على مدى ثلاث سنوات، كان لبنان يتفاوض مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على «ختمه» المسهّل للاستدانة من الأسواق الخارجية. انقسمت قوى السلطة حول الأمر. بعضهم سعى بكل قوّته للاستعانة بالصندوق من أجل «الإصلاح». بعضهم الآخر، مانع هذا الاتفاق، وأوكل مهمّة تنفيذ خطّة التعافي لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. حتى الآن، ربح الفريق الثاني، قبل أن يتبيّن أن قوى السلطة موحّدة حول رفض العلاقة مع الصندوق وإن كانت تُظهر عكس ذلك. إذ يُعتقد على نطاق واسع، أن «التدقيق الجنائي» الذي كان مطلباً ثم تخلّى الكل عنه، سيكشف الكثير من الجرائم المالية المطمورة في ميزانيات مصرف لبنان والمصارف على مدى السنوات الماضية. سلامة تجنّب الانخراط مع الصندوق، كما تجنّب أي مطالب بالتدقيق والمساءلة، وهو ما أعاد توحيد قوى السلطة وأتاح لها تعديل جدول الأعمال الذي فرضته التحركات الشعبية على الأرض في 17 تشرين الأول 2019، لتستعيد نفوذها وقوّتها. التعديل في جدول الأعمال، قضى بأن يعمل مصرف لبنان على تذويب الخسائر عبر آليات تضخّم الأسعار، وتعدّدية أسعار الصرف. هذه الخسائر، هي الدولارات التي أودعها الناس لدى المصارف، ثم أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان، والأخير بدّدها لتأمين استمرارية النموذج. وبموجب الخطّة، فإنه لغاية الآن، جرى تذويب نحو 30% من الودائع، ودائع الزبائن المبدّدة، فيما أدّت هذه الآلية إلى انتقال الثروة من يد إلى أخرى، وأبرز مؤشراتها تقلّص محفظة القروض المصرفية للقطاع الخاص بنسبة 60%. رغم ذلك، الخسائر ما زالت تفوق 70 مليار دولار، فيما الأسعار زادت بنسبة 1400%، وازداد سعر الدولار مقابل الليرة بنسبة 2760%.

على الضفّة الأخرى، يُثار سؤال أساسي: ما هي العلاقة التي سيكون لبنان محكوماً بها، في أي اتفاق مع الصندوق؟ فالصندوق يطلب إصلاحات من أبرزها تحرير سعر الليرة تمهيداً لتوحيد أسعارها وتعويمها، وتقشّف شديد في النفقات الحكومية، وخصخصة، وزيادة الضرائب على الاستهلاك، ورفع الدعم وإعادة توجيه قسم ضئيل منه... وسيُجري الصندوق دراسة عن استدامة الدين والمستويات المرغوبة منه، ولا سيما الدين بالدولار الذي بات وحده يوازي ضعفين ونصف الضعف من الناتج المحلي الإجمالي (34 مليار دولار مقابل ناتج بقيمة 14 مليار دولار محسوباً على سعر صرف يبلغ 38 ألف ليرة). الصندوق سيُقرض لبنان 3 مليارات دولار، فيما حاجات تغطية الخسائر والنهوض أكبر بأضعاف ما يعني أنه مقابل شطب جزء من الخسائر والدين، سيعود لبنان إلى إدمان الاقتراض بالدولار، ولكن ذلك لن يحصل من دون «ختم» الصندوق.
مشهد العلاقة مع صندوق النقد الدولي، في لبنان والدول العربية ليس مختلفاً جداً. فالعاصمة بيروت لا تسجّل أي احتجاجات ضدّ الصندوق، بل هناك مجموعات وشخصيات تطالب بتدخله علناً لكسر تركيبة السلطة. والسلطة نافذة وقويّة، وتريد الاستمرار باللعبة نفسها. والترويج لـ«فوائد» توجهات الصندوق يُعرض كمسلسل يومي في المؤتمرات والندوات وعلى وسائل الإعلام. في منتدى بيروت الاقتصادي الأخير الذي عُقد نهاية الشهر الماضي، روّج ممثلو مصر، الأردن، وتونس لهذه الفوائد. بدا كأن البطالة والفقر واستمرار عجز الحسابات الخارجية ومفاقمة الديون بالدولار هي أضرار جانبية. عملياً، السلطة تحاصرنا من الوراء، والصندوق من الأمام. الخيارات كلّها سيئة وأسوأ.
مزيد من الشروط على مصر
منذ عام 2016، تغرق مصر في شروط صندوق النقد الدولي. لم يتمكن اقتصادها من التعافي رغم حصولها على برنامج تمويل بقيمة 12 مليار دولار. أثناء انتشار جائحة كورونا، حصلت على المزيد، إنما بنية الاقتصاد ما زالت تتهاوى، بل ما زالت تعمّق التحوّل المفروض عليها نحو اقتصاد استهلاكي مبني على الاستدانة من الخارج لامتصاص موارد الداخل. هذا العام انخرطت مصر مجدداً في مفاوضات حول برنامج تمويلي جديد يفرض عليها المزيد من شروط «الإصلاح». خُفّض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، ورفع أسعار الفائدة بنسبة 2%، ومسائل أخرى من أبرزها الفاتورة الإلكترونية. إجراءات لا نفع لها طالما أنها تفتح حسابها الخارجي أمام خروج الدولارات من البلاد بشكل لا يتناسب مع حاجاتها.


في 11 تشرين الثاني عام 2016، وقّعت مصر اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي مدّته ثلاث سنوات وحصلت بموجبه على برنامج تمويل بموجب آلية «تسهيل الصندوق الممدد». بلغت قيمة القرض 12 مليار دولار. في نفس الوقت والتزاماً بشروط الصندوق بتحرير سعر الصرف، انخفض سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار من 8.8 جنيه في 1 تشرين الثاني 2016 إلى 17.7 في 29 تشرين الثاني. شروط الصندوق أدّت إلى نتائج سلبية أولى مؤشراتها ارتفاع معدلات الفقر. بحسب تقرير صدر عام 2020 عن البنك الدولي، ارتفعت نسبة من يعيشون بأدنى من 3.20 دولار يومياً إلى 26.1% عام 2017 مقارنة مع 16.1% عام 2015، أي إن 25.2 مليون مقيم في مصر باتوا يعيشون بأقلّ من 3.2 دولار يومياً، و3.1 مليون يعيشون بأقلّ من 1.9 دولار يومياً.
كان يُفترض أن تتحسّن مؤشرات مصر بشكل عام. بل على العكس، تراجع معظمها. فعلى سبيل المثال، عندما لجأت مصر إلى الصندوق عام 2016 كانت نسبة الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي تمثّل 34.2% من الدين الخارجي، إلا أن التحسّن الطفيف في السنوات التالية لم يدم أكثر من سنتين، إذ سرعان ما عادت الاحتياطات إلى التدني لتبلغ عام 2020 ما نسبته 29.6% من الدين الخارجي، أي أدنى مما كانت عليه قبل الاتفاق مع الصندوق، علماً بأن هذه النسبة كانت تساوي 100% من الدين الخارج عام 2010. سبب الانخفاض الحالي يعود إلى ارتفاع الدين الخارجي الناتج من قرض صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار. فبحسب المصرف المركزي المصري، ازداد الدين الخارجي من 55.8 مليار دولار في حزيران 2016 إلى 155.7 مليار دولار في حزيران 2022.
من أبرز المؤشرات المستهدفة عندما يدرس صندوق النقد الدولي برنامج تمويل لدولة ما، هو العجز في ميزان المدفوعات. من أجل خفض العجز أو تحويله إلى فائض، يفرض الصندوق شروطاً تقشّفية قاسية. في مصر، يشكّل العجز في الحساب الجاري المصدر الأساسي للعجز المزمن في ميزان المدفوعات. والسبب الرئيسي للعجز في الحساب الجاري يعود إلى الفجوة الكبيرة في الميزان التجاري التي تستنزف احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية. ببساطة، الدولارات التي تخرج من مصر هي أكثر من التي تدخل. فقد كان عجز الحساب الجاري عام 2008 أكثر من 1.41 مليار دولار وبلغ 20.49 مليار دولار عام 2016، ثم انخفض إلى 7.7 مليار دولار عام 2018، لكنه سرعان ما لبث أن ارتفع عام 2020 إلى 14.24 مليار دولار. التحسّن الذي طرأ على الحساب الخارجي، كان ظرفياً ومؤقتاً، لا بل يمكن القول إنه كان مصطنعاً.
مع مرور الوقت، يعود العجز البنيوي إلى الظهور وهو ما حصل بعد عام من توقيع مصر الاتفاق، ليعود عجز الحساب الجاري إلى مساره الانحداري

