إذا كان مدخل التغيير الاقتصادي عبر إعادة هيكلة الدين العام، فإن ذلك يتطلّب إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي استثمر في سندات الخزينة بشكلٍ مخالف لكل قواعد الإدارة المالية. لكن هناك دافعاً آخر لإعادة هيكلة القطاع المصرفي متّصل باستعادة السيادة للعملة اللبنانية. نظرياً وتقليدياً، النظام المصرفي شريك للدولة في تكوين الكتلة النقدية، لأن الودائع القصيرة الأجل جزء من الكتلة النقدية. وهذا الواقع يفرض على الدولة اللبنانية العمل من أجل الحفاظ على سيادتها في تكوين الكتلة النقدية، وفي حصريّة حقّ إصدار وطباعة النقد المتداول. هي سيادة لا تتم إلاّ عبر السيطرة على الدور الوظيفي للودائع القصيرة الأجل. أي أنه لا يمكن ولا يجب أن يكون القطاع المصرفي الخاص شريكاً للدولة في تكوين الكتلة النقدية، ولا سيما أنه لم يبرهن عن حسّ وطني وحرص على المصلحة الوطنية. بل دافعه الأساسي هو الربح، والربح السريع حتى لو أتى على حساب المودعين المؤتمن على ودائعهم، فهل يكترث للمصلحة الوطنية. فهو حتى لو أراد، لا يستطيع تحديدها! والغريب، أن المؤتَمن على حفظ الليرة اللبنانية، أي مصرف لبنان عبر حاكمه ومجلسه المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، أسهموا إلى حدّ التفاخر، في دولرة الاقتصاد اللبناني خلافاً لقانون النقد والتسليف، وخلافاً للحدّ الأدنى لمفهوم الوطنية.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

إذاً، كيف يمكن الدولة أن تستعيد سيادتها على العملة الوطنية؟ الحلّ الأفضل هو أن تسيطر الدولة على القطاع المصرفي. النموذج الصيني برهان على النجاح. أكبر المصارف العالمية هي مصارف صينية تملكها الدولة. طبعاً قد لا تقبل ذهنية الطبقة الحاكمة التحوّل إلى اقتصاد مختلف، لكن ليس هناك خيار آخر إلاّ التشدّد في الرقابة على القطاع المصرفي، وهذا أيضاً قد لا تقبله النخب الحاكمة والسلطة الفعلية في لبنان.
في رأينا، لا بدّ من معالجة الأمر من الناحية الفكرية أو النظرية لتكوين الكتلة النقدية أولاً. فالأسس الفكرية والمنطلقات النظرية التي تفسّر طبيعة النقد وخلق النقد، أصبحت خاضعة لمراجعة عميقة تختلف عن الموروث المعتمد في الجامعات. هذا الموروث يمثّل قاعدة السياسات المعتمدة في الدول الغربية والمصدَّرة إلى العالم والمبنية على نظريات لا تأخذ في الاعتبار تعقيدات المجتمعات ومؤسساتها في التاريخ وفي الجغرافيا، ناهيك عن الفرضيات غير الواقعية التي تشوبها. والسؤال الذي نطرحه لماذا نسلّم بصحتها ونعمل على أساسها؟
لماذا إقحام الودائع القصيرة الأجل في ذلك التكوين؟ النظرية الكلاسيكية التي يتم تعليمها في كلّيات الاقتصاد منذ بداية القرن الماضي، ترى أن الودائع قصيرة الأجل هي جزء من الكتلة النقدية لأنها تُستعمل كوسائل دفع عبر الشيكات. هنا نتوقف بعض الشيء، النقد هو وسيلة تبادل، ووسيلة احتساب، ووسيلة قيمة في الاقتصاد المعاصر. هكذا يعرّف الدور الوظيفي للنقد. لذا، لا بدّ من وسيلة معترف بها من كل مكونات المجتمع، أي أن يكون حقّ إصدار وطباعة العملة حقاً حصريّاً للدولة، وبالتالي تصنّف العملة المتداولة في إطار «العملة القانونية». وفي المقابل، إن الودائع مملوكة من مجموعة واسعة من الأفراد والشركات والهيئات وسواهم، أي أنها ليست مملوكة من الدولة ولا يمكن أن تحمل صفة «العملة القانونية». لذا، كيف تصبح الودائع جزءاً من الكتلة النقدية؟
يعاقب القانون كل من يصدر ويطبع عملة خارج الدولة بتهمة التزوير وتهديد الأمن القومي، بينما الودائع تقوم بنفس الدور كالعملة المزورة أي مصدرها خارج إطار الدولة. يردّ الاقتصاديون، أن الودائع قصيرة الأجل تمثل شبكة علاقات دائنة ومدينة تعكس النشاط الاقتصادي والتعامل بين الأفراد والشركات وسائر مكوّنات المجتمع. وهذا صحيح، إلا أنه لا يرتقي إلى مرتبة «العملة القانونية» لأنها قد لا تكون مدعومة بأصول حقيقية مقبولة. بل إن إمكانية التلاعب كبيرة، ما يوجب إثارة السؤال الآتي: ما الذي يمنع من تسجيل ودائع وهمية في قيود المصرف مقابل «أوراق» تعتبر أصولاً؟ وبما أن الوديعة يمكن أن «تولِّد» ودائع أضعاف القيمة الأساسية عبر عامل «المكرّر» الذي يحدّد نسبة الاحتياط الإلزامي، فلذلك يتم خلق كتلة نقدية افتراضية لا تعكس يقين المبادلة الاقتصادية.
