إلغاء الطبقة الوسطى يعني إلغاء الاستقرار الذي ينتج الحضارة. وهذا الإلغاء يأتي عبر إلغاء التصنيع والتحوّل إلى ثقافة الاستهلاك التي تسهم في كبح الإبداع والإنتاج. أما إلغاء التصنيع، فيأتي مع التحوّل إلى اقتصاد ريعي. هذا هو مسار المشهد في الغرب والدول التي تتبع النموذج الإرشادي الغربي. لقد أظهر الباحث الكندي مات إهريت (Matt Ehret) كيف تحوّلت الولايات المتحدة، ومعها كندا، من مجتمع صناعي صاحب طبقة وسطى، إلى مجتمع خدماتي ريعي تحكمه أوليغارشية مالية لا تكترث إلى مصير الأكثرية. وجاءت هذه المقاربة في ثلاثية بعنوان «صراع الأميركيتين» مع مساهمات من زوجته سينتيا شونغ (Cynthia Chung) حول تاريخ الولايات المتحدة منذ حرب الاستقلال في الربع الثالث من القرن الثامن عشر حتى ظهور ونمو أوراسيا. الاحتكار هو سمة الرأسمالية الريعية المالية التي استطاعت تسخير المشاركة الشعبية سياسياً في نظام سياسي يُسمّى بالديموقراطية يقوم على أن المال يختار المرشح ويوصله إلى المسؤولية التنفيذية والتشريعية. في الواقع أصبحت ثقافة الاستدانة والريع الطريق الفعلي للعبودية لأن معظم العمليات المالية والهندسات كانت تستند إلى الدين كوسيلة وكرافعة للمردود على الرأس المال. فالتفكيك الصناعي في الولايات المتحدة نتج من أمولة رأس المال، أي تحويل وظيفة رأس المال في الطاقات الإنتاجية، إلى استثمارات في الأسواق والأوراق المالية حيث الربحية أكبر وأسهل. لذا، تعاظم الانفصام بين السوق المالية، والسوق الفعلية للسلع والخدمات، علماً بأن هذا النوع من الاستثمار في الأوراق المالية والهندسات المالية هو ممارسة افتراسية، أي تشريع لغزو الشركات وفرض الاندماج القسري بحجة «عقلنة» النشاط أو القطاع. وتزامن ذلك، مع الهجوم على المؤسّسات العامة التي كانت تنتج خدمات عامة، مثل الكهرباء والماء وسواها بحجّة أنها الطريق إلى العبودية كما نظّر لها فريدريش فون هايك في مؤلفه الشهير «الطريق إلى العبودية» الذي نُشر عام 1947.
فنتيجة هذا المسار، ظهر التمركز الشركاتي في معظم القطاعات في الولايات المتحدة. الإعلام المكتوب والسمعي والمرئي بما فيه التلفزيون والسينما على سبيل المثال، أصبح مملوكاً بنسبة 90% من ستّ شركات هي: كومكاست (Comcast)، أي تي أند تي (AT&T)، بارامونت غلوبال (Paramount Global)، سوني (Sony)، ديزني (Disney)، نيوزكورب (Newscorp). أما في القطاع المالي فهناك خمسة مصارف تسيطر على أكثر من 75% من الأصول المالية المتداولة في القطاع المالي، وهي: بنك أوف أميركا (Bank of America)، مجموعة غولدمان ساكس (Goldman Sachs Group)، ويلز فارغو (Wells Fargo)، سيتي غروب (Citigroup)، وجي بي مورغن (JP Morgan). وهذه المصارف الخمسة مملوكة أو تسيطر عليها، أربع شركات مالية تحدّد السياسة النقدية للولايات المتحدة وليس مصرف الاحتياط الاتحادي، علماً بأن هذا الأخير مملوك أيضاً من مصارف خاصة. أما الشركات الأربعة فهي: فيدليتي انفستمنتس (Fidelity Investments)، فانغارد غروب (Vanguard Group)، باكستريت (Backstreet)، وبلاك روك (Black Rock). وفي قطاع الطيران، تسيطر خمس شركات على 71% من سوق الطيران التجاري المدني، وهي: أميركان إيرلاينز (American Airlines)، ٍسوثويست (Southwest)، يونايتد (United)، دلتا (Delta)، وألاسكا (Alaska).
هذه بعض الأمثلة عن التمركز في القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة. وهناك دراسات عديدة وتقارير رسمية صادرة عن الإدارة الأميركية إضافة إلى أبحاث أكاديمية تؤكّد أن الميل نحو التمركز (economic concentration) واتّباع سلوك احتكاري يؤدّي إلى تراجع التنافسية والإنتاجية والإبداع. وهذا ما كان يتم تدريسه في كلّيات الاقتصاد في الجامعات الغربية سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا أو كل دولة اعتمدت نظام الرأسمالية واقتصاد السوق. الجدل حول منافع التمركز الاقتصادي ما زال قائماً في الغرب. هناك من يرى أن للتمركز فوائد إيجابية عندما تكون كلفة الأبحاث عائقاً أمام الشركات التي فقدت إنتاجيتها أو كفاءتها، سواء في قدرتها التنافسية أو في البقاء، وبالتالي يصبح الاندماج مخرجاً وحيداً. كما أن الإنتاجية الضمنية في بعض الأصول كبراءات الاختراع أو أقسام الأبحاث أو الحصص في الأسواق أو شبكات التوزيع على سبيل المثال، تسهم في الدفع نحو الاندماج. وفي المقابل، هناك شركات تسعى إلى الاندماج لتستفيد من الريع الضمني في الموقع الاحتكاري أو الشديد التمركز مثل شركات التوزيع بالمفرّق التي قد تقع في الصنف الأول من الشركات التي فقدت كفاءتها، بينما شركات المواصلات وشركات الطيران تقع في الصنف الثاني التي تسعى إلى تعزيز الريع. وهناك نوع ثالث من الشركات التي تحمل في طيّاتها النوعين السابقين، أي فقدان الكفاءة والسعي نحو الريع، وذلك يقع في الشركات التكنولوجية المتطوّرة.
الإحصاءات تُشير إلى أنه خلال العقدين الماضيين تفاقمت ظاهرة التمركز الاقتصادي سعياً نحو المزيد من الريع على حساب التنافس. فمنذ 20 سنة كانت كلفة الدخول إلى الإنترنت منخفضة في الولايات المتحدة مقارنة مع أوروبا، بينما أصبحت الكلفة ضعفين في عام 2018 مقارنة مع أوروبا. أسعار بطاقات السفر في الطيران في أميركا ارتفعت مع تمركز الشركات، بينما انخفضت في أوروبا بسبب زيادة التنافس.
سمة الاقتصاد الأميركي هو الميل نحو التمركز ما يعزّز الاقتصاد الريعي على حساب الاقتصاد الإنتاجي. والاقتصاد الريعي المتفاقم في الغرب بشكل عام، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، يخوض معركة تغيير وجه النظام السياسي. فالريع بحاجة إلى حماية لا توفّرها إلا الدولة، وبالتالي لا بدّ من السيطرة على الدولة! المسؤولون في الدولة، سواء كانوا «منتخبين» أو «معيّنين»، مدينون لمن أوصلهم إلى موقع المسؤولية. ليس الناخب من أوصل «المسؤول» بل من موّل المرشّح وأعطاه القدرة لإقصاء منافسيه. أما المسؤول «المعيّن» فبطبيعة الحال ولاؤه لمن أوصله. وبالتالي تمّت السيطرة على الدولة عبر إيصال شخصيات ضعيفة، رديئة في المعرفة والخبرة والأخلاق ولا رأي خاص لها إلاّ ما تمليه الجهات التي تقف وراءها.
بروز طبقة سياسية مرتبطة بمراكز المال، أسهم في تحويل المؤسّسات الدستورية إلى مؤسّسات تحمي الطبقة الحاكمة على حساب الطبقة الوسطى والمواطن. سيطرة المال لم تقتصر على السلطة التنفيذية والتشريعية، بل وصلت إلى السلطة القضائية؛ هناك قرار شهير للمحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة صدر في عام 2010 يعتبر أن الإنفاق المالي في الحملات الانتخابية نوع من التعبير عن الرأي. وبما أن الدستور يصون حرّية التعبير فيصبح الإنفاق المالي حقّاً دستورياً! لذا أصبحت العملية الانتخابية تعبيراً عمن يستطيع أن ينفق ويحرم المرشّح الذي يمتلك وسائل التمويل من إمكانية الوصول إلى الموقع المطلوب.
الطبقة الريعية الحاكمة، وهي الأوليغارشية المالية طغت أيضاً على الجامعة والعالم الجامعي. فهي تموّل الجامعات ومراكز الأبحاث التابعة لها بهدف إنتاج متعلّمين وحاملي شهادات عالية جدّاً، إنما فاقدين للحسّ و/ أو العقل النقدي، ما يجعلها أقرب للقطيع بدلاً من روّاد المساءلة والمحاسبة. هذا التحوّل ينتج طبقة حريصة على عدم تغيير الواقع. الاقتصاد الريعي لا يمكن أن يتساكن مع العقل النقدي بل مع العقل (أو الغياب المطلق للعقل) التقليدي والنقدي. هذا ما يحصل في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة أيضاً.
من تداعيات الانضباط ضمن الأنماط الفكرية والذهنية التي لا تعارض السلطة، تدمير المهارات المبدعة والمنتجة. هكذا، تخلق الشركات الكبرى وظائف لا تعطي أي قيمة مضافة للإنتاج، بل لصورتها الدعائية. فهناك طواقم مهتمة بـ«التنوّع» العرقي، و«العدالة» بين الأقليّات العرقية والجنسية والدينية، وهي لا تقارب الإنتاجية الفعلية لا من قريب ولا من بعيد. هي طبقة لا تنتج إلّا الصورة النمطية التي تريدها المنظومة الحاكمة. والجامعات تعرض برامج تعليمية وشهادات في «اختصاصات» لا وظيفة إنتاجية لها. كذلك ظهرت وظائف لم تكن مألوفة مثل «المؤُثّر» (influencer) الذي يحدّد معايير اللباس والأكل... ووسائل التواصل الاجتماعي هي أداة فاعلة في هذا المجال، إذ خلقت حاجات لم تكن موجودة وليست ضرورية بل تعكس اللحظة والموضة فقط!
ومع ازدياد الفجوة الاقتصادية بين قلّة لا تُجاوز 1% تستحوذ على معظم مقدّرات البلاد، وبين سائر المواطنين الذين يتقاسمون الفتات، كان لا بدّ من اكتمال «عدّة الشغل» ومنع المساءلة أو المحاسبة، ومنع التفكير في القضايا الأساسية سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التربية أو البيئة. نصرة البيئة تشكّل القاعدة الفكرية لإلغاء الاقتصاد الإنتاجي، وبالتالي إلغاء الطبقة الوسطى. فالمجموعات البيئية تريد إلغاء القاعدة الإنتاجية المبنية على الوقود الكربونية واستبدالها بمصادر طاقة «نظيفة» ولكنها غير فاعلة ومناسبة لحاجات التصنيع. والحركات البيئية في الغرب أشدّ تطرّفاً للعقيدة وإن كانت على حساب مصالح الشعب.
