صدر، أخيراً، على الموقع الإلكتروني لمصرف لبنان، التقرير السنوي لعام 2021. يكاد يكون هذا التقرير نسخة مماثلة عن تقارير السنوات السابقة لولا تحديث الأرقام. المنهجية، صياغة العبارات، استخدام المفردات، كلّها متشابهة مع التقارير السابقة. ليس هناك شيء يدلّ، ولو تلميحاً، إلى وجود تحوّل أو انحراف في الوضع المالي والنقدي للبنان. ليس هناك ما يقول إن هناك أزمة أو انهياراً ما قد حصل. إنكار مطلق لثلاث سنوات من الأزمة. بل على العكس، بدا التقرير كأنه يحاكي فترات «كبوة» في مرحلة ازدهار يعيشها لبنان. وكأن البنك الدولي لم يصنّف أزمة لبنان من بين أسوأ الأزمات التي شهدها العالم منذ القرن التاسع عشر. بداية إحدى الفقرات تعبّر بوضوح تام عن ذلك: «حافظ القطاع المصرفي على وضعية جيّدة رغم الضغوط التي أعاقت مساره العامّ وتقدّمه، ما انعكس تراجعاً في العديد من المؤشرات».في معايير مسؤولي المصارف المركزية، لا يُفترض الاستغراق في التحليل والانزلاق نحو نقاشات واسعة، بل التعبير مباشرة عن سياسة المصرف المركزي، وعن الاتجاه العام الذي يقود البلاد نحوه والتحديات التي ينوي تجاوزها. بهدوء، وبلا إيجابية مفرطة، وبلا أيّ نوع من السلبية. ويفترض بالمسؤول عن السياسة النقدية التعبير عن المرحلة من خلال عرض الوقائع، والإفصاح عن اتجاه عام يأخذ الاقتصاد والمجتمع نحوه. بهذا المعنى، لا يُفترض به أن يقول إن الكارثة آتية، ولا يُفترض به أيضاً القول إن الوضع بألف خير، بل عليه أن يختار عبارات دبلوماسية واضحة للتعبير عن المسار والأهداف والإطار القانوني... لكن هذا لا يعني أبداً أن يصل المسؤول عن السياسة النقدية إلى مرحلة الإنكار التام في علاقته مع الجمهور والأسواق.


هنا يجب التمييز بين ضرورة عدم الإنكار وما يمكن اعتباره مشاركة في تحفيز حصول الأزمة. فحتى لو كان المسؤول عن السياسة النقدية واثقاً من حصول الأزمة، ليس واجباً عليه الإقرار بذلك قبل حصولها، وإلا اعتُبر إقراره تحفيزاً لاندلاع الأزمة، وتجاوزاً لكل قنوات كبحها. فلنأخذ مثلاً، ما قالته مسؤولة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، قبل أيام: التوقعات الاقتصادية لأوروبا تزداد سوداوية. النشاط التجاري سيتباطأ بشكل كبير في الأشهر المقبلة... السنة المقبلة ستكون بالتأكيد صعبة، والأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023 ستكون على الأرجح سلبية». قبل ذلك، لم تكن لاغارد تعبّر عن الأزمة بهذا الشكل رغم أن المصرف المركزي الأوروبي يملك القدرة التقنية لقراءة المؤشرات والاتجاهات العامة. ففي كانون الأول 2021، قالت لاغارد إن «معدلات التضخم بدأت تسجل ارتفاعاً لكننا نتوقع انخفاضاً فيها السنة المقبلة وإن كانت ستبقى أعلى من المعدّل المستهدف. وستبقى المراقبة متواصلة واتخذنا القرارات الآتية...».