فمن أبرز مفاعيل الاقتراض من الصندوق أنه يرفع نسبة الدين الخارجي ومدفوعات هذا الدين السنوية، إلا أن الأمر لا يظهر بوضوح بسبب إجراءات موازية مثل خفض سعر العملة وزيادة الضرائب وخفض النفقات. فمع مرور الوقت، يعود العجز البنيوي إلى الظهور وهو ما حصل بعد عام من توقيع مصر الاتفاق، ليعود عجز الحساب الجاري إلى مساره الانحداري السابق. كل هذه العوامل تشير إلى أن المشكلة البنيوية المصرية لم تعالجها «الوصفة الموحّدة» للصندوق، وها هي ذي مصر قد عادت مجدداً إلى الصندوق، إذ وقّعت معه اتفاقاً جديداً بقيمة 3 مليارات دولار، وهي تأمل من خلال ذلك أن تحصل على تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار تُضاف إلى حساب ديونها الخارجية.

تدمير الصناعة التونسية
لدى تونس تاريخ طويل من العلاقة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أيضاً. أول اتفاق وقّعته مع الصندوق كان عام 1986. نجح البرنامج في تحسين بعض المؤشرات في الاقتصاد الكلّي، إلا أن نتائجه كانت فادحة على المجتمع التونسي. فقد انخفض معدّل الدخل الحقيقي للفرد بنسبة 11% بين عامَي 1983 و1993، وانخفض عدد الذين ينتمون إلى فئة الخمس الأوسط في توزيع الدخل، من 20% إلى 15.3%، بين عامَي 1975 و1990. كما أن البطالة ظلّت مرتفعة عند حدود 16%. غرق تونس استمرّ في السنوات التالية من خلال الاقتراض من البنك الدولي مقابل تحرير السوق ما كبّدها خسارة نحو 55% من قاعدتها الصناعية في الفترة بين عامَي 1996 و2013 ومن دون أن تنخفض مستويات البطالة بشكل كبير، وبلا انعكاسات إيجابية للاتفاقيات التجارية مع الدول الأوروبية على صادرات تونس. وفي 2013 لجأت تونس مجدداً إلى الصندوق، لكن ذلك أدّى إلى المزيد من الغرق، وها هي اليوم تفاوض على برنامج تمويلي جديد.

 7% هي نسبة

خدمة الدين العام إلى إجمالي الدخل القومي، في تونس عام 2020، وخدمة الدين هي الكلفة الإضافية على المقترض أي الفوائد على الدين، والتي يتم سدادها سنوياً


لم يكن الاتفاق الأخير الذي وقعته تونس مع صندوق النقد، حلاً لعوارض المشكلة. فبعدما كان الدين الخارجي يبلغ 29 مليار دولار في كانون الثاني عام 2016، ازداد هذا الدين عام 2021 ليبلغ 43 مليار دولار. الاعتماد على الاستدانة لم تتوقّف رغم كل عمليات التحرير في السوق ورغم التقشف. بل ازداد هذا الدين بفعل الاقتراض من الصندوق. ووصلت نسبة الدين الخارجي من الناتج المحلي في تونس عام 2021 إلى نحو 93%. عملياً يمثّل هذا الدين الحصّة الأكبر من إجمالي الدين العام التونسي. وقد ارتفعت هذه الحصّة بشكل كبير بعد الاتفاق الأخير مع الصندوق إذ مثّل الدين الخارجي 61% من إجمالي الدين عام 2010، ثم بلغت 74% عام 2018. ولا تزال نسبة البطالة في تونس مرتفعة نسبياً، إذ بلغت عام 2021 نحو 16.8%، ما يعني أن عملية خلق الوظائف في البلد لم تشهد تحسناً.


