في خضم عذابات وآلام الشقاق الطائفي التي ما برحت تعصف بالعراق، تكثر الأسئلة عن أسباب وجذور وآليات اشتغال هذا الشقاق وآثاره التشويهية في الاجتماع السياسي العراقي والعلائق بين أطياف ومكونات المجتمع العراقي. لكن رغم تزاحم هذه الأسئلة، إلا أنّ الأبحاث والدراسات التي تقدم إجابات تتفادى مطبات التبسيط وتقوم على منهجية تستلهم روح التقصي والتحقق والتنقيب العلمي، تظل قليلة ولا تشفي غليل الباحث المتعطش إلى تحليل موضوعي مُعمَّق لأسباب هذا الداء الذي أطلق على العراق والمنطقة عموماً مواسم جحيم لاهبة.
من هنا، فإن كتاب الباحث والكاتب خليل فضل عثمان «الطائفية في العراق: صناعة الدولة والأمة منذ العام 1920» الذي صدر باللغة الإنكليزية أخيراً عن دار «راوتليدج» البريطانية، يكتسي أهمية خاصة. يوظف الكاتب العراقي منهجيات البحث العلمي لنبش الجذور المتشعبة لظاهرة الطائفية السياسية في العراق وتشابك هذه الظاهرة وتداخلها مع عملية وضع أركان مؤسسات الدولة العراقية الحديثة المتواصلة منذ نحو تسعة عقود. يرى عثمان أن «قولبة السياسة والحياة السياسية على أساس الولاء الطائفي كانت أثراً غير مقصود للمشروع الاندماجي للدولة الحديثة» (ص.: 2).
ويلمس القارئ في صفحات الكتاب قلق المفكر وحيرة الباحث عن المعرفة، وهما يستبدان بالدكتور عثمان الذي يعكف بحس علمي دقيق ورصانة بحثية نقدية على الإجابة على أسئلة بحثية عدة لـ»تفسير ديمومة الطائفية في العراق على الرغم من وجود انتلجنتسيا علمانية قوية وشعب على قدر عال من التعليم» (ص.: 2)، فضلاً عن فهم تشابك وتداخل الظاهرة الطائفية مع مسار تشكيل الدولة الحديثة في العراق، وآثار ذلك على نسيج وأنساق العلاقات بين الدولة والمجتمع وعلى الاصطفافات بين المكونات الطائفية.
ويعود الباحث بنا في الفصول الاستهلالية لكتابه إلى البدايات التاريخية للشرخ الطائفي بين السنة والشيعة، وتطور هذا الشرخ في سياق تكشُّف تاريخ العراق فصولاً في العصور الإسلامية المتلاحقة وصولاً إلى فشل الدولة الحديثة منذ تأسيسها في إدارة التعدد الطائفي والعرقي. ويرى عثمان أن التركيز الانتقائي للجماعات الطائفية على بعض أوجه هذا التاريخ يغذي الطائفية لأنه يوفر «خزيناً من الصور المتوارثة» حول الذات والآخر لدى الجماعتين تضج «بالعواطف، والانفعالات، والأحزان، والآلام، والمظالم، والخيبات، والخيانات» (ص.: 91).

يعكف على تفكيك السرديات التاريخية التي اعتُمِدَت في المناهج التعليمية

وينتقل بنا بعد ذلك إلى تحليل التركيبة الطائفية والعرقية للنخب السياسية التي حكمت العراق الحديث، مقدماً تحليلاً معمقاً ومبتكراً لتركز مقاليد السلطة والقرار السياسي في أيدي العرب السنّة حتى عام 2003 وكيف فاقمت هذه الهيمنة من عزلة الدولة عن المجتمع.
وينبري عثمان بعد ذلك إلى توسيع مروحة التحليل لتشمل حقبة ما بعد عملية «تغيير النظام» التي قادتها الولايات المتحدة عام 2003. ويستكشف هنا ليس فقط أسس وآليات اشتغال نظام المحاصصة الطائفية وتركيبة النخبة السياسية الجديدة، التي تمتع فيها الشيعة بحصة الأسد في قمة هرم السلطة، وإنما يَشرَح أيضا آليات الاقصاء والتضمين في السلطة وعملية صناعة القرار السياسي عبر إلقاء نظرة فاحصة على تحول إجراءات اجتثاث البعث، التي سُنَّت لمنع كبار البعثيين من تولي مناصب عامة، إلى أداة لتقييد وصول السنّة العرب إلى مواقع في أجهزة الدولة. كما يوضح كيف أدت التشوهات البنيوية في النظام الانتخابي الجديد إلى توسيع الشقة وتأجيج الشقاق بين المكونات الطائفية في العراق وإضافة «لبنة أخرى في صرح عملية مأسسة سياسات الهوية» (ص.: 159).
ولما كان التعليم في نظر بعض علماء ومنظري التنمية السياسية أداة لتحقيق التجانس في مجتمع متنوع، فإنّ عثمان يعكف على تفكيك السرديات التاريخية التي اعتُمِدَت في المناهج التعليمية في العراق ليوضح كيف أنها أحيت وغذت الإرث العصبوي الطائفي. ويتقصى كيف ساهمت هيمنة مفردات الخطاب السني العربي على المناهج الدراسية في فترة ما قبل 2003 وسيادة الرواية التاريخية الشيعية في مناهج ما بعد عام 2003 في تحفيز مقاومة ثقافية مُقنّعة تجسدت في «خطاب مضاد» ساهم في إيقاظ الوعي الطائفي وتغذية وتطور حالات فصام في الذات الجمعية العراقية.
ولا يغفل عثمان دور الأساطير الإيديولوجية في صياغة رؤى للهوية الجمعية في العراق متشاحنة في أحيان كثيرة على أساس خطوط تماس طائفية. ويشرّح في السياق الخطاب العروبي الذي قدم للدولة العراقية التي أُسست في أعقاب الحرب العالمية الأولى صرحاً إيديولوجياً تستند إليه، مظهراً الدور الذي لعبه التوظيف السياسي لمفاهيم من قبيل مفهوم «الشعوبية» في التمويه على اتجاهات طائفية مُضمَرَة ساهمت في زرع بذور انعدام الثقة بين الجماعات الأهلية الطائفية. ويستقصي الكاتب انزلاق العراق بعد عام 2003 إلى مهاوي سرديات المظلومية التي أججت الجدل المحموم حول تشكيل أقاليم فدرالية وغذت التخندق في غيتوات الهوية الفرعية الطائفية.
والكتاب الذي صدر بلغة إنكليزية، يتميز بالدقة في انتقاء العبارات والبلاغة في سبك الجمل. يفيض تحسساً بمواجع وآلام وأحزان الجسد العراقي المثخن بجراح الشقاق الأهلي الطائفي. ومثل هذا التحسس لا يصدر إلا عن معايشة لصيقة لتراجيديا الواقع السياسي العراقي، إذ سبق للكاتب أن عمل لسنوات طويلة في العراق وفي متابعة ورصد تطورات المشهد العراقي. من هنا، فإنه لا يمكن للقارئ إلا أن يتوقف ملياً عند ما خلص إليه خليل عثمان من خلال بحثه المستند إلى رصانة علمية من أن «عملية الاندماج الوطني في العراق بنت دولة ولكنها فشلت في بناء أمة « (ص.: 277).