في مقابلة سابقة مع «الأخبار»، يقول وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس إنّ الانخراط في برنامج مع صندوق النقد الدولي «لا يمكن أن يخدم مصلحة الأكثرية (…) على الأرجح، أن يتمكّن صندوق النقد من إعادة لبنان إلى ما يُشبه الحياة الطبيعية، إلا أن ذلك سيتم عبر المصادرة المستدامة للفرص والثروات التي تملكها الطبقات الشعبية الصغيرة. سينتهي الأمر بكارثة شاملة». فاروفاكيس - كمثالٍ - يتكلّم عن صندوق النقد من موقع العارف بأجندة عمله، بعد أن خَبِره في اليونان خلال أزمتها المالية سنة 2015. وفي كلّ بلدٍ دخل إليه «مُنقذاً»، كان لإجراءات الصندوق انعكاسات مُدمّرة للمجتمع وقدراته المعيشيّة وعلى الاقتصاد الكلّي.

بالأرقام

60 مليار دولار
هي تقديرات فجوة (الخسائر) مصرف لبنان، وهو رقم قابل للتعديل تبعاً لسعر الصرف الذي ستُقرّر الحكومة وصندوق النقد اعتماده في الخطة المالية والاقتصادية

2.18 مليار دولار
أو ما يوازي 6.9% من الناتج المحلي. هو عجز الحساب الجاري. علماً بأن تقديرات البنك لعام 2021 تُشير إلى بلوغ العجز 2 مليار دولار، أو 10.1% نسبة للناتج المحلي

74%
من مجموع السكان في لبنان هم فقراء في 2021، بحسب إسكوا، علماً بأن نسبة الفقر المتعدّد الأبعاد والذي يشمل عدداً من المؤشرات الاجتماعية كالصحة والتعليم والخدمات... بلغت 82% من السكان

رغم وجود تجارب «تحذيرية»، تعاملت السلطة في لبنان مع صندوق النقد بوصفه «الخيار الإنقاذي الوحيد». بدأ ذلك رسمياً مع حكومة حسّان دياب، حين وضعت خطة تعافٍ مالي (أهميتها أنها حدّدت للمرة الأولى خسائر القطاع المصرفي) مكتوبة بطريقة تُحاكي رغبات الصندوق، رافضةً البحث بخيارات أخرى كانت متاحة.
في النتيجة، لم يُعتمد لا خيار الصندوق ولا الآليات الأخرى، بعدما تمكّنت المنظومة المالية والسياسية الحاكمة مِن مَنع تطبيق خطة التعافي المالي. ومضى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بالتعاون مع نواب، وبالاستفادة من غياب الحكومة، في تطبيق خطوات كانت مُدمّرة للمجتمع، موحياً بأن صندوق النقد يقف على يسار قوى السلطة؛ فقد ترك الليرة تنهار، وخلق أسعار صرف متعدّدة، وأوقف الدعم عن استيراد السلع الرئيسية، وطبع النقود مسهماً في زيادة الكتلة النقدية... كل ذلك أسهم في زيادة معدّلات التضخّم بشكل جنوني وزيادة معدّلات البطالة، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن انهيار قيمة المداخيل وتعويضات نهاية الخدمة، وتقنين حصول السكان على حاجاتهم الرئيسية من دواء، غذاء، كهرباء، وبنزين...
بعد نحو سنتين على انفجار الأزمة، ازدادت الأمور سوءاً واشتدت حدّة تداعيات الانهيار مالياً ونقدياً واقتصادياً. في هذه الظروف، يتجدّد سعي قوى السلطة ممثّلة بحكومة نجيب ميقاتي، إلى اتفاق قرض مع صندوق النقد، يتضمن بشكل أساسي معالجة عجز ميزان المدفوعات (يعبّر الميزان عن صافي تدفق وخروج العملات الأجنبية من وإلى لبنان)، وضمان استدامة الدين العام ودفع الفوائد عليه، زيادة معدلات الضريبة على القيمة المضافة، تقليص القطاع العام، واعتماد موازنة تقشفية. بين هذه الوصفة الجاهزة وبين حكومة لا تعمل بخلفية «مُجتمعية»، أين تكمن مصلحة لبنان؟ وهل يستطيع تحسين شروطه؟ أي شرّ ينتظر لبنان من الصندوق ومن قوى السلطة؟ الإجابات تكمن في استطلاع مع أربعة خبراء هم: وزير الاقتصاد السابق الدكتور سمير المقدسي، وزير المالية السابق الياس سابا، أستاذ الاقتصاد الدكتور ألبير داغر، الاقتصادي روي بدارو.

