«ليس أمامنا سوى أن نقاوم أو ننتظر الإبادة».من خطبة تكومسه (زعيم المقاومة الهندية في أوائل القرن 19).

ربما يمكن تصنيف «دولة فلسطينية للهنود الحمر» (دار الريس) للباحث السوري منير العكش واحداً من أقسى الكتب الصادرة حديثاً. رغم ذلك، فإنّ النقاش في حقيقيته ودقته لا يمكن المساس بهما. الكتاب الذي يدمج بين عالمين بعيدين زمنياً، لكنهما يتقاربان بفعل المعطيات المباشرة مدهشٌ للغاية: إنها حالة التناغم المأساوي بين شعبين أصليين: العربي الفلسطيني في فلسطين مقابل المواطن الأصلي المسمى اعتباطاً «هندي» في ما سيسمى لاحقاً «الولايات المتحدة الأميركية». عبر فصوله السبعة، يغوص الكتاب في تلك الملحمة الدموية الصاخبة: شعبان يرفضان الموت أمام محدلة تقتلع وتقتل بلا هوادة، وفوق كل هذا تغطي الماكينة الإعلامية ما يحدث في مزجٍ سيريالي بين الديني والدنيوي لإنتاج حالةٍ أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة الواقعية المعاشة.

تحكي الحكاية أنَّ محتلاً أتى إلى بلادٍ لا يمتلك فيها «ذرة حق» ليصبح مالكاً لها، طارداً لشعبها، قاتلاً له، وفوق كل هذا «صاحب الحق» الأول والأخير فيها وبمقدراتها. قد يبدو هذا فيلماً هوليوودياً يتحدث عن «الشر المطلق» الذي سيتصدى له (بطبيعة الحال في الفيلم) بطلٌ معين، لكن ماذا لو كان هذا البطل «هندياً» (أو عربياً فلسطينياً)؟ ستصبح الحكايةُ شيئاً آخر. سيلبس الهندي قناع «التخلّف» و»الجهل»، وسيصبح طبيعياً أن يتحوّل «الشر» إلى وجه الحقيقة والطيبة القادم لإحقاق الحق.
يتناول العكش سيرة «موسى» الولايات المتحدة: «نبي القتل» جورج واشنطن. هو يأخذ التشبيه الذي استعمل في «أدبيات» تلك المرحلة التي تسم واشنطن مؤسس الولايات المتحدة الحالي. «مالك العبيد» (تشير الوثائق إلى أنه كان يمتلك أكثر من 123 عبداً، وكان معظم أسنانه في أواخر حياته مقتلعة من عبيده وهم أحياء كي يستخدمها للوك طعامه) والقاتل الديني (شعارات حملاته على الهنود: «أزيلوا كلاب جهنم هؤلاء من على وجه الأرض») كان يطبق وصية توراتية حرفية وفق ما كان يؤمن: «أبد سكان أرض كنعان ولا تشفق عليهم.

الجنرال جورج روجرز كلارك قطع وحده 73 فروة رأس في حملته على هنود «الشاوني»
اقطع حناجرهم، اذبحهم جميعاً رجالاً ونساءً وشيوخاً، وأطفالاً وبهائم، ليتمجد الرب بذلك». فوق كل هذا، كان «الرئيس المؤسس» كاذباً بشدة. يتضح هذا الكذب من خلال عدد الاتفاقيات التي وقعها مع الهنود الأصليين بهدف تحييدهم عن الصراع مع غيرهم من الهنود، أو حتى إشراكهم فيه ثم قتلهم لاحقاً، كما حدث مع الزعيم وايت آيز (من شعب الدولاوير الذي سمّم بالجدري بعد أسبوعين فقط من توقيع المعاهدة معه، رغم أنه كان من أبرز المؤيدين لتلك الاتفاقيات).
