العقد الماضي لم يكن عقد انتفاء السياسة فحسب، كحيّز لاستعراض أشكال التعبير والتمثيل السياسيّين الممكنة، بل أيضاً عقد العودة الكبرى لمفهوم التنمية، حتى بالمعنى السلبي، بوصفه الإطار الذي من خلاله تتحدّد السياسة، سواء ليبرالياً أو اشتراكياً. استمرار التنمية أو نكوصها، هما اللذان يحدّدان شكل التمثيل السياسي في هذه الحقبة أو تلك، باعتبار أنّ الفاعلية هنا مرتبطة ليس بحقل الاقتصاد بحدّ ذاته، بل بنمط الإنتاج وعلاقاته وقواه. فحين يكون هذا الحقل مزدهراً والتنمية المرتبطة به على أشدّها، تزدهر السياسة ومعها أشكال التمثيل كافّة، وعلى رأسها الديموقراطية التمثيلية، أما حين تنهار عملية الإنتاج وتتفكّك بُناها وتبور قواها، فتصبح السياسة برمّتها، وليس فقط الديموقراطية التمثيلية التي تمجّدها السردية الليبرالية، لزوم ما لا يلزم.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

فصل السياسة عن التنمية لا يقود فحسب إلى انتفاء معنى التمثيل، بل أيضاً، إلى تحوُّل المؤسّسات التمثيلية، في حال «استمرارها»، إلى هياكل فارغة، حتى وهي تحظى بجزء يسير من الشرعية الشعبية. التمثيل بهذا المعنى لا يعود هو ذاته، حين تنقطع الصلة بين التعبير السياسي ضمن أُطُر الديموقراطية الليبرالية وأنماط الإنتاج التي تسبق عادةً أيّ تعريف أو تحديد للطبقات الاجتماعية. فقبل أن يصبح هذا العامل أو ذاك المزارع ممثَّلاً في البرلمان، أو في أي مؤسّسة منتَخَبة أخرى، تبعاً لحقّه في الانتخاب أو حتى الترشّح، فهو يملك ليس فقط أرضَه أو منتَجه، بل أساساً، قوّة عمله، التي في ضوئها يتحدّد إذا كان شكل التعبير السياسي ممكناً من عدمه. أي بمعنى مصلحة هذا المُنتِج أو ذاك، طبقياً، في أن يتمثّل، ليبرالياً، ضمن الأطر السياسية المُتاحة، والتي غالباً ما تكون عائقاً أمام، ليس فقط انتزاع الحقوق، بل أيضاً تطوُّر القوى المنتجة، بما هو أساس أيّ شرعية كانت، سواءً اشتراكية، أو حتى ليبرالية.

طبيعة الصراع الفعلية
أزمة التمثيل السياسي للفئات العاملة كانت أقلّ، وخصوصاً في الإقليم هنا، حين كانت الأُطُر السياسية التي تتمثّل من خلالها أكثر تعبيراً عن مصالحها، سواءً السياسية أو الطبقية. «اشتراكية» هذه الأُطُر التي تتبع سياسياً لنُظُم تلك الحقبة، لم تكن كاملة، بل كانت تعبّر عن مصالح متضاربة بين البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة بالمعنى الواسع للكلمة. على أنّ هذا التضارب كان يسمح، ليس فقط بوجود هامش كبير لتمثيل هذه الفئات بل أيضاً، باحتلالها متن المرحلة، لجهة سيادة علاقات الإنتاج المناسبة لتطوّرها، على حساب الأقلّية الليبرالية التي كانت تتذرّع بالدعوة إلى «استعادة الديموقراطية» لتقويض كلّ هذه المكتسبات. وهذا ما جَعَل الصراع بينهما، ليس في تلك المرحلة فحسب، بل في كلّ المراحل اللاحقة، ذا طابعٍ طبقيّ، خلافاً لما يقوله الليبراليون. بمعنى، إنه صراع على طبيعة نظام الإنتاج وعلاقاته وقواه أكثَرَ منه على الديموقراطية أو التعدّدية السياسية، اللتين تمجّدهما السردية الليبرالية.
شرعية نُظُم الاشتراكية العربية بهذا المعنى، لم تَقُم على أساس ليبرالي، لأنّ «البنية الليبرالية» للنُظُم المَلَكية والأميرية التي قامت عليها الثورات، ابتداءً من تاريخ تموز/ يوليو 1952، كانت وراء احتجاز تطوّر قوى الإنتاج في تلك الحقبة. والمشكلة أنّ هذا الشكل الإقطاعي القديم من علاقات الإنتاج، لم يكن على تناقض مع الاشتراكية فحسب، أو لِنقُل مع تصوِّرها لنظام الإنتاج الجديد، بل أيضاً كان متناقضاً مع نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه لجهة توسّع السوق وحاجتها إلى المزيد من تدفّق السلع والخدمات والرساميل واليد العاملة، سواءً داخل حدود كلّ دولة أو بين هذه الدول نفسها. لذلك كان الانفجار الكبير في عام 1952 حتمياً، إن لم يكن باتجاه الاشتراكية وسيادة علاقات إنتاج متناسبة مع تطوُّر القوى العاملة في المنطقة والعالم، فأقلّه، لجعل فرص الوصول إلى الثروة التي وضعتها علاقات التبادل الجديدة في المتناوَل أكثر تساوياً، مما كانت عليه في الحقبة الليبرالية التي أعقبت الاستقلالات عن الاحتلالين الفرنسي والبريطاني.
الدفع باتجاه وصول فئات برجوازية حقيقية إلى السلطة لم يكن من مصلحة الانتدابَيْن حينها حيث كانت المصلحة الاستعمارية تقتضي الإبقاء على المنطقة كمَصْدَر للمواد الخام التي تعود إليها لاحقاً بعد تصنيعها في الغرب على شكل سلع وخدمات، أي بوصفها سوقاً فحسب. ولاحقاً، سُمِح بتدفّق قوّة العمل إلى هناك وتحديداً من الجزائر ودول المغرب العربي الأخرى، ولكن ليس في إطار تنمية المنطقة هنا بل في سياق إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. المساهمة في التصنيع هناك كانت تقتضي الإبقاء على علاقات الإنتاج القديمة هنا، سواءً بالنهب المباشر عبر الاحتلال أو عبر السماح بتدفُّق المواد الأولية واليد العاملة فحسب، من دون السلع والرساميل والخدمات. وهي من الوظائف التي جعلت سلطات ما بعد الاستقلال تحتفظ ببُناها التابعة والكومبرادورية. هكذا، كان التطوُّر الرأسمالي ممنوعاً هنا ولو سُمِح به، ولو على نطاق ضيّق، لكانت طبيعة الاشتراكية التي أتت بها الثورات العربية ابتداءً من عام 1952 مختلفة تماماً عمّا عرفناه.

