عشيّة انتهاء الحرب العالمية الثانية، فرنسا منهكة ومدمّرة وتستعدّ لإعمار ما تدمّر. مسكن الفرنسيّين وصحّتهم بوضع كارثي، ومعدل وفيات الأطفال مرتفع جداً. في ظلّ هذه الظروف تحديداً صدر مرسومَي 4 و19 تشرين الأول 1945 ليتحدّد من خلالهما إنشاء النظام العام للضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى وظيفته، والمستفيدين منه.في الأسباب الموجبة لإنشاء النظام العام للضمان الاجتماعي ورد الآتي: «الضمان الاجتماعي يخلّص العمّال من قلق ما قد يخبّئه المستقبل. إن هذا القلق الذي يخلق لديهم شعوراً بالدونية هو الركيزة الأساسية الحقيقية للتمييز بين الطبقات؛ بين أولئك الواثقين بأنفسهم وبمستقبلهم والذين يخيّم عليهم، في كل لحظة وعند كل منعطف خطر، قلق البؤس الذي قد يطالهم وأسرهم...».
أكثر من رواية تناولت تاريخ إنشاء الضمان الاجتماعي في فرنسا. بين سردية «الدولة الثورية» وسردية نسبة إنشاء الضمان الاجتماعي إلى الضغط النقابي العمالي، ثمة سردية تقول إن إرساء النظام هذا كان نتيجة التقاء الإرادة السياسية بضغط عماليّ قاعدي كبير، وهدفهما المشترك إرساء عقد اجتماعي جديد بين الفرنسيين أساسه التضامن الجماعي بعد انتهاء الحرب العالمية. لقد استطاعت النقابات العمّالية أن تترجم ميزان القوّة الذي بنته، إلى قوة جارفة دعمت وزير العمل في حينها أمبرواز كروازا (Ambroise Croizat) في مشروعه لبناء نظام للحماية الاجتماعية على أساس التضامن والعدالة.
لم يأت النظام العام للضمان الاجتماعي من الفراغ. فقد سبقه وجود صناديق تعاضد مهنية كتلك التي جمعت عمال سكك الحديد أو عمال المناجم، والتي أتت بدورها نتيجة نضال عمالي طويل وكانت غايتها تأمين استمرار شروط الحياة للعمال الذين يضربون عن العمل فيتوقف دفع أجورهم. وكان جزء من تغطية أكلاف المرض لبعض الفرنسيين، يمرّ عبر المؤسّسات والجمعيات الدينيّة على شكل مساعدات خيريّة. أما الغالبية العظمى من المقيمين في فرنسا، فكانوا غير مشمولين أو محميّين بأي شكل من أشكال الضمان الاجتماعي.
حوّل النظام العام للضمان الاجتماعي للعام 1945 الحقوق الذاتية «غير الموضوعية» التي تغطّي فئات محدّدة أو تمرّ عبر وسائط دينية أو إحسانية إلى حقوق موضوعية مباشرة تطال الجميع، فالكلّ محصّن في مواجهة المرض وحوادث العمل والشيخوخة وكذلك النساء في الحمل والأمومة.
الأزمة في لبنان هي فرصة لتحويل الحقوق الفئوية غير الموضوعية وغير المباشرة التي تمرّ عبر قنوات طائفية وزبائنية، إلى حقوق موضوعية مباشرة


ما يبدو فريداً في التجربة الفرنسية، هو أن إرساء النظام العام للضمان الاجتماعي جاء عشية انتهاء حرب طاحنة خرج منها الاقتصاد الفرنسي منهاراً. فكانت حماية المجتمع وحماية أفراده وصون كرامتهم، كما جاء في مسوغة إنشاء الضمان الاجتماعي، أساساً لبناء اقتصاد منتج ومتين ومستدام. لم ينتظر الفرنسيون إعادة بناء الاقتصاد وتدفّق المال حتى يبادروا إلى حماية العاملين فيه. بل على العكس، بنوا من المال القليل المتوفّر والمتدفّق، نظاماً متيناً يحمي العاملين والعاملات فيه ليكونوا بذلك عصب الاقتصاد القوي في السنوات التي تلت.
أزمة لبنان لا تعوّق إقرار التغطية الصحية الشاملة
أكثر من نصف اللبنانيين واللبنانيات غير مشمولين أصلاً بأي نظام للحماية الاجتماعية. واليوم مع الإفلاس، باتوا جميعاً من دون حماية لأن الموظّفين، من إداريين ومعلمين وعسكريين، والمشمولين بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وأعضاء نقابات المهن الحرة، والمعلمين والمعلمات، الذين كانوا يستفيدون من حمايات معينة قبل عام 2019، فقدوا هذه الحماية بسبب إفلاس كل الصناديق التي تعرّضت للسطو من السلطة وأصحاب المصارف.
وإذا نظرنا بالتحديد إلى المهن الحرّة والمشمولين بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فليس بالأمر العابر أن يجتمع نصف المقيمين في أيّ بلد كان على مصلحة مادية واحدة، وأن يكون خصمهم في المقابل واحداً معلوماً: المصارف وأصحابها. نصف المقيمين في لبنان يوازي نسبياً أضعاف العمال الذي انتظموا في الاتحاد العام للعمل في فرنسا، والذين أدّى اجتماعهم في تلك الحقبة، إلى إقرار نظام حماية اجتماعي عام لجميع المقيمين فيها.
الأزمة في لبنان، على مرارتها، هي فرصة لتحويل الحقوق الفئوية غير الموضوعية وغير المباشرة التي تمرّ عبر قنوات طائفية وزبائنية، إلى حقوق موضوعية مباشرة تشمل جميع المقيمين كركيزة أساسية لبناء دولة فاعلة وقادرة ذات شرعية مدنية واثقة واقتصاد متين، فيعيش فيها أبناؤها بكرامة من عملهم وخبراتهم. لأن الخسارة الحقيقية لأي اقتصاد، قبل أن تكون خسارة محاسبية بحتة، هي خسارة العاملين والعاملات فيه. فلنبادر لحمايتهم وحمايتهن.

* عضو في حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» تعمل في مجال الضمان الاجتماعي