مع تشكيل الحكومة الحالية (تصريف الأعمال حالياً)، بدأ وزير النقل علي حمية يشير إلى نيّته استقدام باصات من فرنسا. وبعد مفاوضات مع فرنسا، تسلّم لبنان 50 باصاً من الحجم الكبير، علماً أن شركة الشحن الفرنسية «CMA CGM» تكفّلت بنقلها إلى بيروت إضافة إلى إصلاح 45 باصاً متوسط الحجم مملوكة من مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، وكان جزء منها خارج الخدمة أو دُمّر في انفجار 4 آب. وللعلم، هي الشركة نفسها التي فازت بمناقصة مرفأ بيروت ويملكها آل سعادة وفي الأصل هم لبنانيون.كان مستغرباً الترويج لعملية استجلاب باصات بحجّة النقص في التمويل، إذ إن السلطة الحاكمة بدّدت عشرات مليارات الدولارات منذ عام 2019 بلا أي مشروع حقيقي. استجداء الباصات عبر هبة يبقى طبعاً أفضل بأشواط من عدم فعل أي شيء، إنما كان لافتاً أنها لم تُطلب استناداً إلى خطة أو رؤية جديّة لقطاع النقل المشترك. بل كانت هناك مبالغة في التعويل على هذه الباصات مع «طموح» بتقسيمها على خطوط تربط بيروت بالشمال بالجنوب وبالبقاع على قاعدة 6 و6 مكرّر، ومن منظور إرضاء مختلف المناطق والطوائف، لا على دراسة العرض والطلب أو استبيان التنقلات. هذا النوع من المتطلبات غاب كلياً. أيضاً جرى الحديث عن إقامة محطّات تسفير مع خدمات مرافقة من مطاعم وفنادق وخدمات أخرى والتعويل عليها لنهضة اقتصادية في المناطق، ما فضح ضعف مقاربة النقل المشترك لدى القيّمين على القطاع.
- أولًا، الباصات الفرنسية هي حضرية، أي مخصّصة للمدن، ولا تنفع للمسافات الطويلة أو للمرتفعات، ثم إن عددها القليل وحالتها التقنية يسمحان بتسييرها على عدد محدد من الخطوط فقط ضمن المدينة ولمسافات معقولة.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

