بدأت كتابة روايتي الاولى وأنا في التاسعة عشرة من العمر، من غير قلم وورقة. تركت الأفكار والأحاسيس آنذاك تتشابك، تتفرق تتيه وتتلاشى، لتدقّ بعد عام باب رأسي من جديد بزخمٍ وبحماسٍ شديدين، فأكتبها على ورق الدفاتر، وأطلق عليها عنوان «انتحار رجل ميت»، وأنشرها سنة 1970 لدى «دار النهار» بعد أربع سنوات عندما أصبح لي اسم في عالم الصحافة والنشر والتلفزيون.لاقى كتابي حماساً صحافياً ومبيعاً جيداً، ونقداً فاتراً من النقاد، بينما قمت بتهنئة نفسي لأني استطعت الانسلال من مغريات مدينتيّ الملاهي: القاهرة، حيث بدأت كتابة الرواية، وبيروت حيث أنهيتُها. أجدني أرى لماذا كان فتور النقاد في محلّه، فأنا كنت قد اعتليت موجة المناخ السائد في الستينيات، البحث عن لغة أخرى، أفكار أخرى ابتعد بها عن كل ما هو واقعي، صميمي وحقيقي، لإيماني وقتها بأن الكتابة لا بد أن تكون عن واقع لا نعيشه، بل نتمنى أن نعيشه في أجواء المذهب الوجودي. فنغوص في الذاتية والضجر والتوتر والنزق. كأننا كنا نتوق الى حياة نشاهدها في الأفلام السينمائية. فبدلاً من الارتكاز على الحبكة وتطور الشخصيات والأحداث للدلالة على مكنونات الفكر والقلب وجدتني أُنشد الغرابة سواء في التفكير أو في التعبير، في الاسترسال والوصف والتشابيه، وحشر الكلمات لا لسبب سوى خروجها عن المألوف ككلمة «الطحالب» واستخدام الجمل لا لسبب إلا لغرابتها وافتتاني بها.. كـ «الأرض تضرب الأرض» و«كان جسمك كعود الحطب يعوي كأحواض الماء والملح على ضفاف البحر»، و«كانت مستعصية كجوزة الهند لكني قشّرتها كالموزة».
استخدام السورياليه والرمز وقفا حائلاً بيني وبين الصدق في الكتابة والوصول عبره الى التحريض أو الكشف عن ظلام أنفسنا أم نوره في رحلة الحياة هذه. تُرى هل يشرح لي أحد لماذا كتبت هذه الأسطر: «الرمل لا يتزوج، الرمل لا فرق عنده، ينتقل من آنية الى الشاطئ، من المستنقع الى البستان، ويطوف عند بيوت النمل وأحياناً يحلق، ولا تهمّه أسماء الأيام، الأحد عنده كالاثنين والخميس كالسبت، هو أعمق من زوجتي طبعاً ويجب عليه ألا يكون أعمق، فزوجتي لها خفقات فكر ولحظات قلب، إنما الرمل أعمق».
الرمل الذي لا أعرف لماذا كتبت عنه في هذه الفذلكة، جعلتُه المكان في روايتيّ «فرس الشيطان» و«مسك الغزال»، وأيضاً في المجموعة القصصية «وردة الصحراء». لأن المكان هو كالشخصية لها تجاربها وقوانينها وأسسها، تؤثر وتتأثر بما يدور حولها.