لكن الحكاية لم تبدأ عند واشنطن، بل تغوص وصولاً إلى وصول أوائل «الطهرانيين» (Puritans) الذين قدموا من بريطانيا إلى بلادٍ «ليس فيها أحد» أو هكذا اعتقدوا (أو أرادوا أن يقتنعوا)، مع العلم بأنَّ تعداد الهنود الحمر آنذاك كان بين 30 و80 مليون نسمة (بحسب التقديرات)، فكيف يمكن أن «تختفي» تلك الأعداد المهولة من البشر خلال أقل من 50 عاماً؟ كي نفهم ذلك، يمكننا العودة إلى 50 عاماً في تاريخ الشعب الفلسطيني كي ندرك أنَّ ما حدث في الولايات المتحدة كان «بروفة» بشكلٍ أو بآخر لما سيعاد تطبيقه «بحذافيره» في فلسطين من قبل الصهاينة. استخدم المستوطنون الإنكليز (الأميركيون اسماً لاحقاً) كل أساليب «الطرد/القتل» المتخيلة وغير المتخيلة: كانوا مثلاً يرسلون رجالاً يحملون هدايا بسيطة إلى تلك القبائل المسالمة. كانت تلك الهدايا تحمل أمراضاً وأوبئة حقيقية، فقتلوا بواسطة أول «حربٍ» بيولوجية حقيقية ملايين من الأبرياء.
كل ذلك ارتكز إلى «خزعبلات» وأكاذيب دينية من قبيل تلك التي كان يرددها روبرت جونسون (من شركة «فيرجينيا» التي أسست الولاية الشهيرة لاحقاً، وهو أشهر وعاظها ودجاليها في آنٍ): «ما دام الهنود متوحشين لا يؤمنون بالمسيح ولا يعرفون المدنية، عليهم أن يقبلوا باستعمار الإنكليز لأراضيهم، ويسمحوا لهم بأن يروضوهم ويمدنوهم. أما الذين ينكرون منهم على الإنكليز هذا الحق، فإنهم إنما يتبعون خطوات الشيطان، ولا جدال في أن للإنكليز الحق في أن يغزوا هؤلاء البهائم السائبة ويضعوا السيوف في رقابهم»، أو مثلاً: «إن على مستعمري فيرجينيا أن يصدعوا لأمر الله ويبيدوا هؤلاء الوثنيين». وكان الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632 - 1704) في رسالته عن «التسامح» أميركياً حقيقياً حين قال مبرراً إبادة الشعوب الهندية بأن أرض الميعاد هي «مملكة الله»، ووجود الوثنيين فيها هو خيانةٌ عظمى لله نفسه. كان الهنود يتعرضون لكل ما تعنيه كلمة «توحشٍ» من معنى: الجنرال جورج روجرز كلارك (أحد أقرب القادة إلى قلب واشنطن) ورجاله كانوا يتباهون بعدد «فروات» رؤوس الهنود التي يعلقونها على خصرهم، وتشير سجلات المكتبة التاريخية لولاية إلينوي إلى أن كلارك قطع وحده 73 فروة رأس في حملته على هنود «الشاوني».
وكما قيل إنَّ الشعوب الهندية (لا القبائل التي تحمل إهانة مقصودة وتقليصاً للحجم الحقيقي والوجود الفعلي لتلك الشعوب) كانوا «همجاً» رعاعاً، لا يمتلكون حضارة، ولا يمارسون سلوكاً «إنسانياً» واضحاً، قالت رئيسة وزراء العدو غولدا مائير يوماً بأن «فلسطين هي أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض». لكن القاسم المشترك الأكبر بين فلسطين المحتلة وأميركا المحتلة كان أمراً غريباً: «أرض كنعان»، ففلسطين معروفة تاريخياً بأنها أرض كنعان. في المقابل، فإنّ إحدى أمقت الشخصيات التاريخية للهنود، المبشر والكاهن إسحاق مكوي (كان يلقب نفسه بـ»صديق الهنود») الذي قضى أكثر من 20 عاماً من حياته في «تسويق» فكرة «الدولة الهندية» المستقلة (ألا تذكرنا بدولة فلسطين المستقلة؟)، أعطاها اسماً استقاه من العهدين القديم والحديث: إنها أرض كنعان. حتى إنّ الأرض نفسها كانت عند مكوي «أرض إسرائيل الجديدة». المشترك أكثر أن الشعوب «البريطانية» المحتلة كانت شعب الله المختار. أما الأرض نفسها، فقد كانت هديةً من الله مكتوبة لهم.
أما شعبها، فليس هناك من شعبٍ أصلي، ومن «كان هناك» من أفرادٍ متناثرين، فالأرجح «وضعهم» في محمياتٍ طبيعية بعيدة عن «الأراضي» المقدسة للدولة الأميركية (في دولةٍ أقرت شرق نهر الميسيسيبي وعلى ضفاف ماريه ديسين، وهي أرضٌ ليس لأميركا أي حق فيها، بل إنها ملك لهنود الأوساج).
كل هذا حدث بالفعل على أيام ثلاثة رؤساء أميركيين جيمس مونرو، جون آدامز، وأندرو جاكسون. كان جورج واشنطن قد أعطى الهنود وعداً بإقامة دولةٍ خاصةٍ بهم ضمن اتفاقية معهد «فورت بيت» عام 1778. لكن ذلك لم يحدث، ولم تقم هذه الدولة أبداً.
جاكسون التقم الفكرة وقرر أن يجر من بقي من الهنود الحمر ناحية «الترانسفير» (شبيهة بفكرة الترانسفير التي يبشر بها وزير الخارجية الصهيوني ديفيد ليبرمان): «انقلوا الهنود ناحية دولةٍ تاريخية/ أبدية لهم». كانت كلمات جاكسون على الشكل التالي: «لقد خصص لهم وطناً إلى الغرب من ميسوري وأركنساس؛ وطنٌ لا تقتحمه مستوطنات البيض ولا تقام فيه كيانات سياسية غير الكيان الذي يقيمه الهنود لأنفسهم».
كان جون كالهون نائب الرئيس جاكسون «عراب» تلك المرحلة (بالإضافة إلى مكوي بالتأكيد) فهو كان يجيد لعبة «العصا والجزرة» مع الهنود. هو كان وزير الحرب في السابق لرئيسه، وصاحب منطق «تمدين الهنود» الشهير. كان هذا المنطق مسؤولاً عن تهجير وقتل وتشريد مئات الآلاف من الهنود (إن لم نقل ملاييناً)، فضلاً عن كتيبه ذي العنوان بليغ الأثر (والوقاحة في آنٍ): «ملاحظات إجرائية حول الإصلاح الهندي: كيف يتقبلون استعمارهم بسرور»، مؤكداً أن «الخطة الإجرائية الوحيدة لإصلاح الهنود هي استعمارهم» وهو تقريباً التعبير نفسه الذي استعمله رئيس الوزراء الصهيوني بن غوريون حين قال: «لا يوجد حل إصلاحي إلا الاستعمار الكامل لكل فلسطين».
هذه الدولة التي نروي قصتها (أي دولة كنعان الهندية) لم تطبق على أرض الواقع كما نعلم. ذلك أنه لم تكن هي مشروع دولة البتة، بل كان المقصود فيها، دفع هؤلاء الهنود إلى «التصارع» مع القبائل الهندية التي تسكن تلك الأرض. وبعد أن يستتبوا فيها ويسكنوها، تأتي «حملات التمدين» (شبيهة بنشر الديمقراطية اللاحقة في أفغانستان والعراق)، لتنتشر لاحقاً «المستوطنات» الأميركية «البيضاء». ثم تصبح الأرض شيئاً فشيئاً ملكاً لحكومة الولايات المتحدة التي بدورها ستطلب من الهنود ترك هذه الأرض لنقلهم إلى وطنٍ «بديل» تاريخي هو الآخر حتى تحين لحظة «فنائهم» النهائية. أخبر المفوض إدوين جيمس (من وزارة الحرب الأميركية) مكوي نفسه عن مشروع «الوطن البديل»: «إنه مشروعٌ طوباوي.
لأن زوال الهنود أمرٌ حتمي، وكل ما نستطيع أن نفعله لهم هو أن نحفر لهم قبوراً». كل هذا «القتل» و»الدموية» لم يمنعا «تأليه» جورج واشنطن لاحقاً بدءاً من رسمه على شكل ملاك (لوحة للفنان دافيد ادوين عام 1800 مثالاً، إلى تسمية العاصمة الأميركية باسمه، ووضع صورته على أوراق النقد، ووسمه بأنه أبي الجمهورية وسواها...). لكن تأليه واشنطن ليس كافياً. لقد تم «مسح» التاريخ هذا بكامله، وتم تذويبه على أساس أنه لم يكن حقاً. هذا العنف الديني/ المقدّس كان مزيجاً من حاجة أساسية لإقامة أميركا كما هي اليوم.
كتابٌ منير العكش يعري الولايات المتحدة إلى أقصى حد، لا يترك ستراً للديمقراطية المزيفة القائمة على الموت والدمار إلا ويكشفه، بالوثائق والأدلة والبراهين المستقاة من المصادر الأميركية نفسها، وبالتأكيد يستحق القراءة وإعادة القراءة أكثر من مرة.