يعاني سوريا ولبنان، اليوم، من مشكلة ارتفاع كلفة الاستيراد في ظلّ انكفاءٍ للقطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية يرافقه انهيار كبير في قيمة العملة يدفع المقيمون ثمنها الباهظ عبر تضخّم أسعار الاستهلاك وفواتير الخدمات. فمن جهة، تجهد سوريا لنفض ركام الحرب عنها واستعادة عافية قطاعاتها الإنتاجية تحت وطأة الحصار والعقوبات الاقتصادية. وعلى الضفة المجاورة، جاءت الأزمة اللبنانية لتزيد من مفاعيل تدهور الوضع السوري في دلالةٍ واضحةٍ على عمق الترابط بين اقتصاد البلدَين. فلبنان يحتاج إلى إعادة ترميم قطاعاته الاقتصادية وتنشيط إنتاجه وتصديره، وهو في مرمى العقوبات الأميركية أيضاً، والأشدّ تأثرّاً بقانون قيصر. ومع ذلك، فإنّ الدولة اللبنانية ما زالت ترفض فتح ملف التعاون الاقتصادي مع سوريا على أساس المصالح المشتركة التي من شأنها أن تُعيد رسم المسارات السليمة لخارطة النهوض الاقتصادي في البلدَين.
العملة الموحّدة: لِمَ لا؟
في الواقع، يُظهر لبنان وسوريا درجات عالية من الارتباطات الاقتصادية المركزية، ولا سيّما على مستوى الصدمات الخارجية وصدمات العرض المحلي وصدمات الطلب المحلي. ويمكن مراجعة هذه العلاقات «الجدليّة» بين الاقتصادي اللبناني والسوري عبر السنين الماضية، بدءاً بالحرب في سوريا وتأثيرها على لبنان وقطاعاته الاقتصادية، وصولاً إلى الأزمة اللبنانية وانعكاساتها على الاقتصاد السوري.
فقد أدّى الدمار الهائل الذي لحق بقطاعَي التصنيع والزراعة في سوريا، والذي تأثّر تعافيهما بالعقوبات أيضاً، إلى انهيار الطاقة الإنتاجية المحليّة، وانخفاض حجم الصادرات. فَقَدت سوريا مصدر الدخل هذا واضطرّت إلى زيادة الواردات لمواكبة الطلب المحلّي. وفيما كانت القيمة الإجمالية للصادرات السورية تبلغ قبل الحرب نحو 12.2 مليار دولار، فإنّها تبلغ اليوم نحو 700 مليون دولار فقط.

حسن بليبل ــ لبنان

كذلك الأمر في لبنان. فقد ارتفعت كلفة التجارة وبرزت صعوبة التصدير عبر سوريا التي تُعد الرابط البري الوحيد للبنان مع بقية العالم. وقد أدّى هذا التأثير إلى إعادة توجيه الكثير من التجارة نحو التجارة الجوية أو البحرية بشكل رئيسي عبر مرفأ بيروت أو مطارها، لكنّ هذه الخطوة لم تحقق نجاحات ملموسة. فتضرّرت القطاعات الزراعية والصناعية والمنتجات اللبنانية بشدّة، وأدّى ذلك إلى تراجع في الإنتاج وخسارة في التجارة الدولية.
أما بالنسبة لقطاع السياحة، فقد قُدّرت الإيرادات السياحية في سوريا لعام 2010 بنحو 8.21 مليار دولار، وهو ما يمثّل نحو 13.7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد حينها. أما في عام 2017، فقد جلب الزوار ما يعادل 14 مليون دولار أميركي فقط. على المنوال نفسه، تأثّر القطاع السياحي في لبنان بشكل كبير بفعل أزمات متلاحقة، وباستثناء المواطنين السوريّين واللبنانيّين، فقد انخفض عدد السوّاح الوافدين إلى لبنان بنسبة 23٪ في السنة الأولى من اندلاع الحرب السورية، خصوصاً مع القيود الرسمية أو غير الرسمية التي فرضتها العديد من الدول على السفر إلى لبنان بسبب الحوادث الأمنية والخلافات السياسية.
من الناحية النّقدية، كان سعر الصرف الرسمي بين الليرة السورية والدولار ثابتاً عند 46 ليرة سورية لكلّ دولار قبيل اندلاع الحرب. ثمّ انخفض على امتداد سِنِيِّ الحرب ليبلغ نحو 434 ليرة سورية مقابل كل دولار في عام 2020. أما في السوق الموازية فقد تراجعت الليرة السورية من 535 ليرة في مطلع 2019 إلى 750 ليرة سورية لكلّ دولار في أواخره. ومنذ تشرين الأول 2019، لعبت الأزمة اللبنانية دوراً في انخفاض جديد لقيمة الليرة السورية، ولا سيما بعدما فرضت المصارف اللبنانية قيوداً صارمة على عمليات الحصول على الدولار الأميركي وسحبه. وفق تقديرات غير رسمية، فإن 20% من الودائع في لبنان تخصّ مواطنين وتجّاراً سوريين مقيمين أو غير مقيمين في لبنان، أي ما يتجاوز 30 مليار دولار أميركي (الرئيس السوري تحدث عن وجود ما بين 40 و60 مليار دولار مجمّدة في المصارف اللبنانية). ومع استمرار انهيار الليرة اللبنانية، واصلت الليرة السورية انخفاضها أيضاً وهي تبلغ اليوم نحو 3500 ليرة سورية مقابل كل دولار.

بالأرقام

18.7 مليون دولار
هي قيمة الموز المصدّر من لبنان إلى سوريا عام 2020، وهي السلعة التي احتلّت المركز الأوّل في الصادرات إلى سوريا من جهة القيمة


11.7 مليون دولار
هي قيمة الأرز الذي صدّره لبنان إلى سوريا عام 2020، وهي السلعة التي احتلّت المركز الثاني في الصادرات إلى سوريا من جهة القيمة


8.7 مليون دولار
هي فيمة منتجات بوليميرات الإثلين التي صدّرها لبنان إلى سوريا عام 2020، وقد تلاها ألواح وصفائح البلاستيك بقيمة 7.9 مليون دولار والورق والكرتون بقيمة 3.9 مليون دولار


حتماً، لا يعود السبب الوحيد في التدهور الكبير لليرة السورية، إلى تراجع الليرة اللبنانية، لكن لا شكّ بأنّ تدهور عملتَي البلدين ناتج جزئيّاً من تأثيرهما المتبادل، الواحدة على الأخرى، إضافةً إلى خضوعهما معاً للعوامل الاقتصادية والسياسية المتشابهة والمترابطة التي تحيط بهما.
تظهر دراسة كافة التأثيرات والصدمات التي يتعرّض لها كل من الاقتصادَين اللبناني والسوري، ارتباطات وثيقة بين البلدين تفسح المجال للتفكير في خيار العملة المشتركة. ولو أنّ الأمر يبدو في ظاهره ضرباً من الخيال في أذهان كثيرين، إلّا أنّه من الناحية الاقتصادية النظرية ليس غريباً أبداً. فالصدمات الخارجية وتأثيرات الأسواق والعوامل الاقتصادية الأخرى، مترابطة جدّاً ومفاعيلها واحدة على الاقتصاديَن اللبناني والسوري (يجمع الاتحاد الأوروبي بين اقتصادات شديدة الاختلاف في بنيتها، على سبيل المثال). لذا، فإنّه لا مانع من أن يُطرح خيار العملة الموحّدة ويُصار إلى دراسته بصورة جدّية لما له من فوائد على كِلا الطرفين لناحية الحدّ من تقلبات أسعار الصرف وتكاليف المعاملات المرتبطة بها، وتشجيع الاستثمارات، وتعزيز المكاسب في سوق تجارية واحدة. وستؤدي زيادة التجارة بين البلدَين إلى استخدام أكثر كفاءة للموارد المتاحة وإلى تحقيق نمو أفضل في نهاية المطاف.
هذه النتيجة ظهرت في الاتحاد الأوروبي. فغالبية الدراسات التي أجريت بعد إنشاء الاتحاد النقدي الأوروبي، بما يخصّ تأثير العملة المشتركة مباشرة على التجارة، أظهرت أن وجود عملة مشتركة بين بَلَدَين يزيد من حجم المبادلات التجارية بينهما بنسبة تفوق ثلاثة أضعاف ما هي عليه بين بلدين بعملتَين مختلفتَين. وقد بَلوَرَ روبرت مانديل في أوائل الستينيات نظرية «منطقة العُملة المُثلى» (Optimal Currency Area) التي توصي بتوحيد العملات في حال وجود بلدين أو عدة بلدان في منطقة تستوفي شروطاً معينة أهمّها: مرونة الأسعار، سهولة تنقّل العمالة، التأثّر بالدورات والصدمات الاقتصادية ذاتها (خاصة في الاقتصادات الصغيرة والمنفتحة المعرّضة للصدمات الاقتصادية الخارجية بشكل كبير). وتتعزّز نتائج هذه النظرية في حالة الدول المتقاربة جغرافيّاً، إذ يؤخذ بالاعتبار التأثير الحدودي، ولا سيما في حالة اشتراك البلدين باللغة نفسها والقيم الثقافية المتشابهة، وهو ما يسمح بتنقّلٍ سهلٍ للعمالة بين بلدٍ وآخر من دون صعوبات في الاندماج في سوق العمل أو في اختلاف طبيعة السوق واللغة المهنيّة المطلوبة.
رغم ذلك، يكمن العيب الأبرز لاتحاد العملات، في فقدان السياسة النقدية كأداة سياسية مستقلّة لكل بلد. ومعها تُفقَد القدرة على استخدام سعر الصرف كحاجز ضد الاضطرابات المحلية والخارجية. فلا يكون كلّ بلد لوحده قادراً على الاستجابة للصدمات الاقتصادية بصورة تناسبه. لكنّ مانديل، يجادل بأن المنطقة ذات الصدمات شديدة الارتباط هي المنطقة الأمثل لتداول عملة موحّدة، لأن هذه المنطقة «بأكملها» ستكون قادرة على استخدام سياسة نقدية مشتركة للاستجابة للصدمات الاقتصادية التي تُصيب البلاد كافة. وبالتالي، إذا كانت الصدمات التي تعرّض لها كل من سوريا ولبنان شديدة الارتباط، فإن هذا من شأنه أن يوفّر دليلاً إضافيّاً يدعم فكرة قيام عملة موحّدة بين البلدين.

