الوضعية التي شرّح من خلالها ماركس، النظام الرأسمالي في مراحل تشكّله الوسيطة، لم تكن موجودة بالقدر ذاته في الإقليم والعالم الثالث عموماً غداة الثورات الاشتراكية التي قادتها البورجوازية الصغيرة هنا. الوحدة الأساسية في تحليله، لم تكن الأرض وعلاقات الإنتاج المرتبطة بها بمقدار ما كانت المصنع أو المعمل، أي الوضعية البروليتارية المثالية أو النموذجية للعمل في نظام رأسمالي تجاوَزَ نمط الإنتاج الخراجي وكلّ ما يطرحه من إشكاليات «متقادمة» خاصّة بريع الأرض أو المُلكية الإقطاعيّة أو سواهما. هذا جَعَلَ الأدوات المستخدمة في التحليل تنطبق على الحقل الخاصّ بالإنتاج الصناعي، وتحديداً في الدول التي توسّعت فيها عملية التراكم بالاعتماد على التدفّقات الآتية من دول الجنوب. أي حين تتوسّع السوق داخلياً وخارجياً بالاتكال المطلق على تدفُّق المواد الخام وقوى العمل من المستعمرات، ثمّ عودة ناتج العمل إلى هناك على شكل سلع وخدمات. حتى الطروحات المركزية في نظريته حول تراكم رأس المال، وأهمُّها القيمة الزائدة، كانت تنطبق على العمل في المصنع أكثر منه في الأرض أو سواها، وهو ما طرح إشكالية حول إمكانية تناسُبِها مع أنماط الإنتاج التي تكون فيها المُلكية الخاصّة بالنسبة للمنتجين حاضرة بالقدر ذاته الذي تحضر به لدى أصحاب الرساميل من صناعيين وتجار. على أنّ ذلك لم يمنع نظرية «فائض القيمة» من أن تتحوّل إلى وحدة تحليل أساسية، حتى بالنسبة إلى أنماط الإنتاج المتأخّرة، ولكن ليس في نطاق علاقات العمل ضمن وحدات الإنتاج الأورومركزية الطابع، بل في الإطار الخاصّ بنظيرتها العالمثالثية أو النامية. هنا ثمة تنوُّعٌ أكبر في أشكال المُلكية بحكم تجاوُر أنماط إنتاج مختلفة، متأخّرة وحديثة، ومعها طبعاً أشكال الاستغلال التي لا تقتصر على العلاقة بربّ العمل، بل تتعدّاه إلى علاقات الاستتباع بين الدول، وفقاً لما تقتضيه جغرافيا عملية التراكم الرأسمالي على امتداد العالم.
المصنع كوحدة تحليل مركزية
حين وضع ماركس الإطار النظري لعلاقات العمل داخل النظام الإقطاعي، وكيف يصبّ ريع الأرض في تعزيز الطابع الاحتكاري المُطلَق لعلاقات الإنتاج الإقطاعية، كانت أوروبا بأسرها قد تجاوزت هذا النظام الإنتاجي القديم إلى الوحدات الإنتاجية الأولى في النظام الرأسمالي؛ من نظام الورش الصغيرة إلى المانفيكتورة، وصولاً إلى نظم الإنتاج التجميعية الكبيرة التي يجري فيها تقسيم العمل، وفقاً للاختصاصات الإنتاجية. محورية دور الآلة هنا، كانت أساسية لفهم الطريقة التي نشأت بها الصناعات الكبيرة، انطلاقاً من الانتهاء من العمل اليدوي، تدريجياً. هذا التثوير الحاصل في الصناعة، جَعَل اهتمامه بعلاقات الإنتاج في النظام الإقطاعي ينحصر ضمن إطار فهم الآلية التي تم بموجبها تجاوزها، في اتجاه علاقات استغلال أكثر ثباتاً وتعقيداً.
الأشكال الجديدة من تراكم رأس المال وتركُّزه هي التي كانت تهمّ ماركس، وانطلاقاً من هذا الاهتمام كانت تتبلور لديه المنهجية الخاصّة بتحليل مراحل الانتقال من نظام إنتاج إلى آخر. المرحلة الزمنية حينها كانت تُملي ذلك، إذ كانت أوروبا تشهد، ليس فقط تركّزاً كبيراً لرأس المال في قطاعات الإنتاج الصناعي، ولكن أيضاً، توسّعاً في أنماط التجارة الدولية انطلاقاً من بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا تقودان الثورة الصناعية في حينه. تركيزُه مثلاً على مسألة رسوم القمح المعروفة «بقوانين الحبوب»، في إطار سجاله مع برودون، في كتاب «بؤس الفلسفة» ردّاً على «فلسفة البؤس» للأخير، كان يعكس بروزَ مسألة التجارة الحرّة في بريطانيا زمن صدور الكتاب في عام 1847، أو قبل ذلك بقليل.
في ذلك الوقت كان توسُّع السوق الدولية، يثير حفيظة ملّاكي الأرض هناك، الداعين، بعكس أنصار التجارة الحرّة ورفع القيود الجمركية، إلى الحفاظ على نظام تقييد استيراد الحبوب. السجال المستَعِر حينها، كان بمثابة مؤشّر، على انحسار نفوذ أصحاب المُلكيات العقارية الكبيرة لمصلحة البورجوازيتين الصناعية والتجارية، الصاعدتين بقوّة، على خلفية تغليب التنافسية التجارية للسلع على الحمائية التي كانت تميّز النظام الإقطاعي، أو ما تبقّى منه.
مقاربة التراكم الرأسمالي من هذه الزاوية، أي من زاوية انشداد الصناعة، ومعها التجارة الداخلية، إيجاباً، إلى السوق الدولية الناشئة، كانت تضع العمّال في عين المعركة، لجهة انسحاقهم بين فائض القيمة الذي يذهب لمصلحة الصناعيين، والتنافسية التجارية التي تنعكس سلباً على أجورهم المتضائلة أصلاً بسبب دورات الركود والتضخّم المستمرّة. هذا جَعَل تركيز الرجل ينصبّ على المصنع، ليس فقط كوحدة تحليل مركزية، بل أيضاً، كحيّز يعيد فيه العمّال أو البروليتاريا إنتاج حياتهم، على النحو الذي يجعلها امتداداً فعلياً لإنتاج السلع. ومن هنا نفهم أيضاً محورية أطروحات لديه، كزمن الإنتاج الاجتماعي، ولاحقاً الاغتراب، بوصفها تكثيفاً للمنظومة الفلسفية التي لا وجودَ مادياً للبروليتاريا وحياتِها وكفاحِها من دونها. بهذا المعنى فانّ كلّ نتاجه الكبير اللاحق، من «القيمة الزائدة» إلى «الغروندريسه»، وصولاً إلى «رأس المال»، أصبح متمحوراً حول كيفية تجاوز علاقات الإنتاج التي كرّستها البورجوازية، انطلاقاً من كفاح الطبقة العاملة الأوروبية في المصانع، بوصفها الإطار الوحيد المؤهَّل لهذا التجاوز.

ظروف إنتاج روابط الفلاحين عربياً
المشكلة التي واجهتها معظم الثورات التي حصلت بعد اكتمال المُنجَز الفلسفي لماركس، ومعه إنغلز، هو وقوعها في دول لم تكن قد أنجزت بعد، القطيعة، حتى مع علاقات الإنتاج الإقطاعية. حصل ذلك في روسيا إبان ثورة أكتوبر، ولاحقاً في الصين، وصولاً إلى حركات التحرّر في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. في الإقليم هنا، كان الوضع أسوأ لأنّ الحالة الكولونيالية المنتهية حديثاً كانت متداخلة عضوياً مع نمط الإنتاج الإقطاعي، بالتالي كان يصعب إنجاز الاستقلال من دون تصفية علاقات الإنتاج التي كان يقوم عليها شرطه الاستعماري. لم يكن أيضاً ثمّة طبقة عاملة، حتى بالمعنى الذي أُعيد إنتاجه في الصين ليتناسب مع تركُّز البروليتاريا هناك، في الأرياف بدلاً من المدن. تركُّز أكثرية قوى العمل في الريف، حيث الأراضي الزراعية التي لم تكن ملكيّتها قد انتقلت بعد إلى الفلاحين، لا يجعل منها بالضرورة طبقة عاملة بالمعنى الماركسي، أي طبقة لذاتها وليس بذاتها. الطبقة بحسب ماركس، لا تتواجد فحسب في مكان العمل، بل تصنع هذا الوجود، عبر معاودة إنتاج الحياة وليس السلع فحسب. في سوريا ومصر والعراق والجزائر كان ثمّة استحالة لبناء روابط بين الفلاحين، حتى بعد رحيل الانتدابين البريطاني والفرنسي، فالإقطاع الذي كان قد ضَعُفَ بالفعل، لم يكن ليتخلَّ بسهولة عن نظامه الإنتاجي وتغلغله بين الناس. وفي ظلّ ضُعف الأحزاب أو تداخُل مصالحها مع بقايا الإقطاع كانت القوّة الوحيدة القادرة على إنهائه قسرياً هي الجيوش، ولكن القوّة العسكرية ليست هي الأداة لإحلال نظام إنتاج محلّ آخر، أو الشروع بتغيير علاقات المُلكية التي كانت مصدر قوّة وغَلَبة النظام الإقطاعي. والحال أنّ الانتهاء من هذا النظام كان يقتضي الشروع ببناء روابط بين الفلاحين، الأقنان سابقاً، على أسس مغايرة تماماً لعلاقاتهم مع الإقطاع. الإدراك بأنّ مصلحتهم هي في امتلاك الأرض بدلاً من العمل فيها لقاءَ أجر تُقتطع منه معظم ساعات العمل، هو بمثابة نقطة الانطلاق فحسب، لأنّ المُلكية الخاصّة في الماركسية تتعارض مع تحويل علاقات الإنتاج لمصلحة المُنتجين. ولكن الوصول إلى هذه المرحلة من عدمه، كان يتطلّب المرور بمرحلة المُلكية الخاصّة الصغيرة، بوصفها عتبة التحرّر من نظام الاستغلال الذي كان يمثِّله الإقطاع السياسي، بُعيد الاستقلال.
الحركات الاشتراكية هنا، سواءً عبر تبنّي الجيوش لها في مصر وسوريا والعراق، أو من خلال الأحزاب الصاعدة حينها كالبعث والاتحاد الاشتراكي وسواهما، لم تكن تمتلك العدّة النظرية المناسبة للقيام بالتحويل الاشتراكي، فضلاً عن ضحالة معرفتها بالمنهجية الماركسية التي جرى تطبيقها بعد «تحريفها» في كلٍّ من روسيا والصين. هذا جَعَلها تعوِّل على التجربة، المقترِنة بالحدّ الأدنى من المعرفة النظرية، ويمكن القول إنّ ذلك كان «مفيداً»، في ظرف كان يفتقر إلى أدنى مقوِّمات، ليس فقط تحويل علاقات الإنتاج، بل كذلك تشكيل روابط جديدة بين الفلاحين على أنقاض الروابط الإقطاعية السابقة. كلّ ذلك، بغرض تحويل عملية نقل المُلكية، ومعها التأميم والإصلاح الزراعي، من مجرّد إجراءات تقوم بها السلطة السياسية الجديدة لتوطيد حُكمها، إلى حيّزٍ لإعادة إنتاج شروط الحياة بالنسبة إلى هذه الفئات العاملة التي أضحت بفضلها، تتواجد في حيّزٍ واحد، تملك فيه الأرض وقوّة العمل والحقّ ببيع منتَجها، إلى الدرجة التي تجعل منها في الظروف الخاصّة بالإقليم هنا، ووفقاً للتحديد الماركسي نفسه، طبقة لذاتها، فعلاً.

ثنائي الطبقة العاملة العربية
النشأة في هذا السياق الذي يفتقر إلى ملامح الطبقة، كما جرى تعريفها ماركسياً، جَعَل التحويل الاشتراكي في الإقليم يتحدّد بالأرض بدلاً من المصنع، كوحدة إنتاج أولاً، ثمّ كوحدة تحليلية لدى المنظّرين الاشتراكيين، أو حتى الماركسيين الذين تصدّوا لتجربة التحويل الاشتراكي، عربياً وعالمثالثياً. ظروف المنطقة والعالم، بُعَيد نيل هذه الدول استقلالها، أضفت نوعاً من التطابق بين نشأة حركات التحرّر العربية وتشكُّل الفلاحين الذي تملّكوا الأرض لاحقاً، كطبقة. الإسقاط الذي حصل للمنهجية الماركسية على ظروف الإنتاج المتأخّر هنا، ظلّ عند حدود تمويه طبيعة الطبقة العاملة الجديدة التي لا تشبه الطبقة العاملة الأوروبية، لا في تركيبتها، ولا في صعودها ضمن إطار قيادة البرجوازية الكبيرة لعملية التصنيع هناك. هكذا، ولتفادي هذا المأزق المنهجي، ضُمَّ العمّال إلى الفلاحين في الأدبيات الرسمية لحركات التحرّر، وحتى في التمثيل السياسي داخل الأطر التمثيلية التي أفرزتها الاشتراكيات العربية. نسبة تمثيل هؤلاء داخل الأُطُر البرلمانية في هذه الدول كانت تصل إلى حدود 50%، إذ كانت نصف المقاعد من حصّة العمال والفلاحين، والنصف الآخر من نصيب بقية الفئات الاجتماعية من مهنيين وموظّفين كبار وتجّار وصناعيين وأصحاب رساميل... التساوي في التمثيل بين الفئتين ضمن إطار هذه النسبة لم يكن يعكس طبيعة النظام الإنتاجي الجديد بشكل فعلي. فالعلاقات الإنتاجية التي أفرزها الإصلاح الزراعي كانت لمصلحة الفلاحين أكثر من العمّال، كون المواجهة كانت مع الإقطاع الذي يملك الأرض، وليس مع البرجوازية التي تملك المصانع كما كانت عليه الحال في أوروبا. هذا الفارق أفضى إلى خلل أساسي في العلاقة بين جناحي الطبقة العاملة العربية. فهنا ثمّة طرف يملك، وإن لم يكن يحصل على القيمة المضافة الفعلية لناتج عمله من المُلكية، وطرف آخر لا يملك سوى قوّة عمله، وإن كانت أيضاً شروط هذا العمل تحسّنت مع التأميمات وانتقال مُلكية المصانع إلى الدولة بدلاً من القطّاع الخاصّ.
بدلاً من تعزيز الطابع الصناعي للاقتصاد تزايدت حصّة قطّاع الخدمات من الناتج المحلّي على حساب الصناعة والزراعة معاً


التناقض الناشئ هنا هو ذاته الذي واجهته قيادة حركة التحرّر لدى انتقالها من إزالة آثار الاستعمار إلى قيادة التحويل الاشتراكي. فالمُلكية التي انتقلت من الإقطاع، بعد وضع حدٍّ أقصى لها، إلى الفلّاحين، جعلتهم في «مرتبة أعلى» من الآخرين الذين لا يملكون عادةً إلا قوّة عملهم. وهي وضعية يستحيل الخروج منها بغير تفضيل فئة على أخرى ضمن مسار انتقال الطبقة العاملة. لِنَقُل أنّ شرط الانتقال الاشتراكي حينها، بخلاف التجارب التي أُتيح لها نقل مُلكية الأراضي إلى الدولة، أو الإبقاء على طابعها المُختَلَط، هو الحفاظ على المُلكية الخاصّة الصغيرة للفلاحين، ريثما تدخل السلع المُنتَجة من الأرض في حلقة التصنيع، بالتالي يبدأ الوضع البروليتاري للعمال بالتغيّر، إلى الحدّ الذي يصبح فيه مساوياً، لوضع نظرائهم الفلاحين.

نتائج تعثّر المسار
عدم حصول ذلك لاحقاً، لم يكن بسبب الإبقاء على البنية الزراعية للاقتصاد، بل لأنّ مسار الانتقال الاشتراكي نفسه قد تعثّر، وبدلاً من تعزيز الطابع الصناعي للاقتصاد، تزايدت حصّة قطّاع الخدمات من الناتج المحلّي لهذه الدول، على حساب الصناعة والزراعة معاً. وهذا كان المدخل حينها، لعودة القطّاع الخاصّ بقوّة إلى المشهد، باعتبار أنّ الأرباح هنا ليست فقط أكبر، بل تأتي بكلفة أقلّ. إذ إنّ الأجور في هذا القطّاع ليست ضمن شبكة الحماية الخاصّة بالفلاحين والعمال، وهو ما وضع قيوداً أقلّ على الاستثمارات الخاصّة المتزايدة، الداخلية والخارجية. التوسُّع في قطّاعات الاقتصاد بهذا المعنى، لم ينعكس إيجاباً على وضع الطبقة العاملة العربية، حتى تلك التي أتت من خارج القطّاعين الزراعي والصناعي، إذ اقترن الأمر ليس فقط بالخصخصة واستعادة المُلكية على منشآت وأراضي القطّاع العام، بل كذلك بتقليص مكتسبات الطبقة العاملة إلى الحدّ الأقصى، وعودتها إلى وضعية شبيهة بما كانت عليه قبل التحويل الاشتراكي. القنانة التي انتهت مع الإقطاع عادت مقنَّعةً مع القطّاع الخاصّ والاستثمارات الأجنبية، أي على شكل زيادة في ساعات العمل ورفع لسنّ التقاعد وتقليص لنظام الحوافز والإجازات، وصولاً إلى انخفاض حصّة الأجور نفسها من الناتج المحلّي لهذه الدول، إلى الحدّ الأقصى. ولولا الكوابح التي استمرّت مع بقايا الهياكل الاشتراكية حتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي، لكان مصير الطبقة العاملة نفسها على المحكّ. وهذا يعني أنّ الحفاظ على تدفُّق السلع بوتيرة منتظمة إلى الأسواق الداخلية والخارجية، ومعه نموّ القطّاع الخاصّ الذي يُنتِج حالياً كلّ شيء، هو من مخلّفات الاشتراكية وليس العكس، وكذلك الأمر، إبقاء الطبقة العاملة، من فلّاحين وعمّال وسواهما، بين حدّي الاندثار والدفاع عن الوجود.