... وأخيراً ولدت الحكومة، وأتت ببيان وزاري يعكس طريقة تشكيلها ودورها الوظيفي. فهي عبارة عن تقاطع مصالح خارجية مع مصالح داخلية كانت السبب الرئيسي للانهيار الاقتصادي والمالي الذي مرّ به لبنان. ومن الواضح أن البيان الوزاري تجاهل كلّياً الأسباب التي أدّت إلى الانهيار، لأن تكوين هذه الحكومة يعود للسلطة القائمة التي كانت المسؤولة الأولى عن الانهيار. هذا يعني أننا لم نتوقع من الرئيس نجيب ميقاتي أن يكون رأس حربة في مقاربة الأزمة - التي كان شريكاً في صنعها لفترة غير قصيرة. وإذا غاب عن البيان الوزاري مقاربة أسباب الأزمة، فإن «الحلول» التي يعرضها لا تعكس إلا مصالح القوى الفعلية والفاعلة في لبنان التي كانت وما زالت مسؤولة عن الكارثة التي وقعت.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

تبدأ الفقرة المتعلقة بـ«الحلول» المقترحة، بكلمة «تداركاً» للانهيار المالي والاقتصادي، ما يدلّ على أن الأزمة هي «مالية» أولاً، واقتصادية ثانياً، بينما الواقع هو أن الأزمة هي اقتصادية سياسية تبلورت في انهيار مالي كان مرتقباً منذ 1993. وكلمة «تدارك» توحي بأن المشكلة قد تكون افتراضية محتملة وليست واقعة كما هو الحال، أي أنه يجري التعامل معها، في الحدّ الأدنى والأقصى، لتخفيف وطأتها فقط.
صحيح أن البيان الوزاري نال ثقة مجلس النوّاب، ولكن مجلس النوّاب هو جزء أساسي من المشكلة، أي كان شريكاً في صناعة الأزمة، فكيف يمكن لشريك كهذا أن يقرّ بـ«خطة» للخروج من الأزمة التي سبّبها بتقاعسه في مهامه الرقابية طيلة العقود الثلاثة الماضية وموافقته على استدانة غير مشروعة؟ لا نرى أن هذه الحكومة ستكون هي الحلّ. لا آمال معقودة عليها. القيمة الوحيدة لهذه الحكومة تكمن في وجودها الذي يُنهي فصلاً أساسياً من خطة بومبيو لتدمير لبنان القائمة على تعميم الفراغ السياسي في لبنان. أكثر من ذلك لا يمكن أن نتوخّى إنجازاً يُذكر. وللإنصاف، يمكن القول إن الحكومة لم ترد أن تلتزم بسقوف قد تكون عاجزة عن تحقيقها لأن موازين القوى الداخلية والعربية والإقليمية والدولية قد لا تسمح لها بأي مبادرة نوعية على الأقل حتى الانتخابات المقبلة في السنة القادمة.
خطة الحكومة «التداركية» للأزمة المالية والاقتصادية هي في 10 نقاط: النقطة الأولى واللافتة هي «استئناف التفاوض الفوري مع صندوق النقد الدولي للوصول إلى خطة دعم من الصندوق تعتمد برنامجاً انقاذياً قصير ومتوسط الأمد ينطلق من خطة التعافي بعد تحديثها مع المباشرة بتطبيق الإصلاحات في المجالات كافة والتي باتت معروفة ووفقاً للأولويات الملحّة وبما يحقق المصلحة العامة، والعمل على إنجاز الخطة الاقتصادية والالتزام بتنفيذها مع مصرف لبنان بعد إقرارها من قبل الحكومة» (انتهى الاقتباس).
هذه العبارة وسائر النقاط التسع الواردة في البيان تستدعي الملاحظات الآتية:
- الملاحظة الأولى، أنها إعجاز ملحوظ في الالتباس والابهام. فهي تقول الشيء وعكسه في آن واحد. تتكلم عن «تدارك»، أي أخذ خطوات احترازية لإيقاف الانهيار (كيف يمكن «تدارك» أمرٍ أصبح واقعاً؟) بينما تعرض خطوات ظاهرها هيكلي وجذري وليست احترازية قد تؤدّي إلى المزيد من التدهور. فاستئناف الحوار الفوري مع صندوق النقد للحصول على دعم منه لخطة ما زالت غير موجودة أو تعتمد خطة للتعافي لم تحدّدها بعد بشكل واضح (خطة حكومة الرئيس حسان دياب أو خطة الرئيس سعد الحريري؟) ومن بعد «تحديثها». فما هو «التحديث» الذي تقصده الحكومة الجديدة؟ هل هو إلغاء للإيجابيات القليلة التي كانت موجودة في خطة الرئيس دياب أو هناك إضافات وما هي؟ لا نريد في هذه المقاربة الدخول في سجال حول جدوى التفاوض مع صندوق النقد و«الثمن» الذي سيدفعه اللبنانيون من جرّاء ذلك التفاوض بل نكتفي بالإشارة إلى عدم الوضوح لما ستقدم عليه الحكومة الجديدة.
الحكومة قد تسعى إلى العودة إلى ما قبل 17 تشرين الأول 2019 ما يُريح المصارف اللبنانية ومعها شرائح واسعة من الطبقة السياسية، إنما لا يصب في مصلحة اللبنانيين الذين كانوا يعانون الأمرّين في حياتهم اليومية


- الملاحظة الثانية هي أن الشريك الفعلي لتنفيذ الخطة كما جاء في البيان هو مصرف لبنان. فبعد كل ما حصل وكل ما كتب عن الموضوع وبعد كل التناقضات التي خرجت من إجراءات مصرف لبنان ليس هناك مساءلة ومحاسبة له وكأن مصرف لبنان غير مسؤول عما جرى؟ البيان يجعل من مصرف لبنان شريكاً في تنفيذ الخطة، وهذا لا يجوز إلاّ بعد محاسبة المسؤولين عن السياسات الخاطئة والمدمّرة التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه. كيف يمكن أن يؤتمن طاقم مصرف لبنان من مجلس مركزي وهيئة الرقابة على المصارف والحاكمية بحد ذاتها على تنفيذ الخطة التي عارضها مع جمعية المصارف اللبناني؟ اللهم إذا كان «التحديث» المرتقب يعني «إلغاء» ما يعترض عليه مصرف لبنان ببنيته الحالية وجمعية المصارف؟
- الملاحظة الثالثة هي أن «الخطة» تستدعي أيضاً إعادة هيكلة القطاع المصرفي «حيث يلزم» كما ورد في البيان. نستغرب هذا الإبهام المتعمّد الذي لا يحدّد البيان معايير إعادة الهيكلة وأهدافها ولا منطلقات توزيع المسؤوليات في خسارة الودائع من دون المساس بأرباحها! لم يحدد البيان عدد المصارف المطلوبة ولا عدد المصارف التي ستستهدفها إعادة الهيكلة ولا الدور الوظيفي لها في الدورة الاقتصادية. كما أن البيان لم يتكلّم عن سوء الائتمان الذي ارتكبته المصارف في التعامل مع الودائع ولا مع الخفّة التي وسمت أعمالها في توزيع المخاطر، أو وفقاً للمعايير الدولية والقوانين اللبنانية حول واجب الإدارة الصالحة. ربما هذه قضايا تعتبرها الحكومة تفصيلية لا داعٍ لعرضها على مجلس النوّاب، ولكنها مفصلية في إعادة الهيكلة «تداركاً» للأزمة. بعض التصريحات للوزراء الجدد لا توحي أبداً بالثقة بل تشير إلى الخفة التي يتّسمون بها.
- الملاحظة الرابعة تتبع السابقة وتتعلق بموضوع إعادة هيكلة الدين العام. مجدداً، لا يتجاوز البيان عتبة العنوان العريض من دون تحديد المنطلقات والمعايير، بل يكتفي بهدف تخفيف عبء خدمة الدين العام وعدم تحميل الدولة «أعباء كبيرة». يكتفي البيان بالدعوة إلى التفاوض مع الدائنين من دون تحديدهم، أي المصارف اللبنانية، ومصرف لبنان. لماذا تجاهل البيان ذلك الأمر؟
- الملاحظة الخامسة، هي دعوة الحكومة لمجلس النواب إلى إقرار ما سمي في البيان الوزاري بـ«الكابيتال كونترول» دون التعريف به، إنما ربطه بـ«معالجة الأوضاع المالية والمصرفية التي استجدت بعد 17 تشرين الأول 2019 لا سيما تلك المتعلّقة بتحويل الأموال إلى الخارج ومتابعة تنفيذ القانون رقم 08/04/2021 (استعادة الأموال المتأتية من جرائم الفساد)». إذاً ما هو المقصود بـ«الكابيتال كونترول»؟ لماذا المصطلح الإنكليزي؟ كيف يمكن تحديد «الأموال المتأتية من جرائم الفساد»؟ نعم نرحّب باستعادة الأموال التي نتجت عن الفساد ولكن من يحدّدها وكيف؟ ماذا عن الأموال العائدة للمودعين الكبار والمساهمين الكبار في المصارف والمسؤولين فيها الذين هرّبوا أموالهم إلى الخارج؟ ماذا عن المسؤولين في الإدارة الذين استفادوا من فوائد سندات الخزينة المطعون بشرعيتها وفقاً لدراسات قانونية عديدة كدراسة الدكتور حسين عزّي؟ عدد من الدول الأوروبية أشارت إلى أموال لبنانية في مصارفها ولكن لم تعلم القضاء اللبناني عنها؟ كيف ستتصرف الحكومة بشأن ذلك؟ وهل أن قانون «الكابيتال كونترول» أيضاً يعني استعادة تلك الأموال؟
معظم بنود البيان الوزاري لا تتجاوز سرد العناوين العريضة، وربما هذا ما هو مطلوب منها وكأن الآمال المعقودة على هذه الوزارة محدودة جداً في انتظار ما ستفرزه الانتخابات النيابية القادمة ومن بعدها انتخاب رئيس جمهورية جديد. وكل ذلك مرتبط بالتوازنات الجديدة في الإقليم والمنطقة والتحوّلات على الصعيد الدولي. المهم هو تقطيع الوقت. لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية مراقبة أعمال الحكومة التي قد تسعى إلى العودة إلى ما قبل 17 تشرين الأول 2019 وهذا في رأينا مستحيل من جهة وكارثي من جهة أخرى. ما قبل 17 تشرين الأول يريح المصارف اللبنانية ومعها شرائح واسعة من الطبقة السياسية ولكن ليست في مصلحة اللبنانيين الذين كانوا يعانون الأمرّين في حياتهم اليومية.
البيان الوزاري في بُعده الاقتصادي لا يتجاوز الإفصاح عن بعض النوايا وقد لا تكون محمودة لأن الإبهام المتعمّد في قضية إعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي هو محاولة لتخفيف المسؤولية عمن تسبّب بالكارثة المالية والاقتصادية. أعتقد أن «تدارك» الأزمة المالية والاقتصادية يبدأ بإعادة هيكلة الدين العام ومعها القطاع المصرفي. لكن ذلك الأمر يتلازم مع توضيح رؤية اقتصادية سياسية متكاملة غائبة كلّياً في البيان الوزاري. المشكلة بدأت بالخيارات التي اتخذت في مطلع حقبة الطائف وفي السياسات التي نتجت منها والتي نبّه وحذّر منها العديد من الخبراء والمسؤولين ولكن تمّ استبعادهم وتهميشهم لمصلحة تلك الخيارات والسياسات التي دمرّت البلد وبرعاية عربية ودولية ومباركة مؤسسات دولية في آن واحد، وفي رأينا بشكل متعمد ومدروس. فالأزمة الاقتصادية والمالية هي أوّلاً وأخيراً أزمة سياسية ومفتعلة كسلاح ضاغط على المقاومة وحلفائها. هي في بُعدها الداخلي أزمة نظام إن لم تكن أزمة كيان وفي بُعدها الخارجي ضمان الأمن والقوّامة للكيان الصهيوني المحتل ومنع أي مقاومة له.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي