الرأسمالية الريعية المالية والنظام النيوليبرالي الذي يحتضنها وصلا إلى طريق مسدود. فالقدرة على إنتاج ثروة افتراضية عبر إصدار الأوراق المالية التي لا تستند بالضرورة إلى اقتصاد عيني، لم يعد قادراً على الاستمرار إلاّ عبر فرض الإملاءات على الدول والمجتمعات. وبما أن الهيبة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية تراجعت في مراكز مختلفة عن مراكز القرار الغربي بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص، فقد اعتمدت الولايات المتحدة القوّة، أي التدخل العسكري والأمني والحصار الاقتصادي والمالي والغذائي، كأداة لإخضاع الشعوب. لكن هنا نشأت معضلة لم تكن في الحسبان وهي رفض المزاج الشعبي الأميركي خوض حروب ضد دول وقوى لا تشكّل خطراً عليها وعلى وحدة أراضي الدولة. فالحرب على الإرهاب التي شُنّت منذ ولاية بوش الابن، لم تنل قبولاً أميركياً، سواء في أفغانستان أو العراق وسوريا، ولا سيما أنها تكبّدت خسائر بشرية لم تستطع تسويقها. ضريبة الدم لتنفيذ أهداف الهيمنة على العالم بعيدة المنال في المزاج الأميركي. لذا لجأت الولايات المتحدة إلى الحروب بالوكالة. وهذه الاستراتيجية بلغت طريقاً مسدوداً لأن الشعوب والقوى التي يمكن تجنيدها لم تعد جاهزة وقابلة لخوض هذه الحروب. آخر الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة هي في أوكرانيا. فقد أجبرت أوكرانيا والاتحاد الأوروبي على مواجهة روسيا. الإخفاق الكبير لدى الاستخبارات الأميركية في سوء تقديرها لموازين القوّة وتماسك الوضع الداخلي في روسيا سواء سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً يقف وراء الهزيمة العسكرية لأوكرانيا والأطلسي وفشل العقوبات الاقتصادية والمالية على روسيا. بل تحوّلت هذه العقوبات إلى مصدر قوّة لروسيا ونكبة اقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي.
أوغوز غوريل - تركيا

وهذا لم يكن مفاجئاً لمن يتابع بدقّة التحوّلات البنيوية التي حصلت في الغرب. فالنخب الحاكمة في أوروبا تحوّلت منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي إلى نخب منخرطة في الفلك الأميركي سياسياً واقتصادياً وثقافياً. موجة العولمة التي تروّج لاستبدال ثقافة الاستهلاك بثقافة الإنتاج التي تميّزت بها أوروبا عبر القرون الأربعة الماضية، خلقت نخباً لم تعد معنية بالتراث الثقافي ولا بالخصوصية الوطنية ولا حتى في الاستقلال السياسي والاقتصادي. حتى إن أميركا، ومع التحوّل إلى مجتمع ما بعد الصناعة، وتوطين الصناعات في دول الجنوب، أصبحت عرضة للتفكّك الداخلي تحت ضغط التراجع الاقتصادي ووصول نخب إلى الحكم، ديمقراطية وجمهورية، ليست معنية بالاستثمار الداخلي في البنى التحتية ودفع الاقتصاد الإنتاجي، تبحث عن تشريعات تسهم في التحوّل إلى اقتصاد ريعي على حساب صناعاتها.
ما تتسم به النخب الحاكمة في الغرب هو الانحدار في العلم والخبرة وعدم الرغبة والقدرة على الاستفادة من الأخطاء. الجنرال جياب الذي انتصر على الأميركيين في فيتنام، يصف الأميركيين بأنهم تلاميذ غير نجباء لأنهم لا يتعلمون من أخطائهم. فالتاريخ في المدارس الأميركية مادة منبوذة، أما الشتيمة أو التحقير بشخص فيتم عبر القول إنه «من التاريخ» (he is history). هذه الصفة في الجهل وعدم الخبرة امتدت إلى نخب أوروبا الذين «تأمركوا». فهم متنكّرون للتاريخ والجغرافيا. ظهر ذلك أثناء محادثات وزيرة خارجية بريطانيا العظمى في موسكو. فقد طالبت بخروج روسيا من مقاطعة روستوف وهي في داخل روسيا! يمكن الاسترسال في تعداد الأخطاء في القرارات والسياسات غير المدروسة. فرغم تحذيرات الاحتياط المركزي الأميركي والخزينة الأميركية للإدارة الأميركية بعدم ارتكاب حماقة تجميد الأرصدة الروسية وعزل المصارف الروسية عن منظومة «سويفت»، إلا أن البيت الأبيض أمعن في قراره.
