«الأهم أنه حين يؤمّن رأس المال بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، الغطاء الأمني للطبقات الحاكمة العربية، فإنه يستطيع التأثير أيضاً في مدى إضعافها، ومدى الضغط الذي يمكن أن يمارسه عليها بطبقاتها العاملة نفسها»
علي القادري، التنمية العربية الممنوعة – ديناميات التراكم بحروب الهيمنة


حالات غضب واستياء بتنا نشهدها في السنوات الأخيرة في شوارع بعض البلدان العربية، والتي كان وما زال، سببها تردّي الأوضاع المعيشية وفقدان الأمن الغذائي. ففي لبنان تجلّى الغضب في تظاهرات غابت عنها أدوات التغيير (الحزب السياسي)، وتطوّرت لاحقاً حتى وصلت إلى حدّ اقتحام بعض المصارف لاسترداد الحقوق، بعكس شوارع العراق التي اكتفت بالتظاهرات والاحتجاجات فقط. أيضاً في سوريا نشهد حالات استياء بأشكال تعبير مختلفة مضمونها واحد: انعدام الأمن الغذائي. وفي خضمّ ما سبق، راح يوجه البعض إصبعه إلى الفئات المحلية الحاكمة، بينما راح البعض الآخر يتهم أطرافاً خارجية بحياكة المؤامرات في الداخل.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

قراءة الاقتصاد السياسي لحالة الغضب والاستياء الجماهيري بشكل عام، يمكن تفسيرها بالاعتماد على العلاقات الطبقية التي تربط الجماهير في البلدان الطرفية، بالطبقة المحلية «الموسّطة»(*) التي تحكم هذه الجماهير، وعلاقة هذه الطبقة بالإمبريالية العالمية، أي ما يسميه الخطاب السياسي والإعلامي عادة بالأطراف الخارجية التي تقودها الولايات المتحدة. يمكن التعرّف إلى ثلاثة نماذج (ليس بالضرورة أن تطابق الواقع تماماً) توضّح طبيعة هذه العلاقات الطبقية بين الأطراف الثلاثة (جماهير - طبقة محلية حاكمة - الإمبريالية العالمية)، باعتبارها مدخلاً ضرورياً لفهم حالات الغضب الجماهيرية.

النموذج الأول: اقتصاد طرفي يعمل نحو الخارج (نحو بلدان المركز)
في هذا النموذج تكون علاقة الطبقة المحليّة الحاكمة محكومة بالتبعيّة المطلقة للإمبريالية العالمية. وتكمن مهمة الأولى في لعب دور الوسيط المحلي (كومبرادور) لتحويل فائض القيمة من الطبقة العاملة داخل البلد الطرفي إلى بلدان المركز. فيعمل الاقتصاد في الداخل لمصلحة الخارج (سمير أمين، التراكم على صعيد عالمي).
وإذا قرّرت الجماهير أن تثور على بؤس المعيشة وعلى تردّي الأوضاع الاجتماعية، أو أن تثور على مظاهر الإسراف والتبذير التي تتغنى بها الطبقة المحلية الحاكمة، تعمل بعض أجهزة الدولة (أجهزة الإكراه كالشرطة والجيش والأمن) على قمع الجماهير. وهنا يمكننا القول إن أجهزة الإكراه في الدولة هذه هي أجهزة إمبريالية (أفرع أمن محلية تعمل بالوكالة للإمبريالية) وليست أجهزة وطنية (علي القادري، تفكيك الاشتراكية العربية).

النموذج الثاني: اقتصاد طرفي يعمل نحو الداخل (نحو التنمية)
في هذا النموذج تتماهى الطبقة الحاكمة المحلية مع الجماهير (الطبقة العاملة) وتحكم رأس المال الاجتماعي باسم الطبقة الحاملة (علي القادري، مرجع سبق ذكره). وتعلن العداء للإمبريالية، ثم القطيعة معها (فك الارتباط وفق مفهوم سمير أمين). تلعب الطبقة الحاكمة هنا دوراً رئيسياً في قيادة الدولة الوطنية والطبقة العاملة والاقتصاد لتحقيق النمو والأمن الغذائي (إنتاج الرغيف وإنتاج البندقية التي تدافع عن الرغيف) وتحقيق التنمية من خلال التحكم برأس المال الاجتماعي. فعوضاً عن تحويل فائض القيمة نحو الخارج يتم استثماره في الداخل.
بمجرد محاولة هذه الدولة الوطنية الخروج باقتصادها من شبكة العلاقات الاقتصادية الإمبريالية العالمية، فإن الإمبريالية العالمية ستقوم بشنّ عدوان قد يبدأ بالاقتصادي (العقوبات الاقتصادية) وقد ينتهي بالعدوان العسكري. لذا على البلد المعني أن يعي حالته أولاً (بلد طرفي ذو اقتصاد متخلّف يتلمّس خطواته الأولى في طريق التنمية) وأن يعي طبيعة الإمبريالية العدائية ضدّ أي مشروع تنموي في العالم المتخلف (بول باران، الاقتصادي السياسي للتنمية). في هذا النموذج تعمل مؤسسة الجيش كمؤسسة وطنية تدافع عن التنمية وعن الأمن الغذائي الوطني وتقف ضد أي عدوان إمبريالي خارجي. أما المؤسسات الأمنية فإنها تعمل لمنع أي عدوان سياسي إمبريالي مباشر أو غير مباشر (تجنيد عملاء في الداخل مثلاً، تمويل عصابات إرهابية...).
بين النموذجين، الأول والثاني، يمكن ابتكار طيف واسع من النماذج التي تُراوح علاقة الطبقة الحاكمة فيها بالإمبريالية العالمية من التبعية المطلقة، وصولاً إلى دول القطيعة (أو فكّ الارتباط). والنموذج الثالث الذي لا يطابق الواقع تماماً كما هو في لبنان وسوريا والعراق، هو نموذج مشتقّ من طيف النموذجين السابقين.

النموذج الثالث: اقتصاد طرفي يستغل الداخل ويعادي الخارج (اقتصاد التبذير)
لا تصطفّ الطبقة الحاكمة المحلية هنا في صف الإمبريالية، ولا تعمل خادماً عندها، ولا تحول فائض القيمة نحو الخارج. كما أنها لا تصطف مع الجماهير (الطبقة العاملة) أيضاً، بل تعمل على نهب فائض القيمة من الطبقة العاملة المتشكّل، ثم تبذيره بعيداً من استثماره استثماراً مجزياً يسهم في تدوير وتطوير عجلة الاقتصاد. فتحشر نفسها هذه الطبقة بين فكَّي الإمبريالية العدوانية واستياء الجماهير وغضبها.
فعندما تعارض الطبقة الحاكمة مشيئة الإمبريالية العالمية ولا تعمل على تحويل فائض القيمة إليها بل تقوم عوضاً عن ذلك بنهبه كاملاً ومن ثم تبذيره (شراء عقارات في مناطق متعددة حول العالم، حسابات في مصارف أجنبية...)، فإن الإمبريالية العالمية تقوم بالضغط على هذه الطبقة المحلية من خلال عدوان اقتصادي (عقوبات اقتصادية) يستهدف فتات الأمن الغذائي الذي كان متوافراً في ما مضى بين أيدي الجماهير. وهذا ما يثير استياء وغضب الأخيرة ضد الطبقة المحلية الحاكمة. وهنا لا بد لنا من القول: من يرى تبذير (فساد) الطبقة المحلية الحاكمة بعين ويغضّ بصراً عن الإمبريالية العالمية وأدواتها، كمن يرى الإمبريالية بعين ويغضّ البصر عن تبذير الطبقة المحلية الحاكمة، وكلاهما لا يرى الحقيقة في صورتها الكاملة.
حالات الغضب في لبنان والعراق، وحالة الاستياء في سوريا، تتشابه ولا تتطابق تماماً مع نموذج اقتصاد طرفي يستغل الداخل ويعادي الخارج


حالات الغضب في لبنان والعراق، وحالة الاستياء في سوريا، تتشابه ولا تتطابق تماماً مع هذا النموذج، لأن الواقع أكثر تعقيداً. إلا أنه يمكننا الاعتماد عليه كمدخل لفهم غضب الشارع واستيائه في البلدان المعنية. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل الآتي: هل يمكن أن تكون الجماهير الغاضبة أداة بيد الإمبريالية؟ لا يمكننا ولا بأي شكل من الأشكال اتهام البسطاء الجوعى بأنهم مصطفّون مع الإمبريالية العالمية لمجرّد أنهم خرجوا وصرخوا في الشوارع في وجه الفساد والتبذير. إلا أنه، وفي الوقت ذاته، قد تصبح الجماهير أداة ضغط في يد الإمبريالية، سواء عن وعي أو غير وعي، عندما تتجاهل الجماهير طرح مشروع اجتماعي بديل وواضح، وعندما تسمح باستخدام غضبها كأداة لتأديب الطبقة المحلية الحاكمة أو تنقيتها مما تتعارض إرادته مع مشيئة الإمبريالية، أو أن تسمح باستخدامها للقضاء على حكم الطبقة المحلية، مقابل إحلال بديل تابع (النموذج الأول) أو إحلال الفوضى في حال لم يتوفر البديل التابع. فكما تضع الطبقة المحلية نفسها بين فكَّي الإمبريالية وغضب واستياء الجماهير في هذا النموذج، فإنها تضع الجماهير أيضاً بين فكَّي القمع الأمني والاستجداء بالقوى الخارجية.
في النهاية، لا بد من التذكير بعبارات بول باران التي تقول: «لا قهر ولا فقر الناس المتراكم ولا خنق التنمية الاقتصادية هي مجرد مسائل ثانوية، على اعتبار أن الأَولى والأهم هو الاستقلال الوطني اليوم، بل إن تلك المسائل هي بالدرجة نفسها من الأهمية إن لم تكن هي الأهم، وهي التي ينبغي أن تُعتبر أولوية وينبغي مواجهتها ومعالجتها بهذه الصفة».

(*) الطبقة الموسّطة هي الطبقة التي يتم بواسطتها تحويل فائض القيمة. فإما أن تحوله نحو الخارج وتعمل خادماً تابعاً للإمبريالية، أو أن تعيده إلى الجماهير في الداخل بعد تحويله إلى استثمارات تسعى لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية.