تتراكم المشاكل في أوروبا. فبعد المشاكل التي واجهتها صناعاتها بسبب أزمة الطاقة الناتجة من مشاركتها ضدّ روسيا في حرب أوكرانيا، ها هي الآن تقف أمام خطر يهدّد قطاعها المالي بالدخول في متاهة. فالقطاع المصرفي الأوروبي على موعد مع أزمتين مختلفتين بعضهما عن بعض مضموناً، ويمكن أن تجتمعا لتصبح المصيبة أكبر. فالأسواق المالية هناك شعرت بالخطر القادم من أزمة مصرف وادي السيليكون المنتقلة من أميركا إليها، ومن أزمة «كريدي سويس» الواقعة داخل البيت الأوروبي.
تراكم فقدان الثقة
يعدّ «كريدي سويس» من أكبر مصارف العالم. هو ثاني أكبر مصرف في سويسرا، ويملك أصولاً بلغت قيمتها 574 مليار دولار في نهاية 2022. بياناته المالية عن هذه الفترة تشير إلى أنه تكبّد خسائر بقيمة 7 مليارات دولار. التفسيرات تشير إلى أن المصرف تعرّض لضغط من الزبائن الذين عمدوا إلى سحب ودائعهم، وهذا أدّى إلى انخفاض كبير في الدخل المتأتّي من أقسام الثروة وإدارة الأصول وإدارة الاستثمار. وأتت الإشارة الثانية في الأسبوع الماضي، من تصريح رئيس البنك الأهلي السعودي، عمّار الخضيري الذي يمثّل الجهة التي تملك 10% من أسهم المصرف السويسري. كان الخضيري واضحاً حين أشار إلى أن البنك الأهلي لن يشارك في عملية دعم رأس مال المصرف. سريعاً، انخفض سعر سهم المصرف بنسبة 30%، وامتدّ الذعر إلى الأسواق المالية الأوروبية حيث انخفضت أسعار أسهم مجموعة كبيرة من المصارف العاملة في أوروبا. ورغم أن «كريدي سويس» حصل على قرض من المصرف المركزي السويسري بقيمة 54 مليار دولار، إلا أن السوق لم تقتنع بأنها خطوة تجعل المصرف السويسري ملاذاً آمناً باعتبار أن قرضاً كهذا قد يكون له انعكاس على السيولة، لكنه يحمل أولوية في السداد على غيره، ما يجعل أزمة المصرف مقلقة أكثر.


فقدان الثقة في «كريدي سويس» تراكم على مدى السنوات الماضية. ففي عام 2020، كان هذا المصرف جزءاً من فضيحة أظهرتها تحقيقات توصّلت إلى أن المصرف وظّف محقّقاً خاصاً للتجسّس على مدير وحدة إدارة الثروات لديه، وقد نتج من هذه الفضيحة استقالة المدير التنفيذي للمصرف. وفي السنة الماضية، أدان القضاء السويسري «كريدي سويس» بتهمة الفشل في منع حصول عملية غسل أموال تكشفت على وقع قضية أخرى، في ما اعتُبر أوّل محاكمة جنائية في ذلك البلد يخضع لها أحد المصارف الكبرى. والمشكلة الأكبر ظهرت عندما تعرّض المصرف المذكور لخسارات ائتمانية بعد إعطائه قروضاً لمؤسّسة «غرينسيل» المالية التي توقّفت عن الدفع بعد إصابتها بتعثّر مالي، تبيّن أن سببه مشكلة كبرى في وحدة تقييم المخاطر في المصرف السويسري. كما أن انهيار شركة «أركيغوس» سبّب للمصرف خسائر بقيمة 5.5 مليارات دولار.