سمير المقدسي: التحدّي أن يُحسّن لبنان شروطه
من حقّ لبنان أن يلجأ إلى المؤسّسات الدولية التي ينتمي إليها، ومنها صندوق النقد الدولي، خصوصاً في ظل غياب خيارات أخرى أكثر فائدة وفعّالية ولا أراها متاحة. التحدّي الرئيسي أن يُحسّن لبنان شروط التفاوض مع الصندوق لتحقيق الاستفادة القصوى في الاقتراض بأقل كلفة. علماً أنّ التعامل مع الصندوق قد يُمهّد الطريق لفرص أخرى من التعاون الدولي.

(أرشيف ــ مروان طحطح)

للصندوق أهدافه وسبله في الإقراض. وبما أنّه لكل بلد ظروفه الخاصة، وبحسب معرفتي، فإن التفاوض معه على شروط الاقتراض هو أمر طبيعي تُمارسه جميع الدول الراغبة في الاقتراض. ومع الاعتراف بأن وضع لبنان الصعب جداً يتطلّب الكثير من الحنكة في التفاوض والإقناع من أجل تحقيق أفضل الشروط وأمثل الصيغ، بدوره يتطلب هذا الأمر دراسة دقيقة لبرنامج النهوض الاقتصادي الذي ينوي لبنان التفاوض على أساسه.
أودّ أن أتوقف عند مسألتين وأضعهما في رسم المفاوضين مع الصندوق:
- أولاً: توحيد سعر الصرف هو محل إجماع كما عدم الإبقاء على مستوى ثابت له. السؤال هنا: هل إبقاء سعر الصرف مرناً سيتماشى مع إعادة حريّة التعامل في سوق القطع بهدف القضاء على السوق السوداء (التي لا يُقضى عليها في ظل القيود)؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما تعني كلمة مرن هنا؟ هل تعني حرية التحرّك الكامل لسعر الصرف مع تدخّل المصرف المركزي في حال كان هذا التحرّك كبيراً خصوصاً لجهة انخفاض الليرة؟ أم أنّ المرونة تعني السماح لتحرّك سعر الصرف ضمن هوامش عريضة نسبياً يعمل المصرف المركزي على المحافظة عليها بتدخّله في السوق عند الوصول اليها، بائعاً أو شارياً كما يقتضي الأمر؟ هذه أسئلة على المسؤولين تقديم أجوبة لها.
- ثانياً: التوجّه نحو إقرار ضوابط أو تقييدات معيّنة على تحرّك الرساميل قد يكون في الوقت الراهن أمراً ضرورياً. غير أنّ هذا التوجه يجب أن يُدرس بعناية فائقة للتأكد من تحقيق أهدافه الأساسية، ومنها تنظيم السحوبات من الودائع المجمّدة والتحاويل إلى الخارج، عوضاً عن التقييدات الاستنسابية الصارمة التي فرضها المصرف المركزي. وهي تدابير قد أضعفت كثيراً من ثقة المودعين بالجهاز المصرفي وأطاحت بالدور الذي لعبه لبنان.
إن التدابير التي اتخذها مصرف لبنان لجهة حرية التعامل في سوق القطع لجهة السماح بسحوبات ضئيلة جداً من ودائع بالدولار المجمّدة، لا تعيد ثقة المودعين. نرجو أن يكون الهدف الأساسي للـ«كابيتال كونترول»، إعادة الثقة عبر تأكيد استمرارية حقوق المودعين بكامل ودائعهم بالدولار، وتمكينهم من استعادة ودائعهم عبر برنامج التعافي الاقتصادي، ولو تدريجاً ضمن خطّة زمنية مدروسة.
التردّي الكبير الذي يواجهه لبنان لا يكمن أساساً في اللجوء أو عدم اللجوء إلى المؤسسات الدولية، ولا حتى في قدرته على تحسين شروطه. وإنما يكمن في إمكانية التغيير الكبير في مؤسّسات الدولة وسلوكها ورفع مستوى الحوكمة التي يعاني لبنان من تراجعها منذ زمن بعيد. فحتى لو نجح المفاوضون في الاقتراض من الصندوق، فمع وجود إدارات فاسدة تبقى معضلة التنفيذ السليم للقروض قائمة رغم أي رقابة قد تودّ الجهات المُقرِضة ممارستها. ففي نهاية الأمر، السلوك المؤسّساتي اللبناني يقرّر إلى حدّ كبير مسار لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