سياق قيادة البرجوازية الصغيرة للانتقال
والحال أنّ النقاش الذي أعقب وصول الثورات الاشتراكية إلى السلطة حول طبيعة تحالفاتها الطبقية لم يكن أساسياً، أقلّه بمقاييس تلك الحقبة. إذ حتى لو كان الشيوعيون محقّين حينها، في اعتبارها ممثّلة لمصالح البرجوازية الصغيرة، سواءً في الأرياف أو في المدن، فإنّ الوظيفة التي تبيّن أنها بصدد إنجازها، قد صبّت لاحقاً في توسيع ليس فقط الطبقة العاملة وتحسين ظروف معيشتها، بل أيضاً في «تثوير علاقات الإنتاج»، بما يتناسب مع متطلّبات تلك المرحلة لجهة انتزاع مُلْكية الأرض والإصلاح الزراعي والتأميم والمكننة والتصنيع... نُظُم البورجوازية الصغيرة في مصر والعراق وسوريا والجزائر، هي التي قادت بهذا المعنى عملية التحوّل الإنتاجي الكبير التي كان يُفتَرض ببرجوازية ما قبل الحرب والاستقلالات القيام بها. عدم قيامها بذلك كان تعبيراً ليس فقط عن مصالح الاستعمار في احتجاز التطوّر الرأسمالي لهذه المنطقة، أسوةً بباقي المستعمرات الأخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بل أيضاً، عن اختلاف السياق بينها وبين الثورات البرجوازية في أوروبا التي حصل فيها التطوّر بسبب انتفاء العامل الكولونيالي. هذا الانقطاع، أو لِنَقُل على نحو أدقّ هذا الاحتجاز، نَقَل المهمّة إلى حركات التحرّر التي كان عليها، بالإضافة إلى إنجاز الاستقلال والتحرُّر من الاستعمار استكمال عمليّة تحويل المجتمع طبقياً. وهي حين شَرَعت في فعل ذلك، لم تكن تعرف في أيّ اتجاه يقودها هذا التحوّل، فاستعادة مُلْكية الأرض لمصلحة الفلاحين مثلاً لم تكن بالضرورة إجراءً اشتراكياً، لأنّ حصول هذه العملية في معظم الدول التي ساد فيها النظام الإقطاعي وخصوصاً في أوروبا، كان تمهيداً لظهور البرجوازية هناك وليس الشيوعية أو الاشتراكية، ولسيادة علاقات إنتاج تعبّر عن تحرّر قوى العمل وعلى رأسها الفلاحون الأقنان، من نظام القنانة الذي لا يقيّدهم فحسب، بل يمتلكهم بالمعنى الحرفي. كَوْن القوى التي قامت بذلك في المنطقة العربية أصبحت أَقْرَب إلى الاشتراكية لاحقاً، لا يجعل من خطوتها الأولى هذه، اشتراكية بالضرورة لأنّ السياق هنا يختلف عن سياق انتقال المُلْكية في الغرب، والذي حصل إبّان صعود البرجوازية هناك على حساب الإقطاع وقيادَتِها مرحلة الانتقال من المُلْكيات الكبرى إلى نظيرتها الصغيرة الخاصّة بالفلاحين. وهو ما جَعَل الإنجاز هناك يُنسَب إلى البرجوازية في حين اعتُبر هنا من إنجازات النُظُم الاشتراكية التي حرّرت الفلاحين العرب من قيود الإقطاع والملّاكين الكبار.

