يتوقّع أن تزدحم طرقات الكرة الأرضية بنحو 2.6 مليار سيارة في عام 2050. السيارة هي محور الاهتمام الصناعي والعقاري والفكري أيضاً. هي كانت ملكية أُسرية، ثم أصبحت ملكية فردية تختزل مشاعر القوّة والتفوّق والإثارة لمالكها. وبات يخلق منها منتجات وهمية مثل أرقام السيارات المميزة، أو خيارات تفوق الحاجات الفعلية. السيارة هي أحد منتجات النظام الذي يروّج لكل ما هو فردي وينبذ كل ما هو جماعي. هي نموذج استهلاكي لامتصاص موارد المجتمع، وهذا النموذج يحاول تحسين صورته اليوم عبر ترويج سردية استبدال الوقود بوسائل تشغيل يزعم أنها بيئية، مثل السيارة الكهربائية
ما هو سائد عن السيارة حول العالم، أنها ليست مجرّد وسيلة للتنقل، إنّما هي الوسيلة المثلى. امتلاكها أصبح سهلاً بسبب وفرة التمويل (الإقراض). الخيارات المتاحة واسعة، من النوع إلى القوّة والحجم والراحة ووسائل الأمان. ثمة الكثير من الخيارات التي تتخطى حدود الاستخدام الفعلي. رغم ذلك، فإن عناصر التنافسية لإنتاجها وامتلاكها لم تعُد تقتصر على ذلك، بل صارت تتضمن نمطاً ترويجياً صاعداً عن «السيارة البيئية». هذه الخديعة الإعلانية مبنيّة على فكرة أن نضوب النفط المتوقع كمورد طبيعي يُستخدم في تشغيل السيارة، إلى جانب القيود المتعلقة بمكافحة التلوّث، يوجب البحث عن بديل. هكذا ظهرت السيارات التي تعمل بواسطة البطاريات. المفارقة أن الليثيوم الذي تصنع منه هذه البطاريات هو أحد الموارد البيئية أيضاً مثله مثل النفط. وأسوأ ما في الأمر أن صناعة السيارات لم تعد محصورة بتحقيق القدرة على الانتقال، بل لم يعد بإمكانها أن تتخطى مستوى الرفاهية الذي بلغته في عصر النفط.
يشكّل هذا الأمر نوعاً من الضغوط على صانعي السيارات. هم لطالما روّجوا أن السيارة هي الحلّ الأمثل للتنقل، وأرسوا ثقافة مجتمعية تعتمد على «السيارة أولاً». بمعنى ما كرسوا النزعة الاستهلاكية للسيارة بوصفها أداة للحرية الفردية ولاستهلاك الأراضي والموارد لتشغيلها ولتأمين البنية التحتية اللازمة لمسيرها. لكن الضغوط المتعلقة بما يمكن تسميته «بداية نهاية» النفط، ومكافحة التلوّث العالمي، أجبرتهم على البحث عن طرق التفافية. هكذا ظهرت مبادرات من الشركات الأوروبية تركّز على الاهتمامات الاجتماعية، ومبادرات من الشركات الأميركية ركزت أكثر على العوامل المادية التقليدية، إلّا أنه سرعان ما تبيّن أن هذه المبادرة المزيّفة ليست سوى وسيلة إضافية لتسويق بيع السيارة استناداً إلى سياسات «التلميع الأخضر» بدلاً من الالتزام الحقيقي بتقليل الأثر البيئي. وما فضيحة شركة فولكسفاكن الشهيرة في 2015 سوى دليل واضح على نيات هذه الشركات.
هذه النزعة الاستهلاكية تغذّت في القروض الماضية على التحوّل في نوعية السيارة. ففيما صوّرت السيارات العاملة على البنزين باعتبارها خطراً، جرى تشجيع استعمال الديزل قبل شَيطنته ومنع السيارات العاملة به في العديد من الدول الأوروبية تدريجياً حتى منتصف القرن. وأخيراً، ظهرت السيارات الكهربائية التي تُعامَل كأنها علاج بيئي. إلّا أنه بعكس السائد، فإن السيارة الكهربائية ليست ابتكاراً حديثاً للغاية. ويعود تاريخ أول نموذج أولي للمركبة الكهربائية إلى عام 1834 على شكل نسخة صغيرة من خط سكّة حديد، إلّا أنه في عام 1880 ظهرت أول سيارة كهربائية. وفي السبعينيات جرى تطوير هذا النموذج بالتزامن مع الصدمة البترولية. لكن منذ ذلك الحين يتطلع العديد من مُصنّعي السيارات ليكونوا في طليعة الابتكار في هذا القطاع إلى أن انتشرت اليوم السيارات الكهربائية بشكلٍ محدود وبأسعار عالية نسبياً، كحال السيارات ذاتية القيادة التي كانت تسلا رائدة في إطلاقها في عام 2018 على نطاق واسع.
إذا وضعنا الشكوك التقنية جانباً، لا يمكن النظر إلى هذه الابتكارات في وسائل النقل الخاصة، إلا بوصفها محاولة للالتفاف على الفشل في أنظمة النقل المعتمدة على السيارة وتعزيزاً للنزعة الاستهلاكية التي يُروَّج لها في إطار إنتاج ومبيعات السيارات. هي نزعة مدفوعة أساساً بأفكار مساعدة مثل الفردية والحرية الشخصية، مع كل ما يوفّره امتلاك السيارة من مشاعر القوّة والتفوق والإثارة للفرد. هذه ليست مجرّد استنتاجات، وإنما هي معطيات مثبتة علمياً في العديد من دراسات الباحثين الاجتماعيين والنفسيين المعنيين بعادات التنقل. ويمكن اختصارها في لبنان حيث كان النموذج يغذّي ثقافة امتلاك السيارة.
في الواقع، ثمة ما يمكن الاستدلال به على النزعة الاستهلاكية لصناعة السيارات. فهذه المركبة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، لكنها انتشرت خلال القرن العشرين بعدما أصبحت العولمة الرأسمالية هي الفضاء الأساسي لهذه الصناعة التي سيطرت عليها شركات محدودة. ومذاك، فإنّ انتشار السيارة لم يتوقف بل بات يعتمد على سياسات اقتصادية واجتماعية مبنية على الرأسمالية التي تحبّذ الفردية وتنبذ كل ما هو جماعي. كل البنى التحتية، التوسع العمراني، يأخذ في الاعتبار وجود السيارة بشكل أساسي ويشجع على استعمالها عبر خلق وزيادة حاجات التنقل وإرساء أسلوب حياة وتكوّن مجتمعي وصولاً إلى نظام اقتصادي معتمد على السيارة.
امتلاك السيارة مرتبط بمعايير هي أيضاً نتاج الرأسمالية نفسها. فمن أبرز هذه المعايير القدرة الشرائية للفرد