هكذا استبدلت المفاهيم السياسية، كالديموقراطية، بمفاهيم «قيمية» و«ثقافية» تلغي مكوّنات المجتمع كالأسرة والدين والأمة. فمكان الديموقراطية حلّ مفهوم مكافحة التمييز حتى في التمييز الطبيعي بين الذكر والأنثى. «الثقافة الجديدة» أو ثقافة الوك (woke culture) تعتبر التمايز بين الذكر والأنثى نوعاً من التمييز لا يختلف عن التمييز العنصري، فتسعى إلى إلغاء هذا التمييز. لذا، فإن المدارس في الولايات المتحدة تشجع التلاميذ في الحضانة والابتدائي والمرحلة الإعدادية على التنكّر للتمييز بين الذكر والأنثى. وفي جلسة استماع في مجلس الشيوخ كانت مخصصة لتنصيب قاضية في المحكمة الدستورية العليا، دار نقاش حول تعريف «المرأة» وكأنّه بعد آلاف السنين من وجود المجتمعات البشرية، اكتشف المجتمع أنه لا يدري من هي المرأة! وفي هذا السياق، نرى تفكيك مفاهيم الأسرة. وتأكيداً لذلك، فإن التعداد السكاني الذي ينفّذه مركز الإحصاء السكّاني في الولايات المتحدة كل عشر سنوات، يظهر أن تعدادات أعوام 2000 و2010 و2020 فيها أكثر من 50% من الأسر التي يوجد فيها أطفال، تفتقد إلى أحد الأبوين. نصف المجتمع الأميركي الناشئ يفتقد إلى أحد الأبوين. ألا يتساءل المرء ما هو مصير الأسرة وما هو مصير المجتمع الأميركي أمام هذه الحقائق؟
سمة الاقتصاد الأميركي هو الميل نحو التمركز ما يعزّز الاقتصاد الريعي على حساب الاقتصاد الإنتاجي


صحيح أن الدستور الأميركي يفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، إلا أن الثقافة الجديدة التي تأخذ بالاعتبار تعدّد الأديان والأعراق، تأخذ من هذا التنوّع حجّة لإلغاء الخصوصية العائدة لمكوّنات المجتمع الأميركي. أما على صعيد الأمة، فإن نزعة العولمة المسيطرة على عقول النخب الليبرالية والنيوليبرالية ترى أن الأمة عائقاً أمام تطوّر المجتمعات. بعض المتموّلين أنشؤوا مؤسّسات تدعو إلى المجتمع المفتوح (open society)، أي المجتمع الذي أشار إليه الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في الثلاثينيات معتبراً أن المجتمع المفتوح تقوده الشمولية الأخلاقية بدلاً من القيم المحدودة والضيّقة في الدين وفي «المجتمعات المغلقة». وأحد رموز الأوليغارشية في الولايات المتحدة وفي العالم، جورج سوروس، وهو مجري الأصل، أنشأ معهداً بهذا العنوان وموّله برأس مال يقدّر بـ12 مليار دولار. هذه المؤسسة تموّل العديد من الجمعيات غير الحكومية حول العالم، بما فيها الأقطار العربية. أما في أميركا، فهذه المؤسّسة، موّلت حركات احتجاج لمجموعات تدّعي أنها ضدّ العنصرية كمجموعة «بلاك لايفز متر» التي حرّضت على مظاهرات وأعمال شغب في عامَي 2019 و2020. المستغرب أن مؤسسة جورج سوروس تتشارك في تمويل حركات الشغب مع شركات كبيرة مثل «NIKE» وغيرها. طالما أصبح الشغب في سبيل مكافحة العنصرية قائماً، ستتحوّل الأنظار دائماً عن القضايا الأساسية. هذه المؤسّسات والشركات موّلت حركات ثورية «غبّ الطلب»، خدمة لأولوياتها وأهدافها المخفية، هي تغذي التفرقة والفتنة بين مكوّنات المجتمع الأميركي لتدمير أواصر الأمة. هذا السيناريو تكرّر في العديد من الدول عبر ما سُمّي «الثورات الملوّنة». وإذا كانت الثورات الملوّنة غير كافية، تصبح الحروب هي الحلّ، فالمزيد من التدمير للمجتمعات!

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي