصفة وفي المقاهي والحانات في أرجاء بيروت.
في مجموعتي الأولى، لم أتخلّ عن شاعريتي (ورؤيتي) الرومانسية إلى العالم. ولم أتمكن من تجاوز اللغة الرومانسية في عدد من القصائد لأسوّغ أحزاني وحماستي لقضايا كبرى شغلت العالم في ذلك الوقت، واعتراضاتي على ما يحدث وما أرى من حولي لِـ«بناء» صورة لعالم أكثر عدالة وحرية... ولكنني عمدت في قصائد أخرى إلى اقتراح قصيدة ترتكز على النثر الشعري في تراثنا الأدبي أكثر مما تعود إلى الترجمات الشعرية التي ظلت المرجع الأول لعدد من شعراء قصيدة النثر من أبناء جيلي.
وحين أعود إلى ديواني الأول، أتذكر كيف توقفت طويلاً عند اختيار عنوان أقلّ ادّعاء مما نجده في عناوين المجموعات الأولى للشعراء والكتاب. ولكنني كنت أريده في الوقت نفسه لافتاً، ويحيل القارئ إلى «جهة» في الديوان. كنت أرغب في اختيار جملة تامة لديواني الأول، على الرغم من العناوين الشائعة في الدواوين والكتب الأدبية في ذلك الوقت التي ترتكز على العبارات الناقصة أو القصيرة (مضاف ومضاف إليه، مبتدأ وخبر...) ثم اهتديت إلى جملة «أبدأ من رقم يمشي» في إحدى قصائد المجموعة، وقلت هذا العنوان يلائم محاولتي الأولى ليس في الشعر فقط، ولكن في كل عمل أو محاولة في الكتابة... وفي الحياة أيضاً.
حين أعود إلى ديواني الأول، أشعر أنني أمام محاولتي الأولى لاكتشاف لغة ومعان وهواجس غير التي أخذت أبعادها في حياتنا... وثقافتنا. هي محاولة أولى... ولكن أليس كل أثر أدبي أو فني، مهما اختلفت مواعيد ظهوره، محاولة أولى؟