تعود التقارير عن قطاع العقارات الصيني في الإعلام الغربي إلى ما بعد الأزمة العقاريّة التي ضربت أميركا في نهاية عام 2007، والتي هزّت الأسواق المالية العالميّة كلها. ومن يومها انطلقت عملية تنميط للاقتصاد الصيني على موجات كان آخر محاورها في شهر حزيران الماضي، شركة «إيفرغراند» التي تعثّرت عن سداد ديونها الخارجيّة. وكان الإعلام الغربي يضخّ بشكل مركّز، تقارير عن «إيفرغراند» والانفجار العقاري المرتقب في الصين، لكن فجأة انحسر الأمر كلّه ولم تعد هذه القصّة إلى الواجهة. عملياً، لم نرَ انعكاساً لتوقّف «إيفرغراند» عن السداد.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

قبل كل ذلك، من المهم الإشارة إلى قدرة الدولة الصينيّة على التدخّل في الاقتصاد. فهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهي دولة تمتلك الحصّة الأكبر من الاقتصاد ولديها رأسمال محلّي يمثّل نقطة بداية معظم دورتها الاقتصادية، أي أنها لا تعتمد بشكل كبير على رأس المال الأجنبي. ولدى الصين قدرة على التدخّل في الاقتصاد عبر الكثير من الطرق، من ضخّ الأموال إلى توجيه الاستثمارات، وغيرها من الأدوات النقدية والماليّة. فمثلاً، عقب الأزمة العالمية في عام 2007-2008 ضخّت الصين ما لا يقلّ عن 4 تريليونات يوان، أو ما يعادل 560 مليار دولار لمواجهة تبعات الأزمة المحتملة على أسواقها.

الإسكان في صلب النظام السياسي الاجتماعي
يُعتبر الإسكان عند جمهورية الصين الشعبية أمراً أساسياً. ففي السابق، أي مع نشوء النظام الشيوعيّ في الصين، كانت الحكومة تؤمّن السكن للمواطنين بشكل مدعوم. غالبية سكّان المناطق الحضريّة كانوا يعيشون في وحدات سكنيّة تؤمنها لهم الشركات الحكومية التي يعملون فيها. وفي نهاية السبعينيات، نشأت سوق العقارات الخاصّة بعدما جرى تشريع الحق في تملّك السكن الخاصّ، وإقرار عدّة إصلاحات قانونيّة أصبح بموجبها التملّك الخاصّ يحتل الجزء الأكبر من عمليّات الإسكان في الصين. وخلال المراحل المبكرة من هذا التحوّل في سوق الإسكان الصينيّة كانت الدولة تشجّع المواطنين على شراء المنازل عبر بيعهم إياها بأسعار أقل من أسعار السوق. وأبقت الدولة على هذا التشجيع من خلال وضع قوانين مثل إجبار الموَظِّفين على المساهمة في دفع قروض الإسكان المتوجّبة عليهم.
لهذا الأمر بُعد اجتماعيّ أيضاً، إذ يعدّ تملّك وحدات السّكن، بالأخص للذكور، أمراً محبّذاً اجتماعياً. وتملّك السكن أمر يُسهم فيه الأهل لأبنائهم، خصوصاً في الأسر المؤلّفة من ولد واحد. كما يُعدّ السكن من الأصول التي تحفظ قيمتها، خصوصاً في التخطيط لسنوات ما بعد التقاعد.
وفي ما بعد عهد الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، أصبح الهدف الأساسي للدولة الصينيّة هو النمو الاقتصادي السريع. لذا، تقوم الحكومات المحليّة الصينيّة بالعمل لهدف تحقيق النمو الاقتصادي للمقاطعات. علماً بأن الاستثمار في البنى التحتية اللازمة لتحقيق هذا النمو مرتفع. تقول الباحثة ناتاشا أفلين-دوباش في ورقتها البحثية بعنوان «ازدهار الإسكان في الصين: تحدّ لنظرية الفقاعة»، إن إقرار قانون مركزيّة جباية الضرائب الذي صدر في عام 1994 وضع الحكومات الصينية المحليّة أمام مأزق في مواجهة فجوة تمويل الاستثمارات. فقد واجهت الحكومات هذا الأمر من خلال استراتيجيّة «تحصيل قيمة العقارات». هذه الاستراتيجيّة، بحسب الباحث فولونغ وو، في ورقته «مركزية التخطيط، أدوات السوق: إدارة التحول الحضري الصيني في ظل ريادة الأعمال الحكومية»، تبدأ من بيع الحكومات المحليّة حقوق ملكية الأراضي، لأغراض صناعية، بأسعار مخفضة، في مناطق الأطراف الحضرية، وذلك بهدف توسيع قاعدة التصنيع للمدينة وخلق فرص عمل إضافيّة. وبذلك يترجم هذا الأمر إلى نمو في الناتج المحلّي، و يزيد من الإيرادات الضريبيّة ويرفع أسعار الأراضي مع تحضّر هذه المناطق الصناعية. وبمجرد أن يصل التطوّر الحضري إلى مستوى معين، يتم بيع حقوق استخدام الأراضي، المستفيدة من التحضّر، للمطورين بقيمة أعلى لأغراض تجارية وسكنية. ثم يتم استخدام هذه الإيرادات، من عقود الإيجار، لموازنة الميزانيات المحلية وسداد الديون لبناء البنية التحتية. بهذه الطريقة، يقول وو: من حيث الجوهر، إن استخدام التطوير العقاري يحوّل الدخل قصير الأجل من مبيعات الأراضي إلى ضرائب طويلة الأجل من الشركات.
يُظهر هذا الأمر أهميّة قطاع الإسكان في عمليّة النمو المحليّة في الاقتصاد الصيني، إذ إن عملية الاستثمار في الملكيّة تعد أساساً يُبنى عليه نظام «تحصيل قيمة الأرض» كلّه. يشرح الاقتصادي ريتشارد وولف أيضاً محوريّة السكن في النموذج الصيني، وإصرار الدولة الصينيّة على تأمين السكن. وهو ينظر إلى هذا الأمر من منطلق آخر أيضاً، فيقول إن الحكومة تعتمد على إمداد الاقتصاد بالأموال لتحفيزه، بالطبع بشكل أقلّ من ما ضخّته الحكومات الأميركيّة والأوروبيّة منذ عام 2008. لكن لتفادي الوقوع في فخّ التضخّم، تقوم الحكومة الصينية بإمداد الأسواق بالسّلع، ومن هذه السّلع السكن. يترك هذا الأمر مخاطر بوجود وحدات سكنيّة خالية، لكن، يقول وولف، تقوم الحكومة بمراقبة الأسواق بشكل مستمرّ، وتعمل على أن لا يكون العرض الإضافي من الوحدات السكنيّة، من دون أي استعمال.
الآلية المذكورة، تؤدي بطبيعة الحال، إلى طلب مرتفع على العقارات، ما ينتج عنه ارتفاعاً في الأسعار. إلا أن أفلين-دوباش تشرح بأن هذه الآلية تعمل كآلية تحقّق ذاتها، تقود القيم الأساسيّة للعقارات صعوداً، لأن النظام يولّد الوظائف والبنية التحتية الحضرية ويسهم في زيادة الدخل، أي أن الدورة التي تؤدّي إلى ارتفاع الأسعار هي دورة متكاملة تبدأها الحكومات المحليّة، ولا يمكن التعامل معها مثل الفقاعات في الأسواق الغربية غير المنظمة.

