أصبح الاقتصاد اللبناني يعتمد على النقد أو الكاش في التبادلات الاقتصادية. آليات تسعير السلع والخدمات أصبحت بالدولار النقدي أو بما يوازي سعر الصرف لحظة الدفع. وهذا الأمر ينطبق على غالبية التبادلات؛ إيجارات سكنية وتجارية، أسعار السلع الغذائية، أسعار الأدوية، فواتير مولدات الأحياء، فواتير الكهرباء الرسمية، فواتير الهاتف الخلوي والإنترنت، أقساط المدارس والجامعات، فواتير صيانة المنازل والسيارات، أسعار العقارات، الخدمات الشخصية... هذا النمط، لم ينسحب مباشرة على الأجور، إنما مع الوقت أصبح القسم الأكبر من أجور القطاع الخاص بالدولار أو محسوباً على الدولار النقدي وفق سعر صرف يتغير شهرياً، وفي الوقت نفسه استعملت منصّة صيرفة كمخرج مؤقّت لرواتب القطاع العام التي زادت بنسب متواضعة لكنها تزداد عندما تقبض بالدولار وفق سعر صرف هذه المنصة.
الدولرة الكاملة؟
اليوم، أصبح البلد على مشارف الدولرة الكاملة من دون إعلان قرار رسمي بذلك. لا يمكن وصفها بـ"الدولرة الشاملة" لأن المعنى التقني لهذا المصطلح يشير بأنها حالة الانتقال من الدولرة غير الرسمية والمحدودة، إلى الاستخدام الرسمي الكامل للعملة الأجنبية في جميع المعاملات، بمعنى أن تتبنى الدولة عملة غير عملتها. عملياً، لم يصل الاقتصاد اللبناني إلى التبنّي الرسمي للدولرة، إنما ازداد الحيّز الذي تحتلّه الدولرة في الاقتصاد لتشكّل نسبة كبيرة منه. وهنا لا بدّ من التشديد على الفرق بين مصطلح الدولرة الشاملة تقنياً، وبين مصطلح الدولرة الكاملة، إذ يشير المسار الظاهر إلى توسّع الثانية بشكل كبير.


صحيح أن الدولة لم تتبنَّ الدولرة بشكل رسمي، إلا أنها تدفع باتجاه ذلك من خلال القرارات المختلفة التي تصدر عن وزاراتها وعن سلطتها النقدية. فمنذ أصدر وزير السياحة، في الصيف الماضي، قراراً يسمح «للمؤسسات السياحية» بالتسعير بالدولار، وُضع الاقتصاد اللبناني على سكّة الدولرة الكاملة. وقد تبعه، أخيراً، قرار وزير الاقتصاد بالسماح «للسوبرماركت» بالتسعير بالدولار، ثم أُعلن تجميد القرار، لزوم بعض الإجراءات.
في السياق نفسه، فإن المسار النقدي الذي يتّخذه مصرف لبنان منذ بداية الأزمة، كان محفزاً لاتجاه الاقتصاد نحو الدولرة. إذ إن طباعة العملة بالشكل المفرط الذي اعتمده المركزي منذ عام 2019 حتى اليوم، أسهم في تدهور قيمة الليرة بشكل كبير وبسرعة فائقة. هذان العاملان أسهما في التراجع التدريجي للثقة بالليرة اللبنانية لأن الاحتفاظ بها، أو إجراء المعاملات بواسطتها، يُؤدي إلى خسائر مؤكّدة في ظروف تضخّمية متسارعة الوتيرة مع تقلبات سريعة وكبيرة في قيمة العملة بين ساعة وأخرى، بل خلال دقائق أحياناً.

دولرة بـ«الأمر الواقع»
عادة، الأزمات الكبرى تأخذ الاقتصاد نحو الدولرة. يجري ذلك تحت ضغط الأمر الواقع استجابةً لارتفاع التضخم المرتبط مباشرة بالانخفاض السريع في قيمة العملة المحلية. قد يكون هناك دافعاً آخر يتعلق بالتحوط من الخسائر عندما تنفجر أزمة مصرفية، بحسب ما يقول الباحث جيمس دين، الاقتصادي في جامعة سيمون فريجر، في ورقة بحثية أعدها تحت عنوان "الدولرة تحت الأمر الواقع". أما في لبنان، فإن هذا النمط من الدولرة يأتي مدفوعاً بمزيج من العاملين المذكورين. فالبلد يعاني من تضخّم كبير مرتبط بتراجع حاد في قيمة العملة بلغ أكثر من 97%. وفي الوقت نفسه، إن أحد أسباب أزمة العملة هذه، هو انهيار القطاع المصرفي. ويوضح دين أن الأفراد والمؤسسات الاقتصادية يقومان بتفادي التراجع في القوة الشرائية، تلافياً للتضخم أو تراجع قيمة العملة، وذلك من خلال الاحتفاظ إما بالودائع المصرفية بالعملة الأجنبية أو النقد الأجنبي. و في المطلق، لا يمكن تجنّب الخسائر الناجمة عن الانهيار المصرفي المحلي إلا عن طريق الاحتفاظ بالنقد الأجنبي (أو الودائع المصرفية في بنك أجنبي).

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في خضم تراجع الثقة بالعملة الوطنية، أتت قرارات الوزارات المعنية، المذكورة آنفاً، لتسهّل وتقونن عملية الدولرة، فأصبحت الدولرة تحت الأمر الواقع مدفوعة بقرارات من الدولة نفسها، من دون أن تتبنى هذه الأخيرة عملية التحوّل هذه بشكل رسمي. وبهذا الأسلوب الرسمي تحوّل الأمر إلى فوضى في الأسواق حيث التسعير أصبح بالدولار، ولكن الدفع بالليرة. المشكلة هنا تكمن في سعر الصرف المعتمد، وسط غياب سعر صرف رسمي (في الأيام الماضية أصدر حاكم مصرف لبنان قراراً برفع سعر الصرف الرسمي من 1500 إلى 15000 ليرة مقابل الدولار الواحد، أي نحو 23% من سعر الصرف السوقي). هذا الأمر يسبّب فوضى في الدفع، بسبب عدم وجود سعر صرف واضح يتم على أساسه التحويل من الدولار إلى الليرة. وهذا يؤدي في نهاية الأمر إلى استخدام الدولار في الدفع على نطاق واسع. هذا المسار يكشف عن اتساع هذه الظاهرة نحو الدولرة الكاملة، أي أن تصبح المعاملات الاقتصادية في البلد تحصل معظمها بالدولار. في هذه الحالة تبقى المعاملات الوحيدة المقوّمة بالليرة هي معاملات الدولة.
بحسب الاقتصادي باري أيشنغرين، إذا استخدم بعض السكان الدولار كعملة تبادل، يصبح استخدام الدولارات أكثر جاذبية للبعض الآخر. حتى ولو تحسّنت السياسة الاقتصادية والمالية في البلد بشكل كبير. وهذا الأمر يُظهر كيف تتوسّع ظاهرة الدولرة كأداة للتبادل. في لبنان، إذا بدأ جزء من الفاعلين الاقتصاديين القبض بالدولار، كما يطالب (أصحاب محطات المحروقات والسوبرماركت على سبيل المثال) بسبب الخوف من التقلّبات السريعة في سعر الصرف، يدفع الآخرين إلى اعتماد الدولار أيضاً كوحدة تبادل.
كانت الدولرة تتم في السابق لتعويض الوظيفة التي فقدتها العملة المحليّة كأداة لحفظ القيمة. إنما عندما تفقد الليرة وظيفتها في أن تكون وحدة قياس لقيمة السلع والخدمات (بسبب التحركات الكبيرة في سعر الصرف)، تصبح الدولرة هي الحلّ في التسعير. كل العوامل تشير إلى دفع الاقتصاد نحو اعتماد الدولار كأداة للتبادل بدلاً من الليرة، وهو ما يعني دولرة كاملة للاقتصاد، أي يُصبح الدولار هو الوحدة المستخدمة لحفظ القيمة ولقياسها، وللتبادل.
سكّة الدولرة الكاملة التي وضع عليها الاقتصاد اللبناني لا يمكن العودة عنها من دون تعويم الاقتصاد والتخلّص من التضخّم وإعادة هيكلة القطاع المصرفي


العودة عن هذه الحالة تصبح صعبة جداً، كما يرى أيشنغرين. يقول هذا الاقتصادي، إنه حتى لو تحسنت السياسة الاقتصادية والنقدية والمالية بشكل كبير، فقد تكون هناك مشكلة "المحرك الأول"، أي خوف كل الفاعلين في الاقتصاد من أن يكونوا أوّل المتراجعين عن استخدام الدولار. هذا الأمر يساهم في تحطيم أي جهود بالعودة عن الدولرة بشكل تلقائي من خلال تحسين الوضع الاقتصادي. وقد تعزّز هذه الملاحظات الحجّة في ما يتعلق بالضرائب التفاضلية (بين من يتقاضون الدولار ومن يتقاضون بالعملة المحلية)، وحتى الحظر القانوني على استخدام الدولار لإخراج الشركات والمصارف والأسر من هذه الحالة. من دون إصلاحات تساهم في تحسين الوضع، لا ينفع في محاولة إجبار الاقتصاد على التخلّي عن الدولرة باستخدام العصا. وفي الوقت نفسه لا يمكن القيام بالإصلاحات اللازمة وانتظار تخلص الاقتصاد من الدولرة بشكل تلقائي.
في الخلاصة، سكّة الدولرة الكاملة التي وضع عليها الاقتصاد اللبناني، لا يمكن العودة عنها من دون إعادة تعويم الاقتصاد والتخلّص من التضخّم وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. وحتى مع ذلك، سيتطلّب التخلّص من الدولرة إجراءات قانونية صارمة. المشكلة هي أن الأزمات السابقة التي مرّ بها البلد، تُظهر أن الدولرة لازمت الاقتصاد حتى بعد مرور الأزمات، ما يُشير إلى إمكانية تلازم الدولرة مع الاقتصاد حتى بعد انتهاء الأزمة الحالية. عملياً، ما قامت به وزارتا السياحة والاقتصاد، بالتعاون مع سياسات مصرف لبنان في تدمير العملة المحلية، ستبقى آثاره في الاقتصاد لعقود قادمة.



لا إكراه بالعملة المحلية!
في عام 1982، حاولت السلطات البوليفية التخلّص من الدولرة في الاقتصاد عن طريق حظر الودائع بالعملات الأجنبية، وتحويل الأدوات المالية المقوّمة بالدولار إلى أدوات بالعملة المحلية، بسعر صرف أقل ملاءمة للدائنين، من ذلك السائد في السوق. ولكن مع استمرار ارتفاع نسب التضخم، كانت النتيجة تشجيعاً لنموّ الودائع الخارجية. حدث الأمر نفسه في بيرو عام 1985، حيث حولت السلطات الودائع بالدولار إلى ودائع بالعملة المحلية. فكانت النتيجة جنوناً في حالة التضخم، وهجرة الودائع وتثبيط عزيمة القطاع المالي المحلي.


حلّ أم نتيجة؟
يحدّد باري أيشنغرين نوعين من البلدان التي تلجأ إلى الدولرة؛ الأولى تلجأ إليها في سياق «إصلاحات» اقتصادية ومالية، وهو سياق طويل الأمد. أما الثانية فهي دول لم تبدأ بالإصلاح بعد وتقرّر الدخول في مسار الدولرة الشاملة.
في النوع الأوّل تكون الدولرة تتويجاً لعملية طويلة من إصلاح السياسات. فتلجأ الحكومة أولاً إلى وقف التضخم، تقوية النظام المصرفي وتخفيض عجز الميزانية، ثم تدفع باتجاه إصلاحات في سوق العمل. عندها فقط تتبنى الدولار. فالاقتصاد، بعد أن يُصبح مهيأً بشكل صحيح، يجد العيش مع الدولار أمراً سهلاً. ومن خلال إجبار الحكومة على عدم العودة إلى سياساتها التضخمية القديمة (مثل الاستدانة وطباعة الأموال) تثبّت الدولرة الإصلاحات في السياسات الاقتصادية الأخرى.
أما في الثانية، فالدول تعاني من عجز في الميزانية، بشكل غير مستدام، ومن تضخم مرتفع، ومشكلات مصرفية حادة، واضطرابات سياسية. في هذه الحالة، يُنظر إلى الدولرة على أنها طريقة لتحفيز الإصلاح واستعادة ثقة المستثمرين. فمع اعتماد الدولار، ينخفض التضخم بضربة واحدة، ويختفي عدم استقرار سعر الصرف. ومع عدم وجود مصرف مركزي لتمويل عجز الميزانية، يتعيّن على السياسيين إيجاد الموارد اللازمة لموازنة الميزانية، وإعادة رسملة المصارف. هذا النوع من الدولرة تكون أكلافه على الاقتصاد مرتفعة. فمع انعدام قدرة الدولة على «التمويل» من دون كلفة مرتفعة، تتجه إلى «إصلاحات» مالية تساهم في زيادة انعدام المساواة في الاقتصاد.