قبل نحو عقدين جرت محاولة لإحياء القطاع الزراعي في لبنان وزيادة حصّته من الناتج المحلي الإجمالي. يومها رسَمَ رئيس جمعية المزارعين أنطوان الحويك، طريقاً لهذا الهدف يتضمن إنشاء 4 مؤسّسات: السجلّ الزراعي، غرف الزراعة المستقلّة، المصرف الوطني للإنماء الزراعي والمؤسسة العامة للضمان الزراعي من الكوارث. ورغم أن هذا الطريق نال موافقة مبدئية من قوى السلطة، إلا أنها سرعان ما تراجعت عنها عندما أصبح الأمر قيد التنفيذ على شكل مشاريع قوانين في مجلس النواب. قد لا يكون طريق الحويك بكامله صحيحاً، لكن لم يأت الرفض من هذه الزاوية، بل كانت لقوى السلطة حجج مرتبطة بتركيبة النظام القائم لخدمة نموذج اقتصادي يهتم حصراً باجتذاب الأموال لتمويل الاستهلاك المحلي المستورد بغالبيته. في هذا السياق يمكن فهم عمق التحدّي الذي تفرضه الأزمة الراهنة وبروز كثيرٍ من المشاريع (النظريّة والمتضاربة أحياناً) المقترحة لانتشال الاقتصاد اللبناني من محنته. فرغم تنوّع المقترحات واختلافها، إلّا أنّها تكاد تُجمع على أولويّة هيكَلَة القطاعات الإنتاجية بما يتناسب مع دورها في تحقيق استثمار منتج ونموٍّ سليم. قد تكون أفضل قاعدة لهذا المسار في قطاع الزراعة – القطاع «الأوّلي» وفق كلاسيكيّات الاقتصاد - المتجاوَز عنه لبنانيّاً منذ عقودٍ عدّة

تمثّل الزراعة نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، أي نحو 1.5 مليار دولار. ورغم صغر الحجم نسبيّاً، إلا أنّ مساهمة القطاع الزراعي غير المباشرة في الاقتصاد، تُعدّ مهمّة نظراً إلى ارتباطه القوي بقطاع تجهيز الأغذية الذي يُعدّ أكبر قطاع صناعي في لبنان. فصناعات الأغذية الزراعية، على سبيل المثال، تسهم بنسبة 5% إضافية في الناتج المحلي الإجمالي.

فرص تكثيف التصدير
يستحوذ الإنتاج الزراعي والغذائي على نصيب مهم من حركة التجارة الخارجية. فرغم إهمال هذا القطاع وتهميشه، إلّا أنّه يُعدّ مصدراً أساسيّاً للصادرات اللبنانية، ولا سيما الخُضر والفواكه المصنّعة والتبغ الخام والتوابل والأغنام الحية التي تمثّل أكثر من 20% من إجمالي الصادرات. وهذا ما يجعل القطاع مصدراً رئيسيّاً لتأمين العملات الصعبة وتقليص عجز الميزان التجاري وبالتالي عجز ميزان المدفوعات.
وبحسب ما جاء في وثيقة «منهجية مركز التجارة الدولية لتقييم قدرة البلاد على التصدير»، فإن القدرة التصديرية للقطاع الزراعي والغذائي في لبنان تصل إلى 900 مليون دولار يأتي نصفها تقريباً (47.7%) من إنتاج الفواكه والخُضر، ويعود ربع آخر منها (23.8%) إلى المنتجات الغذائية (المُحضّرة أو المحفوظة). أما التفاح الطازج فيأتي في صدارة الفواكه التي لديها الإمكانية الكبرى للتصدير (ولكن، لا تتخطى صادرات هذه السلعة ثلث قدرتها التصديرية حاليّاً).

710

ملايين دولار هي الكلفة الإجمالية للاستراتيجية الوطنية الزراعية 2020 - 2050 وهو رقم متواضع نسبياً مقارنة مع حجم الدعم المبدّد على السلع الاستهلاكية خلال السنتين الأخيرتين والبالغ 15 مليار دولار بحسب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي


مردُّ التقصير في تعزيز هذه القدرة التصديريّة يعود إلى دخول لبنان في اتفاقيات التجارة الحرّة والموافقة على تحرير التبادل التجاري مع أنظمة اقتصادية كبيرة ومختلفة من دون توحيد القواعد الجمركية لحماية الإنتاج المحلي، وفي ظلّ غياب تامّ لعمليات الدعم. وهو ما عرّض الإنتاج الزراعي لمنافسة قويّة وانكشاف كامل أمام استيراد عشوائي وإغراق السوق بمنتجات ذات تنافسية عالية.
وما زاد الطين بلّة هو الأزمة السورية التي أغلقت بوابة لبنان الوحيدة إلى العمق العربي. وبعد إقفال معبر نصيب بين الأردن وسوريا عام 2015، تضرّرت الصادرات اللبنانية بشدّة، فتراجعت في سنة واحدة فقط بنسبة 31% تقريباً. ولم تُسعف الاتفاقيات المبرمة مع الدولة المجاورة – من قبيل اتفاقية منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى (GAFTA)، واتفاقية الشراكة الأورومتوسطية (EMAA)، وغيرهما – الإنتاجَ اللبناني، ولم تعزّز من قدرته على تصريف المُنتجات.
كان يمكن التعامل بصورة مختلفة مع الأزمة السورية للاستفادة من فرصة سدّ العجز في أسواق المنطقة. كان يمكن أن تصبّ هذه الأزمة في مصلحة تصدير المنتجات اللبنانية، وذلك عبر زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية لسدّ العجز في أسواق المنطقة. وهو ما يزيد عائدات القطاع الزراعي ويوازن خسارة قطاع السياحة المتضرّر من جراء الأوضاع الأمنية بنحو 7 مليارات دولار.
في هذا الإطار اقترحت جمعية المزارعين على الدولة شراء 4 عبّارات لنقل الشاحنات المحمّلة بالمنتجات الزراعية والصناعية اللبنانية بشكل مجاني من مرفأ طرابلس إلى مصر والسعودية تحت إدارة إحدى شركات الشحن، على أن يكون التمويل من إيرادات خط الاستيراد والكلفة التي على الشاحنات دفعها في رحلة عودتها محمّلةً بمنتجات مستوردة. غير أن الاقتراح قوبل بالرفض من كلّ المسؤولين الذين استعاضوا عنه بدعم يقدّر بــ 2000 دولار للشاحنات المنقولة بالعبّارات. كما أنّ احتكار خط النقل من قِبل شركتين ورفع الأسعار أجهضا نتائج هذا الدعم فبقيت المحاصيل تتكدّس وتُتلف في ظلّ منافسة شرسة، وغياب للطلب الداخلي، وحكومة غير آبهة لا بحماية المنتجات اللبنانية ولا بفرض رسوم جمركية على المنتجات المستوردة.

السلطة رفضت منذ عقود إحياء الزراعة عبر اقتراحات جمعية المزارعين بتأسيس 4 مؤسسات: السجل الزراعي، غرف الزراعة المستقلة، المصرف الوطني للإنماء الزراعي والمؤسسة العامة للضمان الزراعي من الكوارث


اليوم، تبرز ضرورة دعم الصادرات الزراعية والولوج إلى الأسواق العالمية أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً مع بدء انفراج الوضع السوري وتأمين معابر وخطوط التصدير، فضلاً عن تراجع وضع الليرة وازدياد القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية «نسبيّاً». فاستعادة عافية التصدير تعني وقف نزف العملة الصعبة، وتصحيح الخلل في الميزان التجاري.
ولا بدّ أن تُدرج مسألة تطوير آليات التصدير ضمن البنود التي يجب أن يُعمل عليها في المدى المنظور، ومن ضمنها معاملات ما بعد الحصاد التي لا تخضع للمعايير الدولية في شيء. فضُعف إدارة سلسلة التبريد على مستوى سلسلة الإمداد وغياب تنظيم أسواق الجملة ومراكز التوضيب والتخزين في المرافئ يجعلان الخدمات اللوجستية وعملية التوزيع والتسويق للمنتجات أقل فعّاليّة، ما يسبّب خسائر كبيرة في مرحلة ما بعد الحصاد. ومن ذلك أيضاً، البدء بالمشاركة في المعارض الدولية من أجل الوصول إلى أسواق ونوافذ جديدة للمحاصيل ذات القيمة المضافة (كالكرز والتفاح والأفوكادو والحمضيات، والمنتجات التقليدية كزيت الزيتون والصعتر والنباتات العطرية والعسل وغيرها).