لنشرح أولاً، عملية «خلق العملة» عبر تراكم الودائع. لنفترض أن شخصاً وضع في حسابه مبلغاً قيمته ألف ليرة لبنانية. المصرف وفقاً لقانون النقد والتسليف يعتبر أن نسبة معينة من الوديعة متوفرة للاستثمار والباقي يعتبر احتياط إلزامي يحدّده مصرف لبنان. ولنفترض أن نسبة الاحتياط هي 10%، أي 100 ليرة أصبحت احتياط إلزامي لا يمكن للمصرف أن يتصرّف بها. لذا، يبقى للمصرف 900 ليرة مسموح له توظيفها كما يرى مناسباً. ولتسهيل الشرح نفترض أن التوظيف يكون في مصرف آخر، فيضع المصرف الأول 900 ليرة في مصرف رقم 2، وعندئذ يصبح الاحتياط الإلزامي 90 ليرة وقيمة الوديعة في مصرف رقم 2 التي يمكن توظيفها 810. وكذلك الأمر لمصرف رقم 3 و 4 حتى تنفد الكمية التي يمكن توظيفها بعد حجز الاحتياط الإلزامي الذي يمثّل 10% من الوديعة. هنا النقطة الجوهرية. فإذا جمعنا الودائع المودعة في المصارف العشرة نجد أن الوديعة الأولى بقيمة 1000 ليرة أنتجت مجموعة ودائع بقيمة 10,000 ليرة بينما مجموع «الاحتياط» هو 1000 ليرة! الـ1000 ليرة خلقت 10,000 ليرة كودائع من لا شيء، أو بشكلٍ أدقّ ليس من إنتاج عيني يفوق عن الألف ليرة الأولى المودعة في مصرف رقم 1! وبالتالي تصبح الكتلة النقدية المكوّنة من ودائع قصيرة الأجل مع العملة المطبوعة الرسمية كتلة مضخّمة لا تعكس بالضرورة إنتاجاً أو استثماراً حقيقياً قيمته مجموعة الودائع التي كانت فقط نتيجة عملية حسابية افتراضية. صحيح أن يقين الواقع الاقتصادي أكثر تعقيداً مما جاء في المثل، غير أن ما أردنا تبيانه هو خطورة اعتبار الودائع القصيرة الأجل جزءاً من الكتلة النقدية.
الودائع مملوكة من مجموعة واسعة من الأفراد والشركات والهيئات وسواهم، أي أنها ليست مملوكة من الدولة ولا يمكن أن تحمل صفة «العملة القانونية». لذا، كيف تصبح الودائع جزءاً من الكتلة النقدية؟


وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن كل وحدة من العملة المطبوعة تستعمل أكثر من مرة وتُسمّى بسرعة التداول النقدي (velocity of circulation). وبما أن المعادلة المعتمدة في الاقتصاد الكلاسيكي هي معادلة ارفينغ فيشر، حيث قيمة الناتج الداخلي هو الناتج العيني مع الضرب بمتوسط الأسعار. هذه القيمة يجب أن توازي مجموع الكتلة النقدية مع الضرب بسرعة التداول للكتلة النقدية. جميع السياسات النقدية في العالم تعتمد صيغة من صيغ معادلة فيشر وخاصة في العلاقة بين الكتلة النقدية ومتوسط الأسعار. وبالتالي، فإن السياسة النقدية التي تأخذ تلك الكتلة النقدية بالاعتبار تعتمد على العنصرين: عنصر تستطيع الدولة التحكم به كلّياً وهو إصدار وطباعة العملة القانونية، وعنصر خارج سيطرتها.
هذه المعادلة تكشف وهم الدائرة الرأسمالية في الاقتصاد. ونشرحها في المثال التالي: يروى أن زائراً وصل إلى مدينة فيها فندق واحد وأراد أن يستكشف الغرف الموجودة والخدمة المقدمة. فوضع مبلغاً قيمته 100 ليرة على منصّة الاستقبال، وطلب من صاحب الفندق تفقّد الغرفة. وبينما كان الزائر يتصفح الغرفة، أسرع صاحب الفندق ودفع الـ100 ليرة للجزّار تسديداً لدين سابق. الجزّار سارع لدفع مستحقات لبائع الماشية، وبائع الماشية دفع 100 ليرة لبائع العلف، وبائع العلف دفعها لصاحب الشاحنة التي تنقل العلف. وصاحب الشاحنة يدفع لبائعة الهوى أجرها بينما هي تسرع إلى الفندق لتدفع أجرة الغرفة المستحقة عليها في القيام بوظيفتها. في النهاية وضع صاحب الفندق الـ100 ليرة على منصّة الاستقبال. وعندما انتهى الزائر من تفقد الغرفة لم تعجبه بل اعتذر وأخذ الـ100 ليرة. هي نفسها التي استعملت لتسديد ثلّة من الديون بين فعاليات المدينة ولم تنتج أي شيء إضافي. هذه القصة الطريفة تكشف حال الاقتصاد الرأسمالي الوهمي، إذ يتمّ تسديد ديون أو نشاطات اقتصادية مختلفة من دون إضافة ما، عبر تداول نفس الوحدة النقدية. الـ100 ليرة لم تنفق فعلياً. سرعة تبادل هذا المبلغ هي ما نقصد بسرعة تداول الوحدة النقدية في المعادلة الفيشرية، بينما جمع التبادلات الاقتصادية بسبب رأس المال الافتراضي الممثّل بالـ100 ليرة التي لم تُنفق تدل على «الإنتاج» في الحركة الدائرية الرأسمالية.
وإذا اعتبرنا الودائع قصيرة الأجل جزءاً من الكتلة النقدية، فإن تلك الودائع تصبح مكوّناً للتوازن بين الإنتاج الفعلي ومتوسّط الأسعار. فهل هذا ممكن وصحيح؟ ليس هناك علاقة مباشرة بين الودائع قصيرة الأجل والإنتاج، بل ربما بين الودائع الطويلة الأجل التي تمثّل المدخّرات للمودعين والإنتاج. فما يجب إقحامه في المعادلة التوازنية بين الإنتاج الفعلي ومتوسط الأسعار من جهة والكتلة النقدية هو الودائع طويلة الأجل. لكن واقع الحال النظري الذي تُبنى عليه مقتضيات السياسات النقدية هو عكس ذلك. فهناك معضلة نظرية يجب معالجتها.
وإذا نقلنا الموضوع إلى الواقع اللبناني، نعلم أنه ليس هناك توازناً في المعادلة المذكورة، لأن الكتلة النقدية وسرعة تداول النقد أكثر بكثير من الناتج الداخلي. فمعظم الودائع اللبنانية التي وصلت إلى ما يوازي 180 مليار دولار قبل اندلاع الأزمة سنة 2018 تشكل أضعاف الناتج الداخلي، لو اعتبرنا أن معظم الودائع في المصارف في لبنان قصيرة الأجل. فهذا يعني أن سرعة تداول الوحدة النقديّة سلبية وتمتصّ فائض الودائع والعملة المطبوعة. لكن الحدّ الأدنى النظري لسرعة التداول هي صفر، ولا يمكن أن تكون سلبية، وبالتالي يصبح السؤال كيف تم «تحييد» الودائع القصيرة الأجل من المفعول السلبي على الأسعار التي كانت حتى اندلاع الأزمة مستقرة نسبياً كما كان سعر صرف الليرة «مثبّتاً». فهل اكتشف لبنان نظرية نقدية جديدة؟
قد يكون التفسير أبسط من ذلك، إذ يبدأ مع سياسة الاستدانة المتّبعة منذ 1993. فعملية إصدار سندات الخزينة بالشكل وبالمضمون الذي حصل مخالفاً لأبسط مفاهيم الإدارة المالية أي استدانة على فترات قصيرة الزمن لتمويل مشاريع طويلة الأمد. هذا ما حصل منذ 1993 حيث سياسة الاستدانة كانت بالليرة اللبنانية ولكن بفوائد مرتفعة جداً لا مبرر لها ولفترات لا تتجاوز الشهر أو الشهرين. وبطبيعة الحال لم تكن إمكانية الدولة، لتسديد السندات إلاّ عبر المزيد من الاقتراض فأصبح الدين العام سببه الدين العام وليس تمويل مشاريع لتحسين البنية التحتية أو تقديم الخدمات الاجتماعية. هذا هو جوهر عملية بونزي - المحتال الأميركي - الذي فضح هشاشة النظام النقدي والمالي في عشرينيات القرن الماضي. وهذا ما قام به المستثمر برني مادوف مؤخراً في الولايات المتحدة، أي تمويل المستثمرين الأولين من استثمارات المستثمرين المتأخّرين. السلطة الفعلية في لبنان المكوّنة من قوى سياسية ومالية (تحالف أمراء الحرب والمال) جمع بين بونزي ومادوف في أكبر عملية سطو في التاريخ حيث تم «شفط» أكثر من 130 مليار دولار، أي القيمة التقديرية للدين العام!
فما كانت نتيجة تراكم الدين العام وإصدار السندات؟ النتيجة هي أن بيع السندات سحب السيولة من القطاع المصرفي، بينما شراء سندات الخزينة يضخّ السيولة وهذا أهم عمل يقوم به المصرف المركزي في برنامج عمليات السوق المفتوح (open market operations). هذا عمل طبيعي يقوم به أي مصرف مركزي لتنفيذ السياسة النقدية للحفاظ على استقرار النقد ومتوسط الأسعار. لكن في لبنان تم سحب السيولة من التداول، وما تبقى منها تم توظيفه في القطاع العقاري والخدمات العقارية. الاقتصاد الفعلي والمنتج أهمل عمداً. فالودائع في المصارف استُعملت لتمويل سندات الخزينة التي اكتتبتها المصارف (هنا سحب السيولة) ثم دُفعت فوائد للمودعين (هنا ضخّ سيولة) استعملوها لتمويل استهلاكهم. تفيد إحصاءات الحسابات الوطنية التي تصدرها مديرية الإحصاء المركزي أن الاستهلاك الخاص يفوق الدخل بنسبة متفاوتة بمعنى أنه تم شراء موافقة المودع عبر إغرائه بفوائد مرتفعة لا مبرر لها على الصعيد الاقتصادي. هذا أدّى إلى ارتفاع الاستيراد الاستهلاكي ورفع مستوى الرفاهية عند اللبنانيين الذين استهلكوا أكثر مما أنتجوا. وما هو أسوأ من كل ذلك، اللجوء إلى الدولار كوحدة تعامل في التبادل الاقتصادي وخاصة في الاستهلاك الخاص، وهذا لا مبرر له. فالجمهور العام اللبناني يتحمل جزءاً من المسؤولية فيما وصل إليه لبنان. فترك العمل الوطني واللجوء إلى الدولار، جعل الطلب على الدولار أكثر مما هو مبرّر للحاجات الاقتصادية مع الخارج. وبما أن الدولة لا تستطيع طباعة الدولار فلجأت إلى تثبيت سعر الصرف تجاه الدولار وذلك عبر عرض دولارات في السوق كلما ضعفت الليرة اللبنانية بسبب الاستهلاك المتزايد وضرورة تسديد فوائد السندات التي أصدرت بالدولار. لن نناقش هنا جدوى إصدار سندات خزينة بالدولار ولكن نكتفي أنه أسرع في إضعاف موقف الخزينة اللبنانية أكثر مما تبرّره الحاجات الاقتصادية. هنا نرى أن السيادة اللبنانية ضُربت مرّة أخرى عبر تفضيل الدولار عليها خلافاً للقوانين الاقتصادية والحس الوطني.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي العربي