الإخفاقات الغربية لم تأت من فراغ أو صدفة. فالغرب يشهد منذ أكثر من أربعة عقود هجوماً ممنهجاً على مكوّنات التماسك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أي العائلة، والدين، والوطن، والبيئة، والثقافة، باسم الحداثة وما بعد الحداثة. أظهر التعداد السكاني في أميركا أنه منذ 2000 وحتى 2020 بات أكثر من 50% من الأسر التي يوجد فيها أطفال تفتقد إلى أحد الأبوين. وارتفع عدد الأطفال الذين لا يكملون دراساتهم الثانوية، ما يؤدي إلى دخول سوق العمل بلا مهارة، فضلاً عن تفشّي المخدّرات وألعاب الفيديو وسائر «ملذّات» الصناعات والخدمات الاستهلاكية. يقول يوفال هراري مستشار كلوس شواب، الرئيس المؤسّس لمنتدى دافوس، إن معظم الناس في العالم لا جدوى ولا منفعة منهم، وبالتالي يجب التفكير الجدّي في تخفيف عدد السكّان في العالم. الهجوم على الأسرة تم من خلال تحويل دور المرأة التقليدي إلى كائن يعتبر الأسرة عبئاً عليها وعلى طموحاتها. ثم أتى غزو ثقافة «الووك» لرفض التمييز بين الذكر والأنثى بهدف تذويب الوعي الجنسي لدى الأطفال في المدارس... نذكّر هنا بمقولة رئيسة وزراء المملكة المتحدة مارغاريت تاتشر، التي نفت وجود شيء اسمه مجتمع. كذلك الاقتصاديّ ميلتون فريدمان صاحب الفكر النيوليبرالي الذي اعتبر أن المرجعية القيمية ليست في المجتمع بل في جمعية المساهمين للشركة! فالإنسان لم يعد كائناً قائماً بمقدار ما هو جزء من «الشركة» إذا استطاع أن يكون كذلك، وإلا فهو لا شيء.
وتحت راية الضغط الاقتصادي، تمّ تقليص نسبة الخصوبة عند المرأة ونسب الولادة. فقد انخفضت خصوبة المرأة في الولايات المتحدة إلى 1.64، بينما الحد الأدنى للحفاظ على مستوى السكّاني هو 2.1. إذا لم يرتفع المعدّل، فالولايات المتحدة مهدّدة بالانقراض السكّاني. ويعود هذا الانخفاض إلى تغيير ثقافي إذ أصبح الإنجاب اعتداء على الجسد. والشركات الكبرى في الولايات المتحدة تدعم حق الإجهاض، لأن كلفة عملية الإجهاض أقل بكثير من كلفة الأمومة والحضانة.
الحلّ المؤقّت هو الهجرة الوافدة إلى الولايات المتحدة، سواء أكانت شرعية أم غير شرعية. لكن في زمن الضيق الاقتصادي تصبح هذه الهجرة عبئاً رغم أن الفعّاليات الاقتصادية تحبّذها لأنها تخفّض مستويات الأجور. والأمر نفسه في أوروبا التي شجّعت الهجرة من أفريقيا للاستفادة من اليد العاملة الرخيصة.
الدين نال حصّته من هذا التغير الثقافي. الهجوم على المؤسسات الدينية تركّز على الأخطاء التي قد تكون ارتكبتها عن قصد أو عن غير قصد، لتشكّل مدخلاً للتشكيك في الدين. الهجوم على الكنيسة الكاثوليكية بحجة الانحراف في سلوك بعض رجال الدين أصبح مدخلاً للهجوم على الكاثوليكية. كذلك الأمر بالنسبة إلى الإسلام الذي تمّ تشويهه عبر تشجيع حركات تدّعي الجهاد. والهجوم على الدين يأتي من باب «حرّية التعبير» الفضفاضة. الهجوم على الرموز الإسلامية هو «حرّية تعبير» بينما انتقاد الممارسات الصهيونية في فلسطين هو «معاداة للسامية»، أما النيل من الرموز المسيحية فيصبح «إبداعاً» فنّياً. وشكّلت الأزمة الأوكرانية غطاءً لعملية «فرز» بموجبها انفصلت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الروسية متذرّعة بقضايا دينية.
وفي عصر العولمة لا مكان للمواطنة بل لمجتمع المستهلكين. الإنسان يتحوّل من مواطن ليصبح رقماً مستهلكاً فقط لا غير. الشعور بالانتماء الوطني هو نوع من الرجعية والتخلّف الثقافي. وصلت الأمور إلى اعتبار تجاوز السيادة لكل دولة مسألة أساسية لتطوّر البشرية. فمؤسّسات الاتحاد الأوروبي تتنكّر للعامل الوطني وتعتبره عنصر إزعاج وتخلّف. ونظريات «المجتمع المفتوح» التي يروّج لها معهد جورج سوروس، تستهوي شباباً لا ثقافة لهم ولا معرفة بتاريخ مجتمعاتهم. الدولة صاحبة السيادة تحافظ مبدئياً على ثروات البلاد، وبالتالي يجب تحجيمها لحماية الشركات الوافدة المستغلّة للثروات بلا أي اكتراث لحقوق الشعوب. حقد أمثال سوروس على روسيا والصين ينبع من حقده على الدولة وحكّامها الذين يحافظون على مصالح أوطانهم. دعم وأمثاله، العديد من الثورات الملوّنة في دول الجنوب وفي دول كانت تابعة للنفوذ السوفياتي بهدف إرساء تبعية النخب للخارج.
كذلك هناك هجوم خبيث على البيئويين، عبر إظهار عدم معرفتهم بدقّة قضايا البيئة ومرتكزاتها. تسيّس البيئة وقضاياها لم ولن يخدمها لأنها بدلاً من أن تكون موضوع إجماع أصبحت مادة خلافية تقسم المجتمعات وتهدد تماسكها. وأكبر دليل على ذلك، هو ما يحصل في أوروبا والولايات المتحدة، حيث تتحوّل قرارات الحدّ من استعمال المواد الهيدروكربونية والوقود الأحفوري، إلى قرارات مثيرة للجدل والانقسام. ففي ألمانيا مثلاً، أدّت هذه القرارات إلى التخلّي عن المفاعلات النووية لتوليد الطاقة، ثم أتى التوقف عن استيراد الغاز من روسيا ليرفع كلفة الطاقة ويقلّص القدرة التنافسية للصناعة. في الواقع، يبدو أن هناك رغبة في تحميل مسؤولية ذلك لسياسات حكومة أولاف شولز التي تضم وزراء بارزين من حزب الخضر. وما يزيد الطين بلّة هو إقدام هؤلاء الوزراء على استبدال الفحم الحجري بالغاز الروسي رغم أن الفحم الحجري هو أكثر تلويثاً. فكيف يمكن للبيئويين تبرير ذلك؟
من جهة أخرى، فإن دعوة البيئويين لاستبدال مصادر الطاقة «النظيفة» والمتجدّدة كطواحين الهواء مثلاً، بالطاقة التي تعتمد على الوقود الأحفوري لم تدرس التداعيات الاقتصادية على الصناعة وعلى طبقة المواطنين الذين يعتمدون على الصناعة. دراسات الجدوى الاقتصادية لا تشي بأنه يمكن تشغيل المصانع بكلفة تنافسية، وهذا يشبه قراراً غير معلن بالخروج من الحقبة الصناعية للدخول في مرحلة لم تُحدّد بعد ملامحها ولا آفاقها. كما أن الادّعاء بأن الاحتباس الحراري سببه التلوّث الذي ينتج من استعمال الوقود الأحفوري الذي ينشر ثاني أوكسيد الكربون لا يأخذ في الحسبان أن هذا الغاز مفيد للنباتات التي تستعمله لإنتاج مادة الكلوروفيل الضرورية لبقائها وتقليص حاجاتها إلى الماء... صحيح أن هناك وعياً متنامياً في المجتمعات البشرية للحفاظ على البيئة لكن ليس هناك معايير علمية متفق عليها لتحقيق ذلك. تسييس البيئة قد يضرّ بقضية الحفاظ على البيئة وربما هذا هو المقصود.
الولايات المتحدة قررت إعادة توطين قاعدتها الإنتاجية الصناعية في دول الجنوب والخروج من الحقبة الصناعية إلى حقبة ما بعد الصناعة، معتبرة أنه بإمكانها السيطرة على العالم طالما كانت مسيطرة على المال والشرايين التي يتدفّق فيها. لكنّ الأزمة في أوكرانيا، وقبلها جائحة الكورونا كشفتا عن عورات الاقتصاد الأميركي؛ إذ أصبح منكشفاً تجاه العالم في تأمين حاجاته في السلع المصنّعة والمواد النفطية والأسمدة والمعادن النادرة وغيرها. وفي إدارة بايدن كانت القرارات الأولية بإلغاء تراخيص التنقيب عن النفط، وإلغاء استكمال أنبوب «كيستون» الذي يجرّ النفط من ألاسكا إلى الولايات المتحدة عبر كندا. البيئة كانت متن الخطاب الانتخابي لبايدن المشجّع لاستبدال مصادر الطاقة. ثم وقعت الولايات المتحدة في حالة ضيق اقتصادي وارتفاع جنوني لأسعار الطاقة ولسائر السلع.
الأزمة في أوكرانيا وقبلها جائحة كورونا كشفتا عن عورات الاقتصاد الأميركي الذي أصبح منكشفاً تجاه العالم في تأمين حاجاته من السلع المصنّعة والموادّ النفطية والأسمدة والمعادن النادرة


الركيزة الخامسة لتفكيك المجتمعات في سبيل نشر عولمة مادية محكومة من طبقة غير منتخبة لا تخضع لمساءلة ومحاسبة، هي الهجوم على الثقافة بشكل عام والموروث الثقافي بشكل خاص. نكتفي في هذا المجال ببعض الملاحظات حول توجّهات لنزع الثقافة ومحتواها عن البيئة التي أنشأتها. فعلى سبيل المثال، كرّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه لا توجد ثقافة فرنسية خاصة بها بل ثقافة دون أي تمييز في فرنسا. ونرى مثل هذا الطرح في طروحات العلوم الإنسانية التي تنزع عن بيئتها الفعلية، إذ يتبيّن أن هناك قراراً متعمّداً لنزع المضمون السياسي للاقتصاد. فيتم تدريس الاقتصاد كـ«علم» قائم بذاته ومنفصل عن البيئة التي يوجد فيها. يفتتح الاقتصادي الراحل مارك بلوغ في مؤلّفه الشهير حول تاريخ الفكر الاقتصادي، كتابه بالإشارة إلى أنه تعمّد عرض نظريات الاقتصاديين من دون أي اعتبار لظروف حياتهم التي قد تكون أثّرت في فكرهم. كما أن تدريس علم الاجتماع في الغرب كان منفصلاً عن سائر العلوم الإنسانية وكأنّ البشر يتم درسهم كالحشرات.
وإضافة إلى ذلك، نشهد انحداراً في مستوى الأداء الفنّي والإبداع. فهناك من يعتبر الإباحة في الفن نوعاً من الإبداع، وهناك من يتهجّم على القيم كمتحرّر من قيود المجتمع. الدافع الأساسي لذلك الانحدار هو تسليع الثقافة وجعلها مادة قابلة للبيع والشراء وفقاً للموجات الرائجة.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي في لبنان