كنتُ قد انتقلت للعيش في الخليج العربي بعد أربع سنوات من كتابتي لـ «انتحار رجل ميت». وجدتني وأنا في أرض الشمس والسراب، والصمت والصحراء، عود الى حواسي الأولى وألتقي مع نفسي، فأجد أن هذا العالم الجديد عليّ، المتناقض بين رمله النائم على السطح بكل سكينة، يغلي داخله بالدين المتشدّد، المهيمن على الأذهان، يُعيدني الى الماضي، عندما حاول والدي أن يفرض عليّ اتباع الدين في الصغر. من هذا المنطلق، نمت بذرة روايتي «فرس الشيطان»، واكتشفت أن كتابة الرواية ليست بحاجة سوى للصدق وللاجابة على الاسئلة التي تعتمل في الصدر. لذلك أجدني أتساءل الآن، كيف لي أنا ابنة التاسعة عشرة أن أتفهّم العجز ومرارته في «انتحار رجل ميت» لدى رجل أربعيني أحب فتاة مراهقة في السادسة عشرة من عمرها، وكيف حوله هذا الحب من عاشق الى عاجز، وكيف أتفق أني جعلت الرواي رجلاً؟ لأجيب نفسي فأقول إني تقمصت شخصية هذا الرجل لسببين، الاول كان لشغفي وتأثري برواية «السأم» في ترجمتها العربية، للكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا، وبشعر أنسي الحاج، والسبب الآخر هو خوفي من النقاد الذين كانوا يترصّدون كتابات المرأة لاعتقادهم بأن هناك كتاباً واحداً فقط داخل كل أنثى، وما أن تدلق تجربتها الشخصية على الورق حتى يجف قلمها. لذلك خطر لي أن أُقحم نفسي في «فرس الشيطان» وأصبح بطلة الرواية، من دون أن يرّف لي جفن. لكن البطلة تركتني بعد صفحات قليلة، أرادت لنفسها حياة أخرى، رغم أن معاناتها هي معاناتي. أخذت أكتب من دون استعارة أسلوب كاتب معين أو التأثر بأحد، بل كأن موضوعي هو الذي خلق الإيقاع والاسلوب وصوت الرواي.
في روايتي الثالثة «حكاية زهرة» وجدتني وأنا أكتبها في غرفة يعشش فيها صقيع لندن، أتعرى من كل شيء ـ تماماً كما تعرّت الحرب من حبّها لنا، وكما حمّلت أبناءها سلاح الدمار. حوّلت قلمي الى حفّارة دخلت قلبي مع كل نفسٍ قمت بشهقة وخرجت محملة بتراب وشرايين داخلي ترشق الورق بلغة بسيطة، متمكنة، عامية، سلِسة، ركيكة، حنونة، تدلق الشجن والغضب. فبطلة «حكاية زهرة» لم تعش في الذات والقلق الوجودي، كما في روايتي الأولى «انتحار رجل ميت» بل عاشت في بئرٍ من الشكوك والحروب النفسية ومحاولة النجاة بجلدها رغم عنف القوانين التي سنّها المجتمعة والتقاليد، ليصبح دور عائلتها هو دور الجلاّد. وما أن دبّت الحرب الاهلية، حتى استنجدتُ بشخصية القناص من أجل توطيد حبكة الرواية وتكثيفها إزاء أهوال العنف.
السنين تمّر، وروايات وقصص قصيرة تُكتب، صياغة مواضيعها تتبدّل كتبدّل الفصول، والكاتب يحاول التمثل بوعي ناضج ما يشمه ويلمسه ويتذوقه ويتنفسه من أجل ترعرع الشخصيات وتطورها، فتُسّر لنا بما لا نعرفه فنتعلمه أو تؤكد لنا ما كنا نلّم به فنوافق وكأننا أصبحنا أبطال الرواية أنفسهم.
وكم أنا ممتنة لأني لبستُ قفازين وأنا أكتب «انتحار رجل ميت» لإحساسي بالرهبة والخوف من الكتابة، كطفل يحبّ الحلوى، لكن ما أن رأى نفسه أمام جبل من السكاكر حتى تردد في أن يمدّ إصبعه ويلحس لحسته الأولى.
عندما انتهيت من إعادة قراءة كتابي الاول، شعرت بالحنين الى الماضي، الى البدايات، وأنا أتلمس طريقي وطريق غيري، طريقنا جميعاً، عندما آمنت ان اللغة هي أوكسجين النفس، وتعلقي بها كتعلق الغريق بقشة النجاة، حتى لو لم يؤدِّ الوصف الى معنى، فلربما كانت جماليته كامنة في عبثيته.
كتابي الاول «انتحار رجل ميت» هو العصا التي اتكأت عليها من أجل حفظ توازني، هو العربة التي أتاحت لي الانتقال من مرحلة الى أخرى، من تجربة الى أخرى، ومن راوية الى أخرى.

ـــــــــــــ

في روايتي الأولى كتبت عن واقع لا نعيشه بل نتمنى أن نعيشه في أجواء المذهب الوجودي*