مرّ وقت طويل ولم تُنجز بعد خطة للتعافي، بل أُطيح بتلك التي أُقرّت في مجلس الوزراء قبل عامَين من الآن. ويبدو النقاش عالقاً بشأن مسائل ينقسم حولها الرأي والمصالح، وأخرى لم تنضج بعد وما زالت بحاجة إلى مزيد من التدقيق والتمحيص. وتتنوع العقبات التي تعترض طريق الحلّ سياسيّاً وإجرائيّاً وفنيّاً، ومن ناحية الرؤية العامّة والغايات المطلوبة. هذا ما يدعو إلى التعمّق في استنباط ثلاث ركائز للحلّ.
الركيزة السياسية
يقع حلّ الأزمات في مضمار السياسات العامّة التي تتعامل على نحو منظّم مع حاجات المجتمع ومشكلاته. لكن ما هو الأساس الذي تُبنى عليه السياسات العامّة؟ وهل هي استجابة تلقائيّة للنظام السياسي القائم؟ فإذا كان توافقيّاً وضعت هذه السياسات بناء على اتفاق الجماعات في ما بينها، وإذا كان النظام مركزيّاً كانت حصيلة ما تتوصّل إليه البيروقراطيّة الحكوميّة، أمّا إذا كان ليبراليّاً فستمثّل السياسات العامة بناء عليه مجموع خيارات الأفراد ومصالحهم. تتصل هذه المقاربة بثلاثة أنواع من الأسئلة:
- هل هذه السياسات مشروعة أم لا؟ من أين تستمّد مشروعيتها؟ من المؤسّسات أو من التوازن الجديد المنبثق من الصراع الاجتماعي أو من الأقلية النافذة القادرة على فرضها؟ وإلى أي حدّ تعبّر هذه السياسات والبرامج عن العقد الاجتماعي الحقيقي الذي يقوم عليه النظام السياسي للبلد؟
- كيف تُقاس العوائد ويقوَّم نجاح هذه السياسات أو فشلها؟ هل المقياس هو مقدار النجاح في تحقيق الأهداف المباشرة، مثل تصحيح أوضاع المصارف أو تأمين استقرار سعر الصرف؟ أم يُؤخذ في الحسبان أيضاً انعكاس ذلك على قضايا أوسع مدى مثل العدالة والثقة والتعافي طويل الأمد والنهوض الاقتصادي الراسخ؟
- هل تمثّل السياسات المتبنّاة المصلحة العامة؟ أي مصلحة؟ مصالح الأطراف الأقوى في العقد الاجتماعي الرسمي (في الدستور أو المواثيق) أو المُضمَر (جماعات الضغط المالي والاقتصادي والطائفي...)؟ أم المصلحة المشتركة التي تحقّق الحدّ الأدنى من الرضا عند جميع الأطراف؟
الإجابة من شأنها إبراز عناصر التأزّم السياسية في لبنان تجاه قضايا الحلّ:
أولاً لتضاؤل مشروعيّة المؤسسات المنوط بها وضع السياسات العامة للبلد ومنها برامج التعافي والإنقاذ، ويزيد من تضاؤل المشروعية الانقسامات الظاهرة والمكتومة بشأن قضايا النظام السياسي والعقد الاجتماعي.
وثانياً لعدم وجود معايير متفق عليها لتقويم مُخرجات تلك السياسات. فمثلاً، هل المقصود من قانون الكابيتال كونترول صون أموال المودعين ورصيد العملات الأجنبية المتبقي في البلد، أم الحفاظ على الأموال التي ستأتي من صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات الماليّة؟ تقييد الاستيراد للجم العجز التجاري أم الحفاظ على استقرار سعر الصرف؟ بعبارة أخرى هل يسعى القانون إلى حماية حقوق المتضرّرين الحاليين من الأزمة من مودعين وغيرهم، أم حفظ حقوق أصحاب الحقوق الجدد في مرحلة التعافي وبعدها؟
وثالثاً لتدنّي قدرة معظم الفاعلين الأساسيين في مجال صنع السياسات العامة على إدارة التغيير والانتقال، فلا صراع الجماعات وتنافسها أفضى إلى توازن جديد، ولا النخبة النافذة بقي لديها ما يكفي من القوّة والامتداد لفرض إملاءاتها وهي المنقسمة على نفسها، وليس هناك طرف طائفي أو اقتصادي أو سياسي قادر على فرض رؤيته على الآخرين. أمّا الانتخابات التي يُعوّل عليها بعضهم، فلا يبدو أن قضايا الإنقاذ الإشكاليّة هي عند معظم الأطراف من عناوينها الرئيسيّة.