الياس سابا: لا قوّة تفاوضية للبنان
صندوق النقد الدولي هو إحدى أدوات الإدارة الأميركية منذ تأسيسه، ما يجري حالياً هو «استسلام» لا «تفاوض». لن يكون أمام لبنان سوى خيار القبول بالشروط التي يفرضها الصندوق. فحتى يتمكّن أي طرف من تحسين موقعه التفاوضي مع طرف ثانٍ، يجب أن يملك أوراق قوّة. ماذا يملك لبنان؟ لا قوة تفاوضية له. بناءً على سابق تصوّر وتصميم، فإن حكام هذا البلد أوصلوه إلى مكان لا يبقى فيه سوى خيار وضعه تحت الهيمنة الخارجية من خلال اتفاقية القرض مع الصندوق، وبيع موجودات البلد. حالياً، السمسار المحلّي مع معلّمه السمسار الفرنسي، باعتقادهما أنّ الجانب الأميركي مشغول عن لبنان، يُخطّطان لبيع المرفأ والاتصالات وشركة الطيران والمطار «بتراب المصاري».

(مروان بوحيدر)

لهذا السبب، إن خيار التفاوض مع الصندوق أمر سيّئ. ليس لأن لبنان يقترض، إذ إن الدين خيار مُتاح حين يكون الاقتصاد بحاجة إلى مدخول يُساعده لتصحيح نفسه وتخطّي الأزمات وتحفيز النمو، لكن كما يُدار الدين من قبل هذه السلطة، جزء عن جهل وجزء عن نيّة سيئة.
كان لدينا مئة مهرّب، فقرّرت السلطة الاستمرار في التأجيل والتردّد وعدم اتخاذ أي قرار على الصعيد المالي - النقدي، لتأخذنا إلى مكان لا يعد فيه سوى خيار الإنقاذ عبر الصندوق… «ورايحين عا المفاوضات مزلطين».

ألبير داغر: محرومون من الودائع وليس الدولار
لنبدأ بالإجابة عمّا كان يطلبه الصندوق قبل لحظة الانهيار: رفع معدل الضريبة على القيمة المُضافة، زيادة تعرفتَي البنزين والكهرباء، تحسين المالية العامة من خلال توفير المداخيل، ربط إعادة إطلاق الاقتصاد بخصخصة قطاعات عامة… عبر هذه المطالب، كان صندوق النقد، قبل الانهيار، يُغطّي شقّين: إصلاح السياسات الكليّة، وإعادة هيكلة الاقتصاد. ثمّ وضعت حكومة حسّان دياب خطّة، هي نسخة من برامج صندوق النقد، مع إضافة عامل جديد نتج بعد حصول الأزمة المالية. لمعالجة هذا الطارئ، يقتضي إضافة بندين: إصلاح القطاع المصرفي والتعامل مع خسائر مصرف لبنان. والأرجح أن يكون هذان البندان هما الأهمّ لجهة محتوى النقاش.

(هيثم الموسوي)

السؤال الأبرز الواجب طرحه: لماذا نتفاوض؟ يريدون التفاوض لاستعادة حضور لبنان كعضو في المجتمع الدولي والحصول على تمويل، مشروط بتنفيذ ما التزم به. فالصندوق لا يُفاوض إلا على البرنامج الذي يريده هو. يقودنا ذلك إلى سؤال ثانٍ: هل نحن أمام حرب مالية أم أزمة عادية؟ حتى الساعة، تتصرّف السلطة كأنّ لبنان أمام أزمة مالية عادية، علماً بأنّ ما نحن فيه لا ينطبق عليه هذا التوصيف، بوجود أزمة مصرفية وأزمة سعر صرف وأزمة اقتصادية. هل نحن إذاً أمام حربٍ مالية؟ نُلاحظ أنّ خيار صندوق النقد والتفاوض معه، غاب عن النقاش العام والرسمي منذ حزيران سنة 2020 تقريباً، حتى تشكيل حكومة ميقاتي، ليس لسبب سوى لأنّ الخارج قرّر تشديد الضغط على البلد، ومنع الصندوق من توفير الدعم له.
ما البديل من صندوق النقد؟ بناء المؤسسات، سياسة اقتصادية جديدة، إدارة حكومية تتولّى الرقابة على سوق القطع… نحن محرومون من الودائع وليس من الدولارات، بما يصل من أموال المغتربين وغيره من التحويلات، نستطيع تأمين حاجاتنا من الاستيراد وتوفير أساس للانطلاق. عندها قد لا نعود بحاجة إلى الصندوق، ولكن ذلك غير ممكن من دون وجود سلطة جديدة منطلقها الحفاظ على بقاء الشعب ومصالحه وتوفير كلّ شيء لتحقيق الهدف.

