في عام 2018، فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على البضائع الصينية بقيمة 50 مليار دولار ردّت عليها الصين بفرض تعريفات جمركية على البضائع الأميركية. وفي أيار 2019، رفعت الولايات المتحدة الرسوم الجمركية إلى 25%، ما دفع الصين إلى الانتقام بتعريفات خاصة بها. ثم تصاعد الموقف أكثر في 1 آب 2019 مع إعلان الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب، أن الولايات المتحدة ستفرض، اعتباراً من أول أيلول، رسوماً جمركية إضافية بنسبة 10% على البضائع الصينية التي تزيد قيمتها على 300 مليار دولار. بعد أربعة أيام، ردّت الصين بخفض قيمة عملتها، اليوان، إلى ما دون المستوى الرئيسي البالغ 7 يوان مقابل كل دولار أميركي، للمرة الأولى منذ أكثر من عقد. هذه الخطوة جعلت البضائع الصينية أرخص بالنسبة للمشترين الأجانب، ما عوّض بعضاً من تأثير الرسوم الجمركية الأميركية.كان يُنظر إلى خفض قيمة اليوان باعتباره تصعيداً كبيراً في الحرب التجارية، إذ أدّى إلى انخفاض حادّ في أسواق الأسهم العالمية. الولايات المتحدة اتّهمت الصين بالتلاعب بعملتها للحصول على ميزة تنافسيّة، وفي اليوم نفسه وصفت وزارة الخزانة الأميركية الصين، رسمياً، بأنها متلاعبة بالعملة. ورغم أن العديد من الاقتصاديين اعتبروا أن خفض قيمة العملة كان نتيجة طبيعية للحرب التجارية، إلا أن الأمر أثار القلق من ردّ فعل متسلسل لخفض قيمة العملة من قبل دول أخرى، أي انطلاق حرب عملة عالمية.

حروب العملات تاريخياً
بحسب الاقتصادي جايمس ريكاردز فإن «حروب العملات هي أكثر الأحداث تدميراً وخوفاً في الاقتصاد الدولي. إن البدء بحروب عملات هي اعتراف بأن الدول فشلت في التغلب على المشكلات الاقتصادية بالوسائل التقليدية». ويُستخدم مصطلح «حروب العملات» لوصف ظاهرة تقوم فيها الدول بخفض قيمة عملاتها طواعية، لاكتساب ميزة تنافسية في التجارة العالمية. فمن خلال هذا الخفض تصبح صادراتها أرخص في السوق العالمية، ووارداتها أغلى في السوق المحلية، كما تجذب الاستثمار الأجنبي إلى البلاد. ببساطة، إنها لعبة تكون محصّلتها ربح دولة على حساب دولة أخرى.
ومع أن مفهوم حرب العملات كان موجوداً منذ قرون، إلا أنه اكتسب شهرة في القرن الحادي والعشرين بسبب العولمة وزيادة التجارة بين الدول. يمكن إرجاع أصول حروب العملات إلى ما بعد انهيار نظام بريتون وودز، الذي تأسّس في أعقاب الحرب العالمية الثانية. بموجب هذا النظام، وافقت الدول على ربط عملاتها بالدولار الأميركي، والذي كان بدوره مرتبطاً بالذهب. عمل النظام بشكل جيد حتى الستينيات حين بدأت الولايات المتحدة تعاني من عجز تجاري كبير استنزف احتياطاتها من الذهب. وفي عام 1971 انهار النظام عندما أنهت الحكومة الأميركية من جانب واحد قابلية تحويل الدولار إلى الذهب بسعر ثابت، ما أدّى إلى تحوّل عالمي نحو نظام سعر الصرف العائم، وظهور حقبة جديدة من المنافسة في العملات.
وهنا لا بد من الإشارة إلى ثلاثة أنظمة أساسية تعتمدها الدول لتحديد قيمة عملاتها مقارنة بالعملات الأخرى، وهي: ثابت، عائم، ومُدار. فبموجب نظام سعر الصرف الثابت، يحدّد البنك المركزي للدولة سعر العملة الوطنية نسبة إلى عملة أخرى أو سلّة عملات، ويتدخّل المركزي في سوق الصرف الأجنبي، عند الحاجة، للحفاظ على هذا السعر عند مستوى ثابت عن طريق شراء أو بيع عملته. يوفّر هذا النظام الاستقرار في المعاملات الدولية ويسهّل على الشركات إجراء التجارة الدولية. ومع ذلك، فإن الحفاظ على سعر صرف ثابت يتطلّب أن يكون لدى الدولة احتياط كبير من العملات الأجنبية، الأمر الذي قد يكون صعباً على الاقتصادات الأصغر مثل لبنان. وهذا بعكس نظام سعر الصرف العائم الذي تعتمده معظم الدول الصناعية، والذي يحدّد سعر الصرف من خلال قوى العرض والطلب في السوق. يوفّر نظام سعر الصرف العائم المرونة، ويسمح للعملة بالتكيّف مع التغيّرات الاقتصادية، كما يمكن أن يؤدّي أيضاً إلى تقلّبات في أسعار الصرف. أما النظام الثالث فهو مزيج من الأنظمة الثابتة والمتغيّرة، ويسمى نظام سعر الصرف المُدار، إذ تتدخل الحكومة في سوق الصرف الأجنبي لإدارة قيمة عملتها ضمن نطاق مستهدف أو لمنع التقلّبات الشديدة. هذا النظام تعتمده الصين حالياً وهو يوفّر بعض الاستقرار مع السماح بالمرونة في الاستجابة للتغيرات الاقتصادية.
أحد أشهر الأمثلة على حروب العملات التي حدثت في الثمانينيات، الحالة اليابانية. فقد كان الاقتصاد الياباني ينمو بسرعة، وأصبح مُصَدِّراً رئيسياً للسيارات والإلكترونيات والسلع المصنّعة الأخرى. ومع ذلك، كان يُنظر إلى «الينّ» بأن قيمته مبالغ فيها نسبة إلى العملات الأخرى، ما جعل الصادرات اليابانية أكثر كلفة وأقلّ تنافسية في الأسواق الدولية. عندها تدخّل البنك المركزي الياباني في أسواق الصرف الأجنبي لخفض قيمة الين. وشملت هذه الخطوة، بيع الينّ مقابل شراء كميات كبيرة من العملات الأجنبية، وتحديداً الدولار الأميركي. أدى ذلك إلى خفض قيمة الينّ بشكل فعّال ورفع حجم الصادرات اليابانية وصارت أسعارها معقولة وأكثر تنافسية. أثارت هذه الخطوة موجة من التدخّلات في العملة بخفض قيمتها من قبل دول أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين، وأسهمت في تقلب النظام المالي العالمي. ونتيجة لذلك، ضغطت الحكومة الأميركية على اليابان لرفع قيمة الينّ وتقليل فائض الميزان التجاري. وفي عام 1985، وافقت اليابان على اتفاقية «بلازا»، التي كان عبارة عن اتفاق مشترك بين خمس دول صناعية رئيسية بينها الولايات المتحدة واليابان. دعت الاتفاقية إلى خفض قيمة الدولار الأميركي مقابل العملات الأخرى وبينها الينّ الياباني، ما أدّى إلى زيادة كبيرة في قيمة الينّ مقابل الدولار، من نحو 240 ينّ لكل دولار في عام 1985، إلى نحو 150 ينّ لكل دولار في عام 1987.
ثمة مثال آخر على حروب العملات: أزمة الديون الأوروبية التي بدأت في أواخر عام 2009. يومها واجهت عدّة دول في منطقة اليورو صعوبات في خدمة ديونها السيادية، وكانت اليونان أول دولة تواجه الأزمة، ثم تلتها دول أخرى مثل إيرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا. عملت هذه الدول على تنفيذ تدابير التقشّف، التي شملت خفوضات في الإنفاق الحكومي، وزيادة الضرائب، وإصلاحات سوق العمل. ومع ذلك، أدّت هذه التدابير إلى تباطؤ في اقتصاداتهم، ما صعّب عليهم سداد ديونهم. لمعالجة الأزمة، تدخل البنك المركزي الأوروبي شارياً سندات هذه الدول، ما أسهم في خفض أكلاف الاقتراض. نتج من ذلك انخفاض في قيمة اليورو مقابل العملات الأخرى، ما جعل صادرات هذه الدول أكثر تنافسية. كردّ فعل مباشر على هذه الخطوة اتهمت دول مثل ألمانيا، البنك المركزي الأوروبي باعتماد سياسات أضعفت اليورو عمداً لمساعدة الاقتصادات الأضعف في جنوب أوروبا.

المستهلك يدفع الثمن دائماً
سلطت حروب العملات هذه، الضوء على إمكانية استخدام سياسات سعر الصرف كأداة للتنافسية الاقتصادية، والصراع بين الدول التي تسعى إلى معالجة أسعار الصرف لمصلحتها. فقد استخدمت الدول مجموعة متنوعة من التكتيكات، كالتلاعب بالعملة والتدخل عبر السياسات النقدية وخفض سعر الفائدة، وفرض ضوابط على رأس المال الأجنبي.
فمثلا، بعد الزلزال المدمر والتسونامي الذي حدث في اليابان عام 2011، تدخل بنك اليابان (BOJ) في سوق الصرف الأجنبي بزيادة المعروض من النقود عن طريق طباعة وبيع الين مقابل شراء عملات أجنبية. وذلك بهدف إضعاف الين الذي كان يرتفع قبل الزلزال ويهدد بإضعاف الاقتصاد الياباني الموجه للتصدير. ومن الوسائل الأكثر شهرة هي خفض سعر الفائدة للتأثير في قيمة العملة الوطنية ما يجعلها أقل جاذبية للمستثمرين الأجانب، مما يتسبب في انخفاض قيمتها. عند خفض سعر الفائدة سوف يصبح المواطنون أقلّ إقبالاً على المصارف مقابل ضخّ هذه الأموال في الاقتصاد، ما يؤدّي إلى زيادة حجم الأموال الموضوعة في التداول النقدي. في عام 2015، خفض البنك المركزي السويدي ريكسبانك (Riksbank)، سعر الفائدة الرئيسي إلى سالب 0.35% لتحفيز التضخم وتعزيز الاقتصاد. كان لهذه الخطوة أيضاً، تأثير في تقليل قيمة عملة الكرونا السويدية التي كانت ترتفع مقابل اليورو.
ومن السياسات المعتمدة أيضاً لخفض قيمة العملة، فرض الدول ضوابط على رأس المال الأجنبي. ففي عام 2011، كانت العملة البرازيلية، الريال، تشهد ارتفاعاً سريعاً مقابل الدولار الأميركي. ويرجع ذلك جزئياً إلى قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بتنفيذ جولة ثانية من التيسير الكمي (QE2) الذي أدّى إلى تدفق الدولارات الأميركية في النظام المالي العالمي. التيسير الكمي (Quantitative easing) هي أداة للسياسة النقدية تستخدمها البنوك المركزية لتحفيز الاقتصاد وخفض أسعار الفائدة. تتضمن هذه السياسة قيام البنك المركزي بشراء كميات كبيرة من الأصول المالية مثل السندات الحكومية والسندات الخاصة والأسهم من البنوك والشركات، من أجل زيادة كمية الأموال المتداولة في الاقتصاد. في هذا الوقت، كان جويدو مانتيجا، الذي شغل منصب وزير المالية البرازيلي من 2006 إلى 2014، قلقاً بشأن ارتفاع قيمة الريال البرازيلي وتأثيره السلبي في صادرات البلاد. لمواجهة ذلك، نفذت الحكومة البرازيلية سلسلة من الإجراءات لإضعاف الريال، بما في ذلك خفض أسعار الفائدة وفرض ضرائب على المشتريات الأجنبية للسندات البرازيلية ووضع قيود على كمية العملات الأجنبية التي يمكن أن تشتريها البنوك البرازيلية. وأيضاً، في سياق حروب العملات، تفرض الدول أحياناً تعريفات جمركية على الواردات، مما يجعل السلع الأجنبية أكثر تكلفة كما فعلت الولايات المتحدة والصين أخيراً.
تستخدم حروب العملات سياسات سعر الصرف كأدوات تنافس وصراع بين الدول


هذه التدابير ساعدت المُصَدرين من خلال جعل سلعهم أرخص في السوق العالمية، إلا أنه كانت لها عواقب سلبية على المستهلكين المحليين أيضاً. فقد أدّى انخفاض قيمة الريال البرازيلي إلى ارتفاع التضخّم وزيادة أسعار السلع المستوردة، كالإلكترونيات والسيارات. فقد ارتفع سعر السيارات المستوردة في البرازيل بأكثر من 50% خلال فترة عامين. كان لهذا تأثير حقيقي على حياة البرازيليين العاديين الذين كافحوا لشراء السلع الأساسية مثل الطعام والملابس مع استمرار ارتفاع الأسعار. إذ بلغ معدل التضخّم في البرازيل نحو 7% في عام 2011.
يمكن رؤية ذلك أيضاً في الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997. فقد شهدت العديد من الدول في آسيا، بما في ذلك تايلاند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا، نمواً اقتصادياً سريعاً مدفوعاً بالتدفقات الكبيرة لرأس المال الأجنبي. ومن أجل الحفاظ على القدرة التنافسية التصديرية، أبقت هذه الحكومات عملاتها منخفضة بشكل مصطنع، ما جذب تدفقات كبيرة من رأس المال الأجنبي. ومع ذلك، عندما تباطأت هذه التدفقات وبدأ المستثمرون يفقدون الثقة في استدامة هذه الاقتصادات، بدأت العملات في الانخفاض بسرعة، ما سبّب سلسلة من المشكلات الاقتصادية. كانت آثار الأزمة على حياة الناس مدمّرة. فقد أفلست العديد من الشركات، وارتفعت معدلات البطالة. كما أدّت الأزمة إلى زيادة حادّة في معدلات الفقر، لا سيما في إندونيسيا حيث ارتفع من 11% إلى 40% في غضون عامين فقط. تلا ذلك اضطرابات اجتماعية وانعدام الاستقرار السياسي، مع اندلاع الاحتجاجات وأعمال الشغب في عدة دول.
تعتبر الأزمة المالية الآسيوية لعام 1997 مثالاً صارخاً على وجود أثر حقيقي ودائم لحروب العملات على حياة الناس. ففي حين أن التلاعب بالعملة لاكتساب ميزة تنافسية يمكن أن يخلق مكاسب قصيرة الأجل لقطاعات معينة من الاقتصاد، إلا أنه غالباً ما يكون على حساب المستهلكين وأصحاب المصلحة الآخرين الذين قد يصارعون للتعامل مع الأسعار المرتفعة والقوة الشرائية المنخفضة. والتي قد تؤدي إلى عدم استقرار طويل الأمد واضطراب اجتماعي، لا سيما في الدول النامية حيث يتم الشعور بآثار التضخم والتقلب الاقتصادي بشكل أكثر حدة.

* أستاذ جامعي، مستشار مالي، محلل بيانات



الدول العربية خارج اللعبة
تصنّف الدول العربية خارج حروب العملات. هي تقف على النقيض تماماً، إذ إنها بحاجة أن تحافظ دائماً على سعر عملة مستقرّ أو قوي، لا خفضها. والميزان التجاري للدول العربية في عام 2019، يعبّر عن هذه المعادلة؛ فهذه المنطقة تسجّل بحسب بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية عجزاً تجارياً بقيمة 208 مليارات دولار، وهذا العجز يعني أن الدولة تستورد سلعاً أكثر مما تصدّر. الاستثناء من هذا هو دول مجلس التعاون الخليجي التي حقّقت فائضاً تجارياً قيمته 178 مليار دولار. ومع ذلك، يرجع هذا الفائض بحدّ كبير إلى صادراتها من النفط والغاز المقوّمة بالدولار، بالتالي فإن خفض قيمة عملاتها لن يوفّر فائدة كبيرة. أما في ما يتعلق بالصادرات العربية فهي تمثّل حصّة صغيرة من الصادرات العالمية وبلغت في عام 2019 نحو 1.2 تريليون دولار بحسب بيانات البنك الدولي، من بينها يقدّر أن هناك ما بين 300 مليار دولار و400 مليار دولار هي عبارة عن صادرات غير نفطية، أي ما لا يتجاوز 3% من قيمة الصادرات العالمية من دون النفط. وهذا يرجّح أن خفض قيمة عملاتها قد يؤدي إلى زيادة كلفة الواردات من دون تقديم فائدة كبيرة من حيث القدرة التنافسية للصادرات.
كما أن خفض عملة دولة ما لديها ديون مقوّمة بالعملة الأجنبية، كمعظم الدول العربية، يجعل من خدمة هذا الدين أكثر كلفة، وما يتبعه من تأثير سلبي على التصنيف الائتماني للبلاد ويجعل من الصعب على الحكومة اقتراض الأموال في المستقبل. لذلك، تضطر البنوك المركزية إلى التدخل في السوق عن طريق شراء عملتها الخاصة، لا العكس، وبيع احتياطيات العملات الأجنبية. مع أن هذا يمكن أن يساعد في دعم قيمة العملة ولكنه يؤدي أيضاً إلى انخفاض في الاحتياطيات الأجنبية.
في الواقع، إن أرقام الصادرات هذه صغيرة جداً مقارنة بمناطق أخرى من العالم. مثلاً، دولة كفيتنام التي كانت منذ ثلاثين سنة من أفقر دول العالم، تصدّر اليوم وحدها ما يقارب قيمة صادرات الدول العربية مجتمعة. بخاصة، إذا علمنا أن مساحة الدول العربية تشكل 9% من مساحة الأرض في العالم وعدد سكانها يمثل 6% من سكان العالم.