يُظهر لبنان وسوريا درجات عالية من الارتباطات الاقتصادية المركزية على مستوى الصّدمات الخارجية وصدمات العرض والطلب المحليّين


المشكلة الأخرى تنبع بشكل أساسي من كون العملة الوطنية تعبّر وترمز إلى السيادة الوطنية للبلد، فيكون من الصعب على المجتمع تقبّل إعادة تنظيم وتنازلٍ عن عملته في الحالات الطبيعية، إلا إذا رافق ذلك تغييرات سياسية عميقة. وفي الحالة اللبنانية لا يمكن الحديث عن سيادة للعملة الوطنية أصلاً. البلد كله قائم على معاملات تجارية بالدولار، والمواطنون سبق لهم أن تخلّوا عن عملتهم منذ بداية الأزمة لتشكيكهم بقدرتها على الصمود. لكن المصرف المركزي الذي يفترض به حماية الليرة، تنازل عن مسؤوليّته وبات من أشد المتلاعبين بالعملة الوطنية و«سيادة» البلاد النقدية. غير أنّ هذا الأمر من جهة سوريا، قد يكون مختلفاً رغم جميع الشوائب التي أصابت الليرة السورية لأن الشعب السوري لم يتخلَّ بعد كلياً عن عملته الوطنية. إذ إنّ سوريا قادرة على إعادة إحياء إنتاجها الزراعي والصناعي الذي سيساعدها في ضمان نقدها.

النزعة الاستقلالية وعرقلة التعاون
عرفت العلاقات اللبنانية السورية تجاذبات عديدة منذ وقت طويل. إبّان الانتداب الفرنسي لسوريا ولبنان، تعاطى الفرنسيون مع الكيانات المشرقية الجديدة على أنّها وحدة اقتصادية مشتركة تخضع لنظام جمركي وضريبي واحد، ولها مصرف مشترك لإصدار النقد، وتتمتّع بنظام موّحد للمصالح المشتركة. وتمثّلت نظرة فرنسا في جعل بيروت مرفأ للداخل السوري بأسره، فقد كانت سوريا تُعَدّ بلداً زراعيّاً بالدرجة الأولى، وهي تصدّر المواد الأولية (القطن، القمح، المنتجات الحيوانية) عبر لبنان ومرفئه الحيوي في بيروت. ومنه يستورد الداخل السوري المواد الأولية للصناعة والسلع الاستهلاكية، عدا عن كون لبنان مقراً للمصالح المشتركة، والشركات ذات الامتياز، ووكالات الشركات الأجنبية. والنقطة الأهم في هذه العلاقة هي كون لبنان المركز الرئيس للعمليات المالية في البلاد الخاضعة للحكم الفرنسي.