امتداد أزمة «وادي السيليكون»
المشكلة الثانية التي تقرع أبواب القطاع المصرفي الأوروبي هي تمدّد أزمة مصرف «وادي السيليكون» في الولايات المتحدة، إلى خارج القارة الأميركية. فبعدما اتّضحت أسباب انهيار هذا المصرف، وتبيّن أن المشكلة بنيوية، تسلّل الهلع إلى القطاع المالي الأوروبي. فالمشكلة مرتبطة مباشرة بالخسائر غير المحقّقة في قيمة الأصول المحمولة من قبل المصارف. وهذه الأصول هي السندات الأميركية التي تعدّ الأكثر أماناً حول العالم. لكن القيمة السوقية لهذه الأصول انخفضت وباتت تمثّل مشكلة للمصارف التي تحملها، ولا سيما أنها كانت تفترض أن هذه السندات قابلة للسيولة بشكل سريع ومن دون خسارة في القيمة، إنما ما حصل مع مصرف وادي السيليكون هو العكس، إذ تبيّن أنه مع ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية، انخفضت قيمة هذه الأصول وبات تسييلها يرتّب خسائر كبيرة على حامليها. فقد تحوّل هذا الاستثمار إلى أزمة عندما تهافت المودعون لدى مصرف وادي السيليكون على سحب ودائعهم منه، ما أجبره على تسييل السندات بالسعر السوقي لتغطية حاجته إلى السيولة. هكذا تحوّلت الخسائر غير المحققة إلى محققة. وهذه الظاهرة ليست حكراً على مصرف «وادي السيليكون»، بل تمتدّ إلى مصارف أخرى في أميركا وأوروبا. ورغم أنه ليست هناك تقديرات عن حجم الخسائر غير المحقّقة في أوروبا بسبب الاستثمار في السندات الأميركية، إلا أنه في أميركا تقدّر قيمة الخسائر غير المحقّقة بنحو 620 مليار دولار.
وما يثير القلق أيضاً هو تشابه مصدر الأزمة وسياقها. فالسندات الأميركية التي يمكن أن تخسر الآن، صدرت أيام جائحة كورونا حين كانت معدلات الفائدة الأميركية منخفضة إلى حدود الصفر، وهو أمر حصل أيضاً في أوروبا التي عمدت إلى خفض معدلات الفائدة يومها. إلا أنه بسبب مكافحة موجات التضخّم، اضطرّ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى أن يرفع معدلات الفائدة بشكل سريع، وهو أمر لحقته أوروبا بشكل إلزامي وإن حاولت القيام به ببطء مقصود حتى لا تخنق اقتصاداتها. بمعنى آخر، ليس غريباً أن تكون المصارف الأوروبية الحاملة للسندات قد خسرت جزءاً كبيراً من قيمتها خلال عملية رفع أسعار الفائدة من قبل المصرف المركزي الأوروبي.
المصارف الأوروبية استثمرت أيضاً في السندات الأميركية التي تسجّل خسائر غير محققة الآن


الفكرة المهيمنة اليوم هي الخوف الكبير السائد في أوروبا من أن تتسبّب أزمة «كريدي سويس» باهتزاز ثقة المودعين الأوروبيين بمصارف القارة العجوز، ما يؤدي إلى انكشاف هذه المصارف على خسائر السندات التي تحملها منذ فترة الفوائد المنخفضة. وفي هذه الحالة، قد يشهد القطاع المصرفي الأوروبي أزمة غير مسبوقة. وقد بدأ هذا التخوّف بالفعل، إذ أخبر المصرف المركزي الأوروبي وزراء دول الاتحاد أن هناك عدداً من المصارف الأوروبية معرّضة لهذه المخاطر بشكل كبير.
بشكل عام، يقف المصرف المركزي الأوروبي أمام معضلة كبرى اليوم. فمع الهلع الذي يصيب القطاع المالي بسبب أزمة مصرف «وادي السيليكون» في أميركا، أتت مشكلة «كريدي سويس» المتجددة، وهو ما يضع المركزي الأوروبي في موقع حرج. فهذا الأخير أيضاً يعاني رغم محاولة وقف موجة التضخّم التي تضرب القارة، ومخاطر حدوث ركود اقتصادي كان متوقعاً حتى قبل هذه الأزمة المصرفية المحتملة.