شرعية التحويل الاجتماعي
هذا المنظور إلى عملية التحويل الاجتماعي يغيّر الكثير من الأمور، ويضعها في سياق تاريخي مختلف عما عرفناه أو عهدناه. فبالنسبة إلى أكثرية الفئات العاملة التي استفادت من هذا الانتقال الكبير حينها لم تَعُد الشرعية السياسية تنطلق من مبدأ التمثيل بحدّ ذاته كما تحدّده الديموقراطية الليبرالية، بل من الإجراء السياسي الذي يُتَخذ لنقلهم من نظام القنانة والعمل «كأقنان» لدى الإقطاع إلى حيازة المُلكية والتصرّف بالإنتاج وفقاً لقانون العرض والطلب، على ضوء «القيود» التي تضعها نُظُم الإنتاج الجديدة. الحدّ من وصول هذه الفئات إلى السوق لبيع قوّة عملها، حتى للدولة أو مؤسّسات القطاع المشترك - كي لا نقول لقوى السوق على اعتبار أن ملكية وسائل الإنتاج كانت عامّة غالباً - هو ما أنهى شرعية، ليس فقط نمط الإنتاج الإقطاعي، بل أيضاً الديموقراطية التمثيلية المحدودة التي كانت تعبّر عنه سياسياً إبّان حقبة الانتداب.
فصل السياسة عن التنمية لا يقود فحسب إلى انتفاء معنى التمثيل السياسي بل أيضاً إلى تحوُّل المؤسّسات التمثيلية إلى هياكل فارغة

والحال أنّ التصوّر المتأخّر الذي كانت تملكه الأقلّية الليبرالية في تلك الفترة عن علاقات الإنتاج، كان يتعارض ليس فقط مع تطوّر قوى الإنتاج، بل أيضاً مع أنماط التبادل التجاري التي يجب أن تسود في ظلّ رأسمالية طرفية أو محدودة. تأخير هذا التطوُّر إلى أقصى حدّ هو الذي جعل التغيير يأخذ شكلاً قسرياً، عبر تدخّل الجيوش التي لم تكن حينها في وضعٍ يسمح لها بوضع تصوُّرٍ كامل عن نظام الحُكم، أو حتى علاقات الإنتاج ونظامها. كلّ ما أرادته الجيوش في حينه، إضافة إلى إزالة آثار الاستعمار، هو الحدّ من إذلال أكثرية الفئات الاجتماعية العربية التي كانت ممنوعة حتى ذلك الوقت، ليس فقط من التمثيل السياسي بل حتّى من الاستفادة من نتاج عملها في ظلّ سيادة علاقات إنتاج لا تسمح بأبسط أشكال التبادل التجاري، هذا إن لم تكن مناقضة بالكامل لها بوصفها أكثر أشكال التراكم بدائيّة وأوّلية.

قوى العمل في مواجهة قوى السوق
هذا لا يضع الجيوش أو النُظُم بالضرورة على طريق الاشتراكية كما أُشيع عن سرديات تلك الحقبة، بل يفتح الأفق لسيادة علاقات إنتاج تكون فيها المُلكيات الخاصّة الصغيرة في الأرياف بمثابة حجر الأساس لنمط الإنتاج الجديد الذي يصبح فيه ناتج العمل بدوره تداولياً، أي خاضعاً للقيمة التبادلية التي تعبّر عنها السوق حتى في ظلّ رأسمالية طرفية، أو نظام اشتراكي جزئي. لنَقُل أنّ ذلك يجعل «ريع الأرض» الذي كان يقوم عليه «نمط الإنتاج الإقطاعي» أو الخراجي، مُلكاً للفلاح يفعل به ما يشاء بدلاً من احتكاره المُطلَق إقطاعياً. «الثورة» هنا ليست في البناء الفوقي الخاصّ بإدارة الجيوش للسلطة وفقاً للتصوّر الاشتراكي أو سواه، بقدر ما هي في بنية علاقات الإنتاج التي وَضَعت، بعد نَقْل المُلْكية ولأوّل مرّة خلال عقود قوى العمل في مواجهة قوى السوق إما وجهاً لوجه أو بواسطة طرف ثالث، غالباً ما عبّرت عنه الدولة وقطاعات الإنتاج المشترك. وهو ما كانت تتفاداه، ليس فقط برجوازية ما قبل الحرب ومعها الإقطاع الكبير، بل أيضاً سلطات الانتداب التي لم يكن يخيفها شيء، قدر إمساك قوى الإنتاج الفعلية بزمام أمورها، وشروعها في استثمار مُلْكيتها الجديدة للأرض وناتج العمل في اتجاه تطوير علاقات الإنتاج إلى الحدّ الذي يجعلها الثورة الفعلية في تلك الحقبة، وليس الانقلابات أو إمساك الجيوش بالسلطة.