الأمر مختلف تماماً مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. يمكن كتابة عشرات التوصيفات عن شخصيته، وعن سلوكه، وربطها بنشأته، ونجاحاته في القطاع الخاص، وانتقاله إلى حاكمية مصرف لبنان على يد الرئيس الراحل رفيق الحريري... عقود لا يمكن اختصارها سريعاً، إنما الثابت هو أن سلامة لم يكن هو نفسه بعد رحيل الحريري. فمنذ ذلك الوقت، انتقلت إليه «الألوهة». كان الجميع يتصرّف معه على هذا النحو. كان مجرّد ذهابه إلى نيويورك لدقّ جرس البورصة بمثابة عمل بطولي. كان مجرّد التصريح في مؤتمر أو مقابلة تلفزيونية أو لقاء، ولو قال كلمات وعبارات غير مفهومة للكثيرين، فإن الأمر كان بمثابة «فرصة العمر». الهندسات التي نفّذها في 2016 جرى تصويرها كأنها «نصر إلهي». فالرجل راكم الكثير من الخبرة في الحياة السياسية؛ يوم كان لبنان تحت حكم السوريين، ويوم أصبحت المقاومة مستهدفة من كل حدب وصوب. وفي تلك المرحلة التي سبقت التجديد الأخير له في موقع الحاكمية، كان سلامة قد أمضى 24 سنة في الحاكمية، وكان في أبلغ مراحل النضوج الفكري والسياسي. يومها تبيّن أنه كان مشوباً بعقدة «الألوهية»، إذ دفعته إلى الترويج لتجديد ولايته في الحاكمية بالقول علناً في برنامج تلفزيوني: «الليرة ستبقى بخير طالما أنا في مصرف لبنان». في الواقع، لم يجرؤ بن برنانكي على قول كلام كهذا عن الدولار، رغم أن أنه أمضى فترة طويلة غارقاً في إنكار غير محدود عن أزمة الرهونات العقارية في 2008، والتي أطلقت أزمة عالمية لا تزال تداعياتها لغاية اليوم. عقدة سلامة لم تتغيّر بعد مضيّ بضع سنوات إضافية في الحاكمية. بعبارة أوضح، سلوكه اليوم، هو النسخة الحقيقية الناضجة منه والتي تطوّرت بفعل كل تلك السنوات وانتهت إلى منح موافقته لكتابة السطور الآتية في التقرير السنوي لمصرف لبنان عن عام 2021:
«حافظ القطاع المصرفي على وضعية جيّدة رغم الضغوط التي أعاقت مساره العامّ وتقدّمه، ما انعكس تراجعاً في العديد منّ المؤشرات. إذ انخفض إجمالي موجودات المصارف إلى نحو 175 مليار دولار في نهاية عام 2021، مقابل 188 مليار دولار في نهاية عام 2020، وهو ما يمثّل تدنّياً في إجمالي النشاط المصرفي بنسبة 6.9% من حيث الودائع والتسليفات، مقارنة بتراجع نسبته 13.3% في عام 2020. في هذا المجال، تقلّصت الودائع الإجمالية لدى القطاع المصرفي بنسبة 8.1% سنوياً لتصل إلى نحو 140.1 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2021. فيما انخفضت ودائع القطاع الخاص المقيم وغير المقيم لدى القطاع المصرفي إلى نحو 135.2 مليار دولار في نهاية عام 2021، مقارنة بنحو 147 مليار دولار في نهاية عام 2020، أي بنسبة 8%. في موازاة ذلك، سجّل النشاط الإقراضي الإجمالي تراجعاً سنوياً بنحو 23%، مع بلوغ إجمالي القروض إلى القطاع الخاص (غير المالي) نحو 29.3 مليار دولار في نهاية عام 2021، مقابل 17.4 مليار دولار إلى القطاع العام. وشكّلت التسليفات إلى القطاع الخاص نسبة 20.9% من إجمالي الودائع في نهاية كانون الأول 2021، مقارنة بـ 24.8% في نهاية كانون الأول 2020. كما ارتفعت كتلة النقد المتداول بالليرة اللبنانية بنسبة 48% مقارنة بنهاية عام 2020 لتبلغ نحو 76145 مليار ليرة في نهاية عام 2021. وبذلك بلغ معدّل النقد في التداول بالليرة إلى مجموع الودائع 21.7% في نهاية عام 2021 مقارنة بـ 13% في نهاية عام 2021، الأمر الذي يُستدل منه سحب الجمهور لكميات كبيرة من الأوراق النقدية من القطاع المصرفي. وقد بلغ عدد فروع المصارف اللبنانية في الخارج 53 فرعاً. أما القاعدة الرأسمالية المجمّعة للمصارف التجارية فبلغت نحو 17.8 مليار دولار في كانون الأول 2021، ما يمثّل تراجعاً سنوياً بنسبة 10.6%. رغم ذلك، تستمر المصارف بالامتثال للمتطلبات العالمية بما يخصّ المخاطر والرسملة استناداً إلى معايير بازل 3 والمعايير الدولية للإبلاغ المالي IFRS9، إذ بلغت نسبة كفاية رأس المال 10.91% في أيلول من عام 2021».
يظهر واضحاً أن سلامة لا يزال مصرّاً على الإنكار، رغم أنه ليس مضطراً إلى ذلك، ولا يُتوقّع أي نتيجة من مواصلة الإنكار


بهذه السطور، يظهر واضحاً أن سلامة لا يزال مصرّاً على الإنكار، رغم أنه ليس مضطراً إلى ذلك، ولا يُتوقّع أي نتيجة من مواصلة الإنكار. قد يكون مفهوماً أن تكون تصريحات سلامة بشأن الأزمة متحفّظة، أو أنه على الأقل في بدايتها حين كان يجب أن تكون متحفّظة وأن يبتعد عن أي تحفيز سلبي للأزمة، إنما ما الداعي إلى كل هذا الإنكار اليوم؟ فبعد كل ما قام به لجهة خلق تعدّدية أسعار الصرف، وإفلات التضخّم في الأسعار، وطباعة النقود وضخّها في السوق، وانهيار قيمة المدخّرات في المصارف بسبب حجزها بشكل غير شرعي واستنسابي، هل يَفترِض سلامة أن إنكاره يفتح الطريق أمام العلاج؟ هل يفترض أن بإمكانه العودة إلى مرحلة ما قبل 2016؟ أو ربما مرحلة ما قبل 2005؟ أم يفترض أن الإنكار يفتح له الطريق للحصول على «الغفران»؟ سلوك طريق الغفران ليس من شيم «الآلهة»، إنما سقوطهم يكون مدوّياً. وهذا ما يحصل اليوم بعدما انكشفت حقائق لم يكن أحد يتوقع سماعها عن صفقات سلامة مع مساعداته وزوجاته وشقيقه... قبل ثلاث سنوات، لم يكن أحد يتوقع كل ذلك عندما كانت «الليرة بخير». اليوم وحده «سلامة بخير». يرددها يومياً لنفسه حتى يتمكن من الاستمرار في ممارسة الألوهية التي منحتها له قوى السلطة. لمَ لا يشعر بذلك، وهو اليوم من يقود كل مسار إدارة الأزمة؟ الاحتياطات، أو السيولة بالعملة الأجنبية، أو سمّوها ما شئتم، هي رهن إشارته وهي كل ما يملك البلد حالياً. إدارة التدفقات بما فيها التحويلات من المغتربين والتحويلات للسوريين النازحين، لا أحد غيره لديه السلطة والقدرة والمعرفة على توجيهها. إدارة القطاع المصرفي كسياسة عامة وتقنيات ومحاسبة بيده هو. إدارة الأسواق التجارية من زاوية التمويل عائدة إلى كيفيّته فقط. لم تقل له يوماً الحكومة، أو مجلس النواب، مهلاً يا رياض. من الطبيعي أن يجعله كل ذلك غارقاً في الإنكار. من الطبيعي أن يكون في قمّة نضوجه: الرجل الذي لا يرى.