بدلاً من طرح الحلول البنيوية، لجأت تونس إلى «المقرض الأخير» وهو الوصف الذي يُطلق على الصندوق عندما تستنفد أي دولة كل مصادر التمويل المتاحة لها في الأسواق، ولا يعود لديها القدرة على الاستدانة مجدداً إلا بعد الحصول على «ختم» الصندوق. وهو ختم مكلف سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً. فالصندوق يسمح للدول التي تلجأ إليه بسبب عجز في الحسابات الخارجية، أن تستقطب رساميل أجنبية على شكل دين، وبما أن غالبية هذه الدول تتبنّى سياسة تحرير الأسواق خضوعاً لشروط الصندوق، فإن غالبية هذه الرساميل لا تتحوّل إلى استثمارات طويلة الأمد، بل يصبّ غالبيتها في الدين العام ثم تهرّب عند أول مؤشرات الأزمة. في النتيجة، إن تدوير الرساميل الأجنبية في ظل شروط الصندوق، يتم تدويرها بشكل سريع في الاقتصاد قبل خروجها، فتكون الاستفادة منها أقرب إلى الصفر. وفي الوقت نفسه، تعود المؤشرات التي تشكّل «عوارض» للأزمة إلى الظهور مجدداً، ثم الاتفاق مع الصندوق مرّة أخرى بشروط مفصّلة أكثر. الاتفاق مع صندوق النقد حلاً للمشكلة الاقتصادية في تونس، إنما اتضح أثره فقط في ارتفاع كتلة الدين الخارجية والإدمان عليها.
إدمان الأردن على جرعات الصندوق
الاقتصاد الأردني يشبه إلى حدّ ما، الاقتصاد اللبناني لجهة الاعتماد على القطاع الخدماتي على حساب القطاعات المنتجة مثل الزراعة والصناعة. ويؤدي ذلك إلى تغطية الحاجات المحلية بالاستيراد، ما جعل الاقتصاد الأردني اقتصاداً ريعياً يعتمد بشكل مفرط على البضائع الأجنبية، ويخلق عجزاً مستمراً في الميزان التجاري. كذلك، يعتمد الاقتصاد الأردني على تحويلات العمّال المغتربين في الخارج لتسديد حاجاته من العملات الصعبة لتغطية جزء من الاستهلاك المفرط، كما هو الحال في لبنان. تعامل الأردن المتكرّر مع صندوق النقد كان فقط بهدف استقطاب العملات الصعبة لتأمين استمرارية نظام الريع الاقتصادي. لم تكن أي من هذه الاتفاقيات تهدف إلى إعادة هيكلة النموذج الريعي، بل كانت عبارة عن مخدّر مدّته في معظم الحالات لم تتعدَّ سنة أو سنتين، وفي أقصاها ثماني سنوات ليحين موعد الجرعة الجديدة.


أخر اتفاق بين الأردن وصندوق النقد كان في آذار عام 2020، وكان حجم القرض حينها 1.293 مليار دولار، ثم جرى تعديله مرات عدة ليبلغ 1.526 مليار دولار. هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الأردن إلى الصندوق، فقد لجأت إليه سابقاً 11 مرة بين عامَي 1989 و2020، واقترضت تحت اتفاقيات مثل «تسهيل الصندوق الممدد»، وهو اتفاق على عدّة سنوات، و«الترتيبات الاحتياطية».
ظلّت نسبة البطالة في الأردن منذ أواخر الثمانينيات تفوق الـ10%، ولكن وصلت النسبة في تشرين الأول عام 2022 إلى 24.4%. وبحسب تقرير صادر عن البنك الدولي فإن نسبة البطالة عند الشباب وصلت إلى نحو الـ50% في بداية عام 2022. كما أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، بحسب التقرير المذكور، بلغت 113% بداية عام 2022. من هذا الدين، شكّل حجم الدين الخارجي 38.02 مليار دولار عام 2020، وقد ارتفع من 16.89 مليار دولار عام 2010. بالتوازي شهد الميزان التجاري عجزاً مزمناً، منذ عام 1989، وقد بلغ 2.53 مليار دولار عام 2020.