ستؤدّي زيادة التّجارة بين البلدَين إلى استخدام أكثر كفاءة للموارد المتاحة وإلى تحقيق نمو أفضل


وقد حرصت المفوضية الفرنسية العليا على مراقبة كافة الشركات الاستثمارية ذات الامتياز والإشراف على أهم المرافق الحيوية، لا لحرصها على مصالح البلدين، بل لكونها تحقق مقداراً لا يستهان به في إطار التبادل التجاري (من القطن السوري والحرير الخام اللبناني) ما بين باريس-المركز وكلٍّ من سوريا ولبنان بشكلهما الاقتصادي الموحّد. وكانت فرنسا تستفيد أيضاً من تحصيل العائدات الهائلة من الجمارك وقبض الفوائد وأعمال المراباة التي كان يقوم بها بنك سوريا ولبنان. إذ كانت المفوضية الفرنسية تخوّل بنك سوريا ولبنان تسليف الخزينة الفرنسية كمّيات غير محدودة من الأوراق المالية اللبنانية والسورية التي تذهب، غالباً، لسدّ حاجة الجيش الفرنسي والجيوش الحليفة في المنطقة.
ورغم تشابك العلاقات والمصالح في عهد الانتداب، إلّا أنّ مرحلة الاستقلال ولّدت تبايناً في وجهات النظر وأوقعت العلاقات المشتركة في مطبات ونزاعات عميقة. ففي نظرة إلى اقتصاد البلدين وطبيعة نشاطهما، تبرز سوريا في سياساتها نحو الاقتصاد الموجّه الذي يدعم القطاعات الإنتاحية، ويحمي قاعدة إنتاجيّته الزراعية والصناعية، بالإضافة إلى اعتمادها على قطاع تجاري شديد الاتكال في عملياته الاقتصادية الخارجية على كبار المستوردين والوسطاء والوكلاء الحصريّين للشركات الأجنبية (من رجال الأعمال اللبنانيّين). وفي المقلب الآخر نما في لبنان اقتصاد ذو وجهة خارجية ونظام تبادل حرٍّ للسلع، ويحكمه ويسيطر عليه قطاع الخدمات والمال والتجارة الدولية، وذلك كونه بلدَ سياحة وترانزيت.

إذا كانت الصدمات التي تعرّضت لها سوريا ولبنان شديدة الارتباط فإنّ هذا من شأنه أن يوفّر دليلاً إضافيّاً يدعم فكرة قيام عملة موحّدة بين البلدين


هذا التفاوت والاختلاف في سلوك الجارَين رسّخ أحوالاً من الفرقة والتناقض في المصالح الاقتصادية والتناحر عليها. وامتدّ السجال والاختلاف بين البلدين إلى أبعد من ذلك بعد توقيع اتفاق المصالح المشتركة الذي غلب عليه كل العناية لمصلحة لبنان، بيد أنّ بعض الأطراف السياسية بالغت في النزعة الاستقلالية وتعزيزها حيال سوريا، فصدرت عنها ردود فعل معارضة، منها موقف البطريرك أنطوان عريضة الذي أبرق إلى الرئيس بشارة الخوري بأنّ «هذا الاتفاق يفضي إلى الإضرار بالمصالح اللبنانية فضلاً عن تأثيره على استقلال لبنان الناجز»، مطالباً بوقف المشروع. كذلك راسل حزب الكتائب، الرئيس بشارة الخوري معبّراً عن رفضه لاتّفاق المصالح المشتركة ومعتبراً أنه يمسّ استقلال لبنان وسيادته إضافة لتجاوزه النصوص الدستورية.
في المقابل، أبدت فئات لبنانية أخرى تأييدها لهذه الاتفاقات الاقتصادية واعتبرته الحد الأدنى المطلوب للتعاون بين البلدين. فتساءلت صحيفة الحياة يومها: «ربع قرن بقيت المصالح المشتركة قائمة بيننا وبين سوريا تحت إدارة الانتداب الفرنسي، فلم نسمعكم يوماً تقولون إنّ الاستقلال مهدّد وإنّ المصالح المشتركة تمسّ سيادة لبنان. اليوم وقد أصبحت هذه المصالح المشتركة من مسؤولية البلدين، كيف يمكن اعتبارها تمس استقلال لبنان؟ وهل البقاء تحت جناح الأجنبي نعمة للاستقلال، وتحت جناح الوطني نقمة على الاستقلال؟».
المشكلات اللبنانية بمعظمها كانت نتيجة فهم خاطئ لفكرة الاستقلال؛ ناهيك عن الإفراط في التوجّه الليبرالي الغربي من دون درس المسائل الاقتصادية وأهمية التكامل مع سوريا. وفي حين كانت معالم القرن الجديد ترتكز إلى زيادة التجارة وتطويرها عبر رأس مال كبير وشركات متعددة الجنسيات، وظاهرة إلغاء الحدود القارية (الاتحاد الأوروبي مثلًا) والأممية (العولمة)، كان في لبنان مَن يُصّر على إبقاء «الكيان الاقتصادي الصغير» من دون تنمية قدراته واستغلال موارده وثرواته الطبيعية والبشرية، وكان يعارض أي فكرة حول التعاون الاقتصادي الجدّي مع الدول العربية - وبخاصّة سوريا - تحت شعار «استقلال لبنان» و«الحياد السياسي».