نهوض القطاع الزراعي
يواجه القطاع الزراعي في لبنان تحديات كبيرة يمكن اختصارها بضعف التنظيم الأفقي (كالتعاونيات وتجمّعات المزارعين)، وضعف التكامل العَمودي بين الجهات المعنية على طول سلسلة الإنتاج، وسوء إدارة الموارد الطبيعية المحدودة (كالأراضي والمياه والمراعي والثروة السمكية)، وغياب الدراسات وضعف التكنولوجيا. بالإضافة إلى صعوبة التكيّف مع تداعيات التغيّر المناخي، وما يحمله من كوارث في غياب أنظمة الإنذار والتأمين. ورغم مناشدة جمعية المزارعين المتواصلة منذ عام 2003 بضرورة إنشاء الصندوق الوطني للضمان الزراعي من الكوارث، إلا أن الآذان صُمّت تجاهها. جميع هذه العوامل أدّت إلى إنتاجية ضعيفة، وقيمة مضافة محدودة، وإدارة دون المستوى الأمثل للمزارع والمؤسسات. غير أن عقبة التعثّر الأهم في نهوض الزراعة تتمثّل في سببين رئيسين هما: الدين العام وصعوبة تمويل كلفة الإنتاج.

33

ضعفاً بهذا المقدار يتخطى الدين العام في لبنان الناتج المحلي الزراعي الذي تبلغ نسبة مساهمته من الناتج الإجمال 5%


- الدين العام: يتجاوز الدين العام اللبناني عتبة الـ90 مليار دولار، أي ما يناهز 170% من الناتج المحلي القائم. وهو ما يشكل العبء الأكبر على خزينة الدولة. وتظهر أرقام الموازنة أنّ أكثر من ثلث الإنفاق عام 2020 ذهب في سبيل خدمة الدين العام (نحو 38.3%). ورغم تراجع هذه النسبة إلى نحو 17.1% في عام 2021 - لاقتصار خدمة الدين على تسديد فوائد سندات الخزينة الداخلية بالعملة الوطنية من دون لحظ الفوائد على سندات الخزينة الخارجية المستحقّة بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز) - إلا أنها لا تزال تشكّل عقبةً أمام نموّ القطاعات الإنتاجية في البلد. وبقياسه إلى الناتج المحلي الإجمالي، فإنّ هذا الدينَ يفوقُ الناتجَ المحلّي الزراعي (الذي يسهم في 5% من الناتج المحلي في أحسن الأحوال) بنحو 33 ضعفاً، علماً بأنّ القطاع الزراعي لم يستحوذ على أكثر من 1% من إنفاق الموازنات على مدى سنين طويلة، ولم يحظَ يوماً بفرصة الاستفادة من استثمارات المصارف التجاريّة التي فضّلت إقراض الدولة بفوائد خياليّة.
باختصار، كان الدين العام مصمّماً كأداة لخدمة استمرارية النموذج الاقتصادي بكل متطلباته لجهة اجتذاب الأموال بكلفة مرتفعة وبشكل مستمرّ، واستخدام هذه الأموال حصراً في تعزيز الاستهلاك بدلاً من الاستثمار.
- كلفة الإنتاج: اتّسمت غالبية العمل الزراعي بكلفة إنتاج مرتفعة في ظلّ غياب مؤسسات الائتمان والتسهيلات المالية للمزارعين. فالقطاع المصرفي لم يخدم العمل الزراعي بأكثر من 1.25% من إجمالي قروضه، وذلك بحسب إحصاءات جمعية المصارف والمصرف المركزي. وواقعُ مصارف التسليف الزراعي أكثر مأساوية؛ فقد ألغت الحكومة عمل مصرف التسليف المؤسَّس سنة 1954 برأسمال مشترك، وفشلت في تمويل المصرف الوطني للإنماء الزراعي الذي أنشأته ووافقت عليه منذ عام 1994. وبقي العمل الزراعي محروماً من الموارد المالية والقروض الميسّرة طيلة سنوات الوفرة والتدفّقات المالية في لبنان.
اليوم، وفي ظل الأزمة الخانقة، ارتفعت كلفة إنتاج المحاصيل الزراعية بما يزيد على 50% ممّا كانت عليه قبل عام 2019. وأدّى انهيار سعر الصرف إلى ارتفاع كلفة الاستثمارات الجديدة وكلفة التشغيل من أنظمة الريّ ومعدّات الخيم الزراعيّة ومستلزمات الزراعة الأساسية كالأسمدة والأدوية والشتول والبذور المستوردَة جميعها، والتي تُقدّر كلفتها السنوية بنحو 140 مليون دولار.
هذا الواقع يضع مصير القطاع الزراعي على المحكّ، فغياب الإنتاج يعني إبقاء مئات المزارعين والأهالي في هذا الوقت العصيب من دون عمل، وإبقاء المواطن عاجزاً أمام تأمين أبسط حاجاته اليومية، في ظل تآكل القيمة الشرائية للأجور أكثر فأكثر مع كل تدنٍّ في قيمة الليرة وارتفاع في سعر الدولار ينعكس غلاء في أسعار المواد الغذائية.

بناء أساسٍ متين لإحياء البنية الزراعية
إنّ بناء قطاع زراعي متين لا بدّ له أن يرتكز إلى إجراءات سياسية وتنظيمية ومؤسساتية تعزّز الإطار البنيوي للقطاع بهدف توطيد قدراته الإنتاجية. وقبل عملية الزراعة والحصاد، لا بدّ من إرساء بنى تحتية صلبة تضمن المسار الصحيح لأداء القطاع الزراعي. فعلى مدى عقود عدة، ناضلت جمعية المزارعين من أجل إرساء 4 مؤسّسات تُعدّ أساس البنية التحتية للعمل الزراعي وتشمل: السجل الزراعي، غرف الزراعة المستقلة، المصرف الوطني للإنماء الزراعي والمؤسسة العامة للضمان الزراعي من الكوارث.
قُدّمت مشاريع هذه المؤسسات جميعها على شكل اقتراحات قوانين في مجلس النواب، وتم التوافق عليها من قبل غالبية الكتل السياسية وأُدرجت ضمن البيانات الوزارية، إلا أنّه تقرر لاحقاً إغفالها والتفريط بها، باعتبار أنّ المردود الكامل لهذا القطاع (من وجهة نظر النموذج وآليات عمله) يمكن لمستثمر واحد أن يحققه عبر إيداع أمواله في المصرف. كانت هذه عملية تهميش لشريحة كبيرة من الشعب تصل إلى 30% من القوى العاملة.
إنّ مشكلة الزراعة تكمن في عمل الحكومات المستمر على تثبيط أي محاولة تشييد متين للقطاع الزراعي بما يتناسب ودوره الرائد في توظيف موارد البلاد وتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد منتج يستجيب لمتطلبات المجتمع ويخدم الأولويات الوطنية.
إنَّ اشتداد الأزمة وضغوطها على الشعب اللبناني باتت تستدعي الإسراع في معالجة قصور السياسات المتّبعة، والاستعاضة عنها بسياسات تخدم الأولويات الوطنية. وتمثّل وثيقة «الاستراتيجية الوطنية للزراعة في لبنان 2020-2025» خطوةً جيدةً في عملية تقويم هيكلية القطاع الزراعي المشوّه على امتداد سنوات الإهمال، فهي بمثابة الأداة التنفيذية التي يستطيع قطاع الزراعة والأغذية من خلالها المساهمة في احتواء الصدمات الاقتصادية وتحقيق نوعية نمو سليمة. واللافت أن الكلفة الإجمالية للاستراتيجية تُقدّر بنحو 710 ملايين دولار، أي أنه رقم متواضع نسبياً مقارنة مع حجم الاستثمارات التي وُظِّفت لأهداف ريعية ومقارنة مع حجم الدعم المبدّد على السلع الاستهلاكية خلال السنتين الأخيرتين والذي لم يستفد منه غير كبار التجّار، والمقدر بـ15 مليار دولار (بحسب ما صرّح به الرئيس ميقاتي نفسه).
والسؤال الذي يُطرح هو أين كان ليصبح القطاع الزراعي لو أنّ أقل من مليار دولار من هذه الأموال صُرف في الطريق الصحيح والهادف؟ كيف كان ليصبح وضع المزارعين والعائلات الريفية المهمّشة مع زيادة الطلب المحلي على أعمالهم ومنتجاتهم؟ ألم يكن من الأجدى العمل على توطين المزارعين في أراضيهم بدل زيادة معدّلات الفقر في المناطق الريفية، وزيادة الهجرة الداخلية، ونشوء أحزمة أكثر بؤساً حول العاصمة؟ ألم يكن من الأصحّ تخصيص الدولارات لاستيراد مستلزمات الزراعة الأساسية، وتطوير شبكات ووسائل الري واستصلاح الأراضي؟
إن صعود إنتاج محلي تنافسي بات ملحّاً جدّاً، خصوصاً بعد ارتفاع فاتورة الغذاء المستورد، ما يجعل الاستثمار في قطاع الأعمال الزراعية والغذائية اليوم أكثر جدوى ومنفعة من أي وقت مضى. ويجدر بكلّ مَن يسعى إلى تحويل مدّخراته إلى استثمارات مجدية أن يفكّر في توظيف أمواله في قطاع منتج وواعد كقطاع الزراعة والأغذية وغيرها من الصناعات التي يمكن أن تحلّ محلّ الاستيراد. وحَريٌّ بكلّ مَن يودّ تحرير وديعته عبر شيكات مصرفية أن يوظّفها ضمن نطاق المؤسسات الإنتاجية، بدل إعادة استثمارها في الريع أو قطاع العقارات الذي لا يجلب سوى المزيد من الركود والعجز الاقتصاديّيْن.