روي بدارو: لا نفع لأيّ برنامج إصلاحي بوجود سلامة
يُعتبر الحصول على السيولة في ظلّ وجود ثقب كبير في الاقتصاد، وقبل إتمام الاصلاحات اللازمة، أمراً غير سليم. ولبنان يعرف جيّداً ما هي الإجراءات التي يجب القيام بها، وليس بحاجةٍ إلى صندوق النقد ليُعطيه الوصفة. انطلاقاً من هنا، المفاوضات والاتفاق مع الصندوق ليسا أولوية في هذه المرحلة.

(أر)

الإصلاحات المطلوبة هي: ضبط الحدود الرسمية وغير الرسمية لمنع التهريب، توحيد سعر صرف الليرة، إقرار قانون «كابيتال كونترول». نحن بحاجة إلى بناء حكومة، وتحويل الاقتصاد. هذه خطوة عميقة، ولا أرى أنّ أي طرف لديه رؤية لذلك. وتوجد قضايا أخرى كنظام للشيخوخة، تعويضات نهاية الخدمة، حجم القطاع العام. هذه أمور يُحدّدها لنا صندوق النقد أم نحن؟ لبنان أدرى بالمؤشرات الاقتصادية التي يُريد تحقيقها والوسائل اللازمة لذلك ونسبة النمو وخفض الدين وكيفية تحفيز الاستثمار الداخلي… وهذا كلّه لا يتحقق من دون استقرار سياسي. حتى التمويل من صندوق النقد، صحيح أنّ الاتفاق معه يُعدّ بمثابة ختم حتى تُقدّم جهات أخرى القروض أيضاً. هذا أيضاً مرتبط بوجود استقرار عميق. حالياً نحن في توازن غير ثابت.
في المرحلة الثانية، يُمكن اللجوء إلى صندوق النقد وخوض نقاشات تُشرح خلالها الحيثيات الاقتصادية، والتشديد على أنّه لا يُمكن تطبيق وصفتهم الجاهزة في لبنان. لا أعتقد أنّهم سيكونون معارضين. توجد نقطة أساسية أيضاً، أنّه لن ينفع التوقيع على أي برنامج إصلاحي طالما السياسة النقدية يُحدّدها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وهنا المطلوب من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي رفع الغطاء عن سلامة، للابتعاد عن تشابك المصالح وتطبيق الإصلاحات.


تضخّم مرتفع جداً خلال سنتين وتسعة أشهر


بلغ الارتفاع في مؤشّر الأسعار الاستهلاكية بين بداية عام 2019 وشهر أيلول 2021 ما نسبته 473%. أي أن أسعار استهلاك السلع والخدمات ارتفعت بمعدّل 5 مرات منذ بدأت علامات الأزمة اللبنانية بالظهور حتى شهر أيلول الماضي. وقد استحوذت أسعار المطاعم والفنادق على أعلى نسبة ارتفاع في هذه الفترة، وبلغت 2366%، تبعتها المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية بنسبة 1819%. وازدادت أسعار النقل بنسبة 1034%، أي بأكثر من عشرة مرات عما كانت عليه في أول عام 2019. هذا الارتفاع الهائل ولا سيما لجهة الغذاء، يشير إلى تدهور خطير في الأوضاع المعيشية للمقيمين في لبنان، ويعبّر بوضوح عن انهيار في القدرات الشرائية بعدما أصبح الحد الأدنى للأجور يساوي نحو 32 دولاراً شهرياً إذا اعتبرنا أن كل الاستهلاك مسعّر على سعر صرف 20500 ليرة لكل دولار. كما أن ارتفاع أسعار النقل، مع بقاء الأجور بنفس قيمتها، له انعكاسات كارثية على الاقتصاد. إذ يعدّ النقل من أهم العوامل الاقتصادية، وهو يشمل نقل الأشخاص والبضائع وحتى الخدمات. فإذا فُقدت القدرة على تحمّل أكلاف النقل، شُلّ الاقتصاد كله وهذا ما يُقبل عليه البلد في المستقبل القريب.

تابع «رأس المال» على إنستاغرام