لذا، لم تعد البنية السياسية قادرة على نسج التوافق على سُبل الحلّ، لكن ليس من الواقعيّة انتظار تغيّر هذه البنية، والخيار الممكن في الفسحة الزمنيّة المتاحة، هو العمل على تغيير قواعد عمل النظام لا النظام نفسه، وإعادة النظر بتراتبيّة أدوار الفاعلين فيه بما يتناسب مع الأهداف والمصلحة العامّة والتوازنات الحقيقيّة التي تُفضي إليها.

الركيزة الاقتصاديّة
من هنا تبدأ المقارنة بين القِيَم الاقتصادية والقِيَم الاسمية للأصول الناتجة عن معالجة الأزمة وتكاليفها وانعكاسها على مجمل الاقتصاد. إذ يُرجّح أن يظهر تفاوت بين القيمتين في كلّ مرحلة من مراحل توزيع الخسائر. ويُتوقّع أن تكون القيمة الحقيقيّة لأموال المودعين وأصحاب الحقوق في القطاع المصرفي أقل من قيمتها الاسميّة الظاهرة في ميزانيات المصرف المركزي والمصارف بعد إتمام إجراءات التصحيح المطروحة (مثل إجراءات استرداد الفوائد أو الاقتطاع من الودائع والسندات أو إعادة الجدولة، أو تحويل الودائع إلى أسهم، أو استبدالها بسندات دائمة، أو تحويل جزء منها إلى الليرة اللبنانية...). مردّ هذا التفاوت إلى عدّة أسباب وإشكاليّات:
1- تتغيّر القيمة الحالية الصافية للأصول بتغيّر معدّلات الفائدة. ويمكن النظر إلى هذه الأخيرة من منظارين: الأول نقدي يربطها بمتغيّرات السياسة النقدية فتتأثر بقرارات المصرف المركزي وسياسات المصارف العالمية، ولا سيّما الاحتياطي الفدرالي الأميركي. والثاني اقتصادي يرصد أثر عوامل أخرى على معدّلات الفائدة، مثل المخاطر العامة للاقتصاد ونسب النموّ المتوقّعة مستقبلاً والتضخّم وعجز المالية العامة ومستقبل الدين العام ومصيره وأرصدة ميزان المدفوعات والحساب الجاري والميزان التجاري وميزان الخدمات.
والفارق بين المنظورين في تحديد قيمة «الأصول المتبقّية بعد التصحيح» يكمن في الآتي: في الحالة الأولى ترتبط قيمة هذه الأصول بقرارات السلطة النقديّة. فإذا ارتأت مثلاً زيادة سعر الفائدة لضمان استقرار الليرة اللبنانية ولجم التضخّم، سيؤدي ذلك إلى خفض القيمة الحاليّة للأصول المتبقية لأصحاب الحقوق، والعكس بالعكس. أمّا في المنظار الثاني فسيكون لمتانة سياسات الإنقاذ والتصحيح وسلامتها أثر كبير على معدّلات الفائدة والقيمة الحاليّة للأصول. فإذا أدّت برامج الإنقاذ إلى تحسين وضع الاقتصاد ورفع معدّلات النموّ وخفض المخاطر وزيادة تدفّق الأموال من الخارج، فسيخفّض ذلك معدّلات الفائدة ويحسّن قيمة الأصول، والعكس بالعكس أيضاً.
يمكن النظر إلى المعيار المالي والمحاسبي لأسباب موضوعيّة على أنّه العامل المحدّد لكيفيّة توزيع الخسائر بين المعنيين في المدى القريب، لكن المعيار الاقتصادي هو الذي سيبيّن إذا كان التوزيع سيبقى على حاله بمرور الوقت أم سيتغير لمصلحة فريق على حساب آخر. فارتفاع معدّلات الفائدة يجعل المودعين الذي يحصلون على أموالهم على شكل دفعات طويلة الأجل في خانة الخاسرين بسبب تراجع القيمة الحالية لودائعهم المقسّطة. أما المصارف فستكون رابحة ولو أن القيمة الفعليّة للأصول التي تحملها ستتراجع بسبب ارتفاع سعر الفائدة، إنما سيكون هذا التراجع أقلّ من التراجع في قيمة تسديد الودائع على آجال أطول بكثير من أجل الأصول المذكورة. وستنقلب الآية إذا انخفض سعر الفائدة.
2- لا يمكن النظر إلى معظم الأصول والمطلوبات الناتجة عن عمليات إعادة الهيكلة الشاملة إلّا بوصفها أصولاً غير قابلة للمتاجرة الدولية، أي أنّ قيمتها الفعلية ترتبط بأداء الاقتصاد وليس بالتقويم المحاسبي لها. وهذا ينطبق على الودائع والسندات المتبقية بعد التصحيح، وعلى الودائع المحوّلة إلى أسهم... وبما أنّ معظم هذه الموجودات غير قابلة للتبادل الدولي ولا سيّما في مراحل التعافي الأولى فإنّ قيمتها السوقيّة تتأتّى من أداء الاقتصاد نفسه وليس من القيمة الاسمية المعطاة لها عند إعادة الهيكلة.
3- في مقابل الأصول الحقيقيّة الباقية بعد إعادة الهيكلة سيكون لدينا نوعان من الالتزامات؛ التزامات تظهر في الميزانيات والموازنات مثل الودائع التي ستُسدّد على مدى زمني طويل وفوائد الدين العام وأقساطه... وأخرى لا تظهر فيها مثل المتأخّرات المتوجّبة على الدولة للمقاولين والمتعهدين والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والمستشفيات... يُضاف إلى ذلك التزامات تتعلّق بدور الدولة ووظائف لا يمكن التخلّي عنها مثل الأمن والدفاع والقضاء وإدارة الخدمات الأساسيّة كالتعليم والصحّة وصيانة البنى التحتيّة وتوفير البيئة الاقتصاديّة اللازمة للنهوض مجدّداً وتمويل أنظمة التعاضد والتأمين في القطاعَين العام والخاص. إنّ الإنفاق على هذه الوظائف يحظى بالأولويّة حتى على استرداد الودائع. لذا، لا تكون الدولة ملزمة بتحمّل قسطها من الخسائر إلّا بعد تلبية هذه الالتزامات.
4- لا تتعدّى مسؤولية الدولة عن الخسائر، بالمعنى الاقتصادي للكلمة، قيمة سندات اليوروبوندز التي توقفت عن دفعها للمصارف والمصرف المركزي، والتي لا تزيد قيمتها عن 20% من مجموع الخسائر، وتقلّ عن 15% من مجموع موجودات القطاع المصرفي بالعملات، باستثناء تسليفات القطاع الخاص. أمّا القسم الأكبر من الخسائر فيُعزى إلى التوظيفات الخاطئة والمغامِرة وغير المسؤولة التي قامت بها المصارف مع مصرف لبنان بصفته التجارية. هنا لا بد من التدقيق في الطبيعة الاقتصاديّة لخسائر المصارف؛ فإقراض الدولة بالعملات الأجنبيّة يخلق أصولاً ماليّة لا أصولاً حقيقيّة، لأنّه يغَطّي عمليات تجديد ديون سابقة مع فوائدها، أمّا التوظيفات لدى المصرف المركزي فإنها ترتبط بصفقات حقيقيّة تتمثّل في تمويل استيراد سلع وخدمات من الخارج، وهذه يسدّد المستهلكون والمستثمرون أثمانها من مداخيلهم الناتجة عن مشاركتهم في النشاط الاقتصاديّ.
عموماً، إن مراعاة المعايير الاقتصادية في برنامج الإنقاذ والتصحيح يجب أن تحقّق: 1) التوازن الفعلي بين الاقتصادين المالي والحقيقي. 2) تقديم ضمانات اقتصادية بأنّ توزيع الخسائر سيبقى على حاله ولن يتغير لغير مصلحة المودعين الذين قد تزيد خسائرهم تحت وطأة سياسات نقدية أو مالية غير ملائمة. 3) التحقّق من أنّ الاقتصاد الجديد سيحوّل جزءاً من النشاط الداخلي إلى نشاط قابل للتبادل الخارجي وهذا ما تحقّقه مثلاً زيادة الصادرات والاندماج في المشاريع الإقليمية الكبرى في قطاعات الكهرباء والطاقة والنفط والغاز والاتصالات. 4) التمكين الاقتصادي للحكومة بحيث تغدو الضامن لعمليات استرداد الودائع وغيرها من إجراءات إعادة الهيكلة والتصحيح المالي، ما يتطلّب إصلاحاً إداريّاً شاملاً وحوكمة متطوّرة.

الركيزة التقنيّة
تتعلّق هذه الركيزة بسؤالين رئيسيّين: كيف تُقاس ملاءة القطاع المالي بعد تطبيق خطّة الإنقاذ والتعافي؟ وما هو نظام الصرف الذي سيُعتمَد: العائم أو الثابت أو المرِن ضمن هوامش عليا ودنيا، وهل ستكون المقارنةمع عُملة مرجعيّة واحدة (الدولار) أم مع سلّة من العُملات؟
من البديهي أن تطبق المصارف المعايير الدولية: بازل 3 والمعيار المحاسبي الدولي IFRS 9 وغيرها. والمصارف فاخرت قبل الأزمة بتحقيق نسب ملاءة وسيولة عالية ومؤشرات خطر متدنّية مقارنة بدول أخرى... لكن هل منع ذلك الانهيار؟ صحيح هي فعلت ذلك، إنما من ناحية الشكل لا الجوهر. فلا بدّ أنها كانت تعي جيّداً مخاطر إقراض الدولة والتوظيف لدى المصرف المركزي، وأن تثقيل أوزان هذه المخاطر تزيد على 50% و100% للودائع بالعملات لدى المصرف المركزي وسندات اليوروبوندز الحكوميّة على التوالي، لكنّها لم تحرّك ساكناً. كان عليها أن تطبّق إلى جانب المعايير المقرّرة من قِبل السلطة النقديّة، نماذجها الذاتيّة التي تعكس نظرتها الخاصة للمخاطر ومعرفتها عن كثب لمتطلبات كفاية رأس المال والسيولة الفعليّة التي تقيها فعلاً من المخاطر. وهذه النماذج معروفة ومنها: النماذج النوعية لقياس مخاطر الائتمان من ناحيَتي وضعية المقترض Borrower-specific، ووضعيّة السوق Market-Specific، والنماذج الكميّة مثل نموذجَي سجل الائتمان Credit Scoring Models والاحتمال الخطي Linear Probability Model، والنماذج الخطية التمييزية Linear Discriminate Models.
فضلاً عن ذلك تتضمن معايير بازل نفسها مدخلين لقياس مخاطر الائتمان الأول هو المدخل المعياري الموحّد الذي يدعو إلى أن تستخدم المصارف أنظمة تصنيف داخلية موحّدة للقروض التي تضعها السلطات الرقابية المختصة بما ينسجم مع التصنيفات الدولية للمخاطر والتي تُقاس بموجبها الجدارة الائتمانية (مثل أوزان مخاطر الائتمان المحدّدة بموجب التعميم الوسيط رقم 358)، أمّا الثاني فهو مدخل التصنيف الداخلي، وبموجبه يحدّد البنك متطلّبات رأس المال على نحو إفرادي لكلّ أصل من الأصول، وفق خمسة معايير: متطلبات رأس المال للقرض الذي يحصل عليه المدين واحتمال تخلّفه عن السداد خلال سنة؛ الخسارة الناتجة عن تعثّر المدين و معامل الارتباط بين وضعيّة المدين وباقي الاقتصاد؛ قيمة الانكشاف على التخلّف عن السداد بالدولار (أو بأي عملة أجنبيّة أخرى)؛ وأجل الدين. فلو لم تكتف المصارف اللبنانيّة بالمدخل الأول وطبّقت إلى جانبه الثاني ولو انتقائيّاً لظهر لديها بوضوح مقدار الخطر الناتج عن تركيز هذا الكمّ الهائل من التوظيفات لدى طرف واحد هو المصرف المركزي.
هناك حاجة للخروج من النفق النقدي الذي تمثّله السياسات العشوائيّة وغير المنطقيّة التي يُديرها مصرف لبنان


كان على المصارف أيضاً، لو أحسنّا الحكم على نيّاتها، أن تولي عناية خاصة للعلاقة بين أدائها وبيئة الاقتصاد الكلّي، ولديها القدرة على الاستشعار المبكّر للأزمات. فقد بيّنت بعض الدراسات أن احتمال نشوب الأزمات المصرفيّة يزداد عندما تكون بيئة الاقتصاد الكلّي ضعيفة. وقد ذكرت دراسة صادرة عن صندوق النقد الدولي قبل أكثر من عقدين، أن من مؤشرات ضعف بيئة الاقتصاد الكلّي: انخفاض معدّل النموّ، تدهور ظروف التجارة الدوليّة للبلد، وارتفاع معدّل الفوائد الحقيقيّة، وارتفاع نسبة الكتلة النقدية M2 إلى احتياطيات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة، وانخفاض نسبة الأصول السائلة إلى مجموع الأصول. وبيّنت الدراسة أيضاً أنّ القطاع المصرفي يتّسم بحساسيّة خاصة تجاه مشكلات ميزان المدفوعات التي قد تحفّز خروجاً مفاجئاً للرساميل والأموال.
التداخل الكبير بين ميزانيّتَي المصارف التجارية ومصرف لبنان وتأثّرهما بوضعية القطاع العام، وأحوال الاقتصاد ككل، كان يقتضي اعتماد معايير مركّبة ومتعدّدة لقياس الخطر ومنع نشوب الأزمات، وما زال الأمر مطلوباً لمنع تكرارها. وهذا يعني أنّ تطبيق القواعد العالمية العامة لقياس الملاءة والسيولة وضمان تحقيق كفاية رأس المال غير كاف، بل يجب إعادة النظر بهذه القواعد بما يتناسب مع وضع لبنان. وفي الحدّ الأدنى يجب إلزام المصارف اللبنانيّة بإضافة شرائح جديدة إلى رساميلها، وأن تلحظ في تقويم أدائها المؤشرات العامة للاقتصاد، ويجب أن تُلزم بتطبيق نماذح خاصة بها لتقويم الأصول التي تحملها.
بالنسبة إلى سعر الصرف لا بد من الاعتراف أولاً بفشل السياسات التي اعتمدها مصرف لبنان لضبط السوق منذ نشوب الأزمة، والتي بدأها بالتقليل، على نحو مراوغ من أهميّة ارتفاع سعر الصرف في «السوق الموازية» بعدما حصر نطاق تدخّله بالمحروقات والدواء والطحين، وتغاضى عن خطورة تسييل ودائع العملات الأجنبية بالليرة اللبنانية، والذي أدّى إلى إطلاق موجة تضخّم وانهيار في قيمة العملة الوطنيّة وكبّد المودعين والمواطنين والدولة خسائر هائلة. ومنذ أواخر العام الماضي عاد مصرف لبنان إلى التدخل في سوق الصرف لمنع مزيد من الانهيار ومحاولة سحب السيولة الزائدة، ولأن النجاح كان محدوداً، انتقل إلى سياسة تقييد المداخيل، وليس السيولة فقط، من خلال وضع سقوف مخفّضة للسحوبات من الرواتب والأجور فضلاً عن الودائع.
هناك حاجة إلى الخروج من النفق النقدي الذي تمثّله السياسات العشوائيّة وغير المنطقيّة التي يديرها مصرف لبنان، لكن مع تجنّب العودة إلى التثبيت النقدي الذي جرت تغطيته بديون متراكمة مباشرة وغير مباشرة، وعلينا بدلاً من ذلك، الإقرار بأنّ النموّ الاقتصادي وتوازن الحسابات الخارجية وكذلك الموازنة العامّة هي ضمانة استقرار سعر صرف العملة الوطنيّة على المدى الطويل، والانتباه إلى ضرورة أن يكون الاستقرار النقدي مدخلاً إلى زيادة الفعاليّة الاقتصاديّة لا إلى خفض الإنتاجيّة. وهنا يجب صرف اهتمام أكبر إلى سعر الصرف الحقيقي الفعّال effective Real exchange rate الذي يعكس في آنٍ معاً سعر الصرف الاسمي ومعدّل التضخّم بالمقارنة مع سلّة من العملات الأجنبيّة. وفي جميع الحالات يتطلّب لجم تراكم العجز الخارج مرونة مضبوطة في سعر الصرف للجم تراكم العجز في الميزان التجاري وتعقيم آثاره.

* هذا المقال هو جزء من مقال أطول صدر ضمن العدد السابع من النشرة الاقتصادية للمركز الاستشاري للدراسات في أيار 2022