التعامل مع بوادر الأزمات
عملت الحكومة الصينيّة، على مدى سنوات، على عدم ربط المطورين العقاريين بالقطاع المصرفي بشكل كبير، بهدف خفض احتمالات أي أزمة مصرفيّة. فالتمويل الذي توفّره القنوات المصرفيّة، لا يتعدّى 30% من ديون المطورين العقاريين. وهذا أمر مهم، لمنع انعكاس أي خضّة في السوق على القطاع المصرفي، الذي يُعتبر المحرّك الأساسي لأي اقتصاد، وبالأخص القطاع المصرفي الصيني، وهو بأغلبه حكومي، وتعتمد عليه الحكومة الصينية لتوجيه الاستثمارات في الاقتصاد.
وتعتمد الشركات على مصادر أخرى للتمويل، بحسب أفلين-دوباش، مثل التمويل الذاتي، والأصول المالية مثل طرح الأسهم وإصدار السندات، وهي سوق تتحكّم بها الشركات الحكوميّة، لكن المصدر الأكبر للتمويل هي مكاتب الرهن غير الرسميّة، أي تلك التي لا علاقة لها بالقطاع المصرفي، بالإضافة إلى شبه صناديق الاستثمار العقارية، لأن صناديق الاستثمار العقارية غير رائجة في الصين بشكل عام. والجدير بالذكر أن الصين تتعامل بشكل صارم مع تدفقات رأس المال الأجنبي خصوصاً في هذا القطاع، وذلك «لإبعاد أيدي الأجانب عن الأراضي الصينية»، كما تنقل أفلين-دوباش. في الواقع، ما تفعله الصين هو إبعاد المخاطر عن القطاع المصرفي، نحو مصادر التمويل الأخرى التي لا تشكّل خطراً على الاقتصاد في حال وقوعها في أزمة.
قد تكون هناك فقاعة عقارية في بعض المدن في الصين لكن الدولة قادرة على منعها من الانفجار بشكل مفاجئ


من ناحية أخرى، تقوم الحكومات المحلية بمراقبة الأسواق باستمرار، وهي تقوم بإجراءات لخفض حجم الطلب في حال كان مرتفعاً كثيراً، كما تقوم بعكس ذلك أيضاً. وتتضمن إجراءات خفض حجم الطلب: رفع أسعار الفائدة، توجيه المصارف لتخفيف الائتمانات في القطاع، وضع حدّ لإعادة بيع الأصول العقاريّة خلال خمس سنوات من شرائها عندما يهدأ السوق، وقد تقوم الحكومات أيضاً بتخفيف هذه الإجراءات ليعود الأمر إلى مكانه الطبيعي.
في السنوات الأخيرة أدخلت العديد من الحكومات المحلية، أو مدن الدرجة الأولى والثانية، أنظمة قرعة لمبيعات المساكن بأسعار تفرضها الحكومة «للحدّ من المضاربة». وهي تقوم بالتدخّل المباشر في حال حصول أي انهيار في الأسعار، في حال تم ذلك تطلب الدولة من المصارف التابعة لها القيام بتمديد الائتمانات للشركات العقارية التابعة للدولة أيضاً، بالإضافة إلى خفض الفوائد على قروضها.

أبعاد الأمولة مواجهة استباقية
لم تلتحق الصين بنموذج الأموَلَة الذي اتبعته أميركا في بداية الثمانينيات، والذي التحقت به أوروبا لاحقاً. حتى بعدما أصبحت قوةً اقتصادية عظمى، لم تتحوّل إلى هذا النموذج. عملياً، هذا النموذج هو الذي تسبّب في تطوّر الأزمة العقارية التي ضربت أميركا في نهاية عام 2007، إلى أزمة اقتصادية تحوّلت إلى أزمة عالميّة. في واجهة هذا النموذج كان ما يُعرف بعمليات «التسنيد»، وهي عبارة عن عملية جمع للأصول الماليّة في أداة مالية واحدة. وفي صلب الأزمة الأميركية، كان تجميع القروض العقاريّة في أصول مالية اسمها «التزامات الدين المكفولة»، وهي عملياً سند مالي مدعوم بمجموعة كبيرة من القروض العقارية، لا يمكن احتساب مخاطرها بشكل سهل، لأنها تضمّ أعداداً ضخمة من الديون العقارية والأصول المالية. بهذه الطريقة تتم عمليّة أموَلَة القطاع العقاري، وتصبح هناك، نظرياً، فرصٌ أسهل للمراهنة على القطاع. بمعنى آخر، تسنح فرصة ذهبية للمضاربة على القطاع العقاري، وهو ما يخلق ظروفاً لحدوث الفقاعات العقارية «المضاربيّة»، لكن في هذه الحالة لا تكون الفقاعة في سوق العقارات بحدّ ذاته، بل في الأدوات الماليّة المبنيّة عليها. وفي حال كانت هناك فقاعة عقاريّة في السوق، تتيح هذه الأدوات المالية المجال لحصول فقاعة أكبر بأضعاف فوقها، ما يعني احتمالات حصول خسائر أكبر بكثير من تلك المتعلّقة بالقطاع العقاري الحقيقي. وهذا ما حصل في أميركا في عام 2007.

تراقب الحكومات المحلية الأسواق باستمرار وهي تقوم بإجراءات لخفض الطلب أو العرض بحسب الاقتضاء


في المقلب الصيني، إن عدم وجود هذه الأدوات في السوق الماليّة الصينية، بالإضافة إلى حماية الدولة للقطاع المصرفي من هذه السوق، هو مانع حقيقي أمام انفجار فقاعة بحجم تلك الأميركية التي انفجرت عام 2007. قد تكون هناك فقاعة عقارية في بعض المدن في الصين، لكن الدولة قادرة على منعها من الانفجار بشكل مفاجئ، والأهم من ذلك أنه حتى لو انفجرت هذه الفقاعة، فهي غير مهيئة لتكون بحجم أزمة فقاعة أميركا.
في الخلاصة، إن ارتفاع أسعار العقارات في الصين يعدّ أمراً طبيعياً. إذ إن الطلب على العقارات، وخصوصاً السكنية، مدفوع بعوامل اجتماعيّة واقتصاديّة، حيث يلعب هذا القطاع دوراً محورياً في قلب نموذج النمو الصيني. ودورة العرض والطلب على العقارات هي عبارة عن دورة شبه مقفلة تبدأ من الدولة وتنتهي عندها. وفي موازاة ذلك، تلعب الحكومات المحليّة دور المراقب لهذه الأسواق، وتقوم بالتدخّل وفقاً لذلك. وأخيراً، الدولة الصينيّة قادرة على التدخل بشكل كبير، حتى لو عنى ذلك القيام بضخ الأموال، أو نقل الائتمانات إلى عاتقها من دون أي صعوبات أيديولوجية أو نظامية كالتي حصلت في أميركا إثر الأزمة العقارية الأخيرة.