ما يحصل في فرنسا يمثّل نموذجاً للتحوّل المفروض على أوروبا التي ما زالت تحتفظ ببعض القيم غير الرأسمالية في أنظمة التقديمات الاجتماعية. عملياً، ما يحدث هو استكمال للأجندة النيوليبرالية الماكرونية، التي يُعرف بها الرئيس الفرنسي. هي الأجندة نفسها التي فرضته في مصرف روتشيلد في عام 2008 بلا خبرة سابقة، إذ حصل على توصية من مرشديه النافذين، بصفته «دانسور موندين» التي تعني حرفياً: راقص من المجتمع الراقي. ذلك لأن بإمكانه حشد الأعمال، بحسب «وول ستريت جورنال». وهو لم يخفِ أجندته، ففي تلك السنة، وتحديداً قبل أن تحصل الأزمة المالية العالمية، أعدّ تقريراً للرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، ينصح فيه بتنفيذ «مجموعة من الإصلاحات النيوليبرالية» بحسب صحيفة جاكوبان. أفكار ماكرون وخلفيّته رسمت سياقاً واضحاً لعمله السياسي والنوايا التي تقف خلف قراراته الأخيرة برفع سن التقاعد من 62 سنة إلى 64 سنة، متذرّعاً بأن الإنفاق على الصحة والتعليم وسائر الخدمات الحكومية أصبح مكلفاً على الخزينة الفرنسية.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره


أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ورغم أن خفض الإنفاق على المعاشات التقاعدية من خلال خفض قيمة المعاشات نفسها، هي استراتيجية غير مضمونة النتائج لأنه على المدى الطويل سيزداد عدد المتقاعدين بسبب الواقع الديموغرافي في فرنسا، إلا أن الفكر النيوليبرالي ينظر إلى الأمر بشكل مختلف: المهم وقف الكلفة بمعزل عن الفئات التي ستصيبها النتائج. بحسب تقديرات «المجلس الاستشاري للمعاشات التقاعدية»، فإن إنتاجية العمل في فرنسا ستتباطأ في المستقبل، ما يعني أن حصّة المعاشات التقاعدية من الاقتصاد ستصبح أعلى. هذا مسار سيئ وفق المنظور النيوليبرالي، وهو ما دفع ماكرون إلى الإشارة بأن نظام التقاعد مهدّد باستدامته لأن عدد الكبار في السنّ في فرنسا بات يفوق عدد الشباب الذين «يعملون». لذا، يقترح، خفض المعاشات التقاعدية الفردية بشكل كبير عبر رفع سن التقاعد. لأن ذلك من شأنه أن يمنع عدداً كبيراً من العاملين في القطاع العام من مراكمة عدد سنوات الاشتراك المطلوبة للحصول على معاش تقاعدي كامل.
يبرّر ماكرون طروحاته بالتحوّلات الديموغرافية في المجتمع الفرنسي. فقد ازداد متوسط العمر المتوقع، وهو ما يعني أن المتقاعدين سيستفيدون من نظام التقاعد لمدّة أطول. وهذا بدوره سينعكس في زيادة كلفة الفرد في النظام. كذلك، سيزداد عدد كبار السن في المجتمع لأن متوسط العمر المتوقع يرتفع، ولأن معدل الولادات هو في انخفاض تاريخي منذ عقود. وهذا يعني، بالنسبة إلى ماكرون، عدداً أقلّ من الداخلين الجدد إلى سوق العمل الذين يغذّون نظام التقاعد باشتراكاتهم، وعدداً أكبر من المتقاعدين المستفيدين من النظام.

بالأرقام

13 مليار دولار هو حجم العجز السنوي المتوقّع في ميزانية نظام التقاعد الفرنسي بحلول عام 2027 بحسب وزير العمل الفرنسي أوليفييه دوسوبت،وهو رقم لا يزيد عن 0.44% من الناتج المحلّي الفرنسي
1200 يورو هو متوسط معاشات التقاعد الشهرية في فرنسا


تمكّن ماكرون من تجنيد الإعلام للدفاع عن مشروع تفكيك نظام التقاعد، متغافلين عن أن سنوات الجائحة تركت أثراً سلبياً واسعاً على متوسط العمر المتوقع الذي بات على مسار انخفاضي، والمجتمع الفرنسي ليس استثناءً عن ذلك. إن سحب منافع النظام التقاعدي من كبار السن عبر تمديد فترة عملهم في سياق معاناة الأنظمة الصحية، يؤدي حتماً إلى انخفاض متوسط العمر المتوقع. وبحسب الاقتصادي مايكل رورتس، هناك بُعد آخر لهذا الأمر يشكل أوروبا كلهّا. إذ هناك تفاوت هائل في متوسط العمر المتوقع بين ذوي الدخل المنخفض من المتقاعدين الذين يعتمدون كلياً على معاشات الدولة التقاعدية، وبين الأثرياء الذين لديهم معاشات تقاعدية إضافية. فعلى سبيل المثال، هناك ثماني سنوات تفصل بين متوسط العمر المتوقع للمتقاعدين الذين يعيشون في أجزاء حصرية من لندن مثل كينسينغتون وتشيلسي، وبين أولئك الذين يعيشون في غلاسكو. قد يعيش رجل يبلغ من العمر 60 عاماً في المدينة الاسكتلندية 19 عاماً إضافية. أما بالنسبة إلى الذي يعيش في لندن، فعدد السنوات الإضافية المتوقع أن يعيشها يرتفع إلى 27 عاماً. بشكل عام، إن من يعتمدون على أنظمة التقاعد يكون العمر المتوقع لديهم أقل من الأشخاص الذين لا يعتمدون على أنظمة تقاعد الدولة. هكذا تسقط حجّة ماكرون لجهة ارتفاع معدّل العمر المتوقع.
أما بالنسبة إلى عجز الموازنة الذي يسببه نظام التقاعد، فهو ضئيل جداً. فما ستوفّره الحكومة الفرنسية لا يتعدّى 0.5% من الناتج المحلّي، أي ما بين (10 مليارات و12 مليار يورو)، بحسب مقال كتبه جان ماري هاريبي وبيير خلفا وكريستيان مارتي في صحيفة «contretemp» الفرنسية. وهو أيضاً رقم صغير جداً، مقارنة بكلفة الإجراءات التي اتخذت استجابة لجائحة كورونا، والتي بلغت 165 مليار يورو بحسب أرقام مايكل روبرتس، واستجابة الحكومة لصدمة أسعار الطاقة الأخيرة والتي بلغت نحو 100 مليار يورو، بالإضافة إلى التزامات الرئيس ماكرون بالاستثمار بشكل أكبر في الطاقة النووية (50 مليار يورو)، والإنفاق العسكري (100 مليار يورو بحلول عام 2030).
إذاً، لا تعدّ استدامة نظام التقاعد أمراً طارئاً يستوجب حلاً سريعاً طالما أن الحكومة الفرنسية أنفقت في السنوات الأخيرة أموالاً طائلة رتّبت ديوناً كبيرة على الخزينة وارتفاعاً في خدمة الدين. رغم ذلك، يحاول أتباع ماكرون والنيوليبرالية فرض المفاضلة بين خيارات محدودة: معاشات تقاعدية جيدة، أو خدمة صحية جيدة، أو نظام تعليمي جيد. ثمة مقاربة أخرى يطرحها الاقتصادي مايكل روبرتس، من خلال أن يكون الحلّ بالتنمية الاقتصادية المستدامة، أي التنمية الحقيقية. يقول إن تحقيق ارتفاع مستمرّ بنسبة 1% فقط في متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الاقتصادات الكبرى يوفر عائدات إضافية كافية للحكومات للحفاظ بسهولة على مستويات المعاشات التقاعدية الحالية وشروطها. لكن الحكومة الفرنسية، ومعها الحكومات الأوروبية الأخرى تأخذ منحى آخر، وهو المنحى الأسهل الذي يحمّل الطبقات العاملة كلفة خفض إنفاق الحكومة.

لا تعدّ استدامة نظام التقاعد أمراً طارئاً يستوجب حلاً سريعاً طالما أن الحكومة الفرنسية أنفقت في السنوات الأخيرة أموالاً طائلة رتّبت ديوناً كبيرة على الخزينة


عملياً، اختار ماكرون تطبيق أجندته النيوليبرالية لخفض الإنفاق الحكومي، من خلال التخلّص من التقديمات الاجتماعية. واللافت أن هذه الأجندة تطبّق بشكل يمسّ فقط بمصالح الطبقات العاملة. فعندما يتعلّق الأمر بتضرّر مصالح الشركات ورجال الأعمال، كما كانت الحال خلال جائحة كورونا، لم يكن لديه مانع من تدخّل الدولة بشكل مباشر عبر تقديم الأموال المجانية التي صبّت في جيوب هؤلاء، والدليل على ذلك هو حجم ارتفاع ثروة أصحاب المليارات، الذي نتج من ضخّ الدول الغربية للأموال خلال جائحة كورونا.
ما يحدث في فرنسا هو تجسيد للواقع الحقيقي للنيوليبرالية، التي كانت مؤسّساتها تفرض أجندتها على الدول الفقيرة كشروط لتقديم القروض لها، فيما لم تُطبّق على الدول الرأسمالية الكبرى. وها هي اليوم، في الدول الغربية، تُطبّق على الطبقات الأضعف، في حين عندما تُصبح مصلحة الرأسماليين الكبار في خطر، يُنسى أن هناك مبادئ نيوليبرالية يمكن تطبيقها.
--