- ثانياً، إقامة محطات تسفير حضرية وبين المدن مطلوبة طبعاً، لكن يجب أن تأتي ضمن أهداف واضحة وأن تُبنى على أرقام ودراسات موثوقة لاختيار أماكنها وحجمها وخدماتها. والأمر نفسه يفترض أن يُطبق على اختيار الخطوط وحجمها وتردّد الباصات عليها. عدا ذلك، فإن التعويل على نهضة اقتصادية محلية جراء إقامة البنى التحتية هو «أسطورة» تم تحطيمها علمياً منذ التسعينيات، وهي لا تُستخدم إلا لأجل تسويق سياسي بالٍ لهذه المنشآت (في هذا الصدد يمكن مراجعة الورقة البحثية الصادرة عن جان بيير أوفنر، 1994).
استمرّ بيع الوهم هذا لأسابيع طويلة في ظل غياب فاضح لخطة النقل وللعمل التقني على الأرض، مثل وضع أسس لاستبيان تنقلات المقيمين أو المستخدمين، واختيار خطوط الباصات وتجربتها، وإطلاق ورشة لإقامة مواقف ورسم مسارات... والفشل كان واضحاً يوم تسلّم الباصات في أيار 2022، إذ تبيّن أن الجانب اللبناني ليس ملمّاً بالشق التقني لهذه الباصات ولم يشارك في اختيار ما يناسبه. المهمة اللوجستية شبه الوحيدة التي أنيطت بالدولة اللبنانية، هي تسجيل الباصات. ورغم أنها تطلّبت 7 أشهر، إلا أنها فتحت نافذة من الوقت تسمح للقيّمين بالتحضير لتسيير الباصات بشكل أفضل. لكن ذلك لم يحصل، إذ تم تسيير 10 باصات في كانون الأول الماضي على أربعة خطوط في بيروت الكبرى. قبلها ببضعة أسابيع عقد الوزير حمية مؤتمراً صحافياً نبّه فيه إلى أنه سيتم تسيير الباصات «باللحم الحي»، أي بسائقي مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك وبمخزون قليل من المحروقات وصيانة محدودة جداً بعد فشل مناقصتين لتلزيم مقدمي خدمات نقل مشترك من القطاع الخاص. كل ذلك يهدد استمرارية عمل الباصات إذا لم تُرصد اعتمادات لها من الحكومة.
إلى جانب ذلك، هناك بضع نقاط أخرى:
- لبنان طلب 1000 باص من فرنسا، فعلى أي أساس حُدّد هذا الرقم، وكيف كان للقيّمين على القطاع تدبّر أمر 1000 باص فيما هم يفشلون اليوم بتسيير 10 باصات من أصل 95 متوافرة؟
- تسيير الباصات محصور بالباصات الفرنسية، علماً أن مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك لديها 45 باصاً «محلّياً» منذ سنوات. فلماذا لم يتم تشغيلها ريثما يتم تحضير الباصات الفرنسية؟ وحتى اليوم لماذا لا يتم تشغيل جزء منها؟ هل الأمر متصل بـ«الاستعراض» بالباصات الفرنسية، أو إرضاء للجانب الفرنسي، أم أن الـ45 باصاً ليست جاهزة؟
- في مقابلة له في شباط 2022، أكد الوزير حمية أن كميات المازوت مؤمّنة للباصات كما سائقيها، وأعلن استقدام شركة صينية لتشغيلها، ليتبين بعدها أن هذه الادعاءات لم تكن صحيحة.
يطالب الوزير «الدولة» بتأمين اعتمادات لاستمرار تسيير هذه الباصات. قد يكون هدفه رمي الكرة في ملعب الحكومة ورئيسها إذا توقّفت يوماً الباصات عن العمل، إلّا أن هذه المطالبة لا تبدو ذات جدوى وأقرب إلى الفردية لأنها لم تترافق مع أي ضغط أو معركة سياسية حقيقية من قبل الحزب الذي يحمل حقيبة النقل وهو الذي وعد بالنقل المشترك في آخر برنامجين انتخابيين (2018 و2022) وصولاً إلى حد وعد الناس بالمترو. والأمر لا يختلف عند البيان الوزاري لحكومة نجيب ميقاتي، التي تحدثت عن وجوب إقامة خطة نقل عام بالشراكة مع القطاع الخاص. فعندما أتت الفرصة حُجب الدعم عمّا يعتبرونه خطة نقل عام. وغالبية أحزاب السلطة والمعارضة غابت أصواتها تماماً عن هذا الموضوع. لكن للتذكير، إن أي خدمة نقل مشترك (منظّم) في العالم هي غالباً خاسرة محاسبياً ويتوجب دعمها من الخزينة لتكون التعرفة بمستوى مقبول.
يوم الإطلاق «الاستعراضي» للباصات، كان لافتاً استدعاء بسام طليس، بصفته (زيفاً) أحد ممثلي سائقي النقل المشترك، من دون أن يكون له أي دور فعلي في هذه الخطوة. بدا أن هناك من يقول بأن الجهة السياسية التي ترعاه أي حركة أمل، لن تعترض على عمل هذه الباصات وأن هذا الجزء من شبكة المصالح في قطاع النقل محفوظ. أيضاً كان لافتاً كلام الوزير عن الخوف من عدم استدامة المشروع، كما حديث محافظ بيروت ووعده بالتعاون لتسهيل عمل الباصات ضمن بيروت، علماً أن بعضها يسير على خطوط خارج بيروت في جبل لبنان، فهل من ضمانة في هذه المنطقة، أم لا لزوم؟
كان يفترض أن تكون عودة باصات الدولة إلى العمل، بمثابة محفّز إيجابي يخلق الأمل بقيام نقل مشترك، إلا أن الأمل تبدّد سريعاً بعد تسيير هذه الباصات، لتبقى الإيجابية الوحيدة في تسييرها الحدّ من المكابرة وبيع الوهم والاكتفاء ببضعة خطوط ضمن مدينة كبيرة كخطوة أولى، وهو ما يبدو واقعياً وأكثر فعالية من الأوهام التي سيقت سابقاً. وحتى هذه الإيجابية تبدّدت بمعرفة أنها تمت لغياب الإمكانات والخيارات، وليس عن قرار وإدراك.
كان يمكن تحويل الباصات الفرنسية إلى فرصة لوضع أساس لنظام نقل مشترك فعّال يُبنى عليه لاستثمارات إضافية إنما لم يحصل ذلك


على الأرض، قبل تسيير الباصات بيومين أجريت «مناورة» لاختبارها. وبعد التسيير تبيّن أن ليست هناك مواقف أو مواقيت مرور أو مسارات واضحة، فضلاً عن غياب البطاقات والتذاكر، والدوامات الجزئية تبعاً للدوام الرسمي فقط، وغياب الإحصاءات والمراقبة، اختيار الخطوط بطريقة غير مدروسة كفاية... يبدو تشغيل الباصات العشرة شبيهاً تماماً بآلية عمل مركبات النقل المشترك الشعبي (ذات اللوحات الحمراء)، فأي قيمة مضافة وأي خدمة إضافية أعطت هذه الباصات؟ ما يردّده البعض حول أنها قد تكون الحجرَ الأساس لخطة نقل مشترك مستقبلية، هو مجرد وهمٌ سرعان ما سيتبدد. واهم من يظن، أن بضع عشرات مركبات ستكون خطة نقل عام، فما بالك بعشرة باصات فقط لا غير تسير على أربعة خطوط بدوامات جزئية بلا مواقف ولا محطات ولا مسارات. تسويق هذه «الخطة» بوصفها «خطة نقل مشترك في بيروت الكبرى» كان وهماً.
في المحصّلة، كان يمكن أن يكون الحصول على هذه الباصات فرصة ذهبية لحجر أساس لنظام نقل مشترك فعّال يتم تقديمه كنموذج يُبنى عليه لاستجلاب المزيد من الباصات عبر الهبة والاستثمارات. للأسف، تبدّدت هذه الفرصة مجدداً وتوشك هذه الباصات أن تلحق بسلفاتها من باصات عام 1964 (التي استبدلت الترامواي)، ونسخة عام 1997 (صفقة الكاروسا الشهيرة)، ونسخة عام 2012 (باصات الروزا التي وُضعت في السير ثم أُخرجت من الخدمة وتم إصلاحها أخيراً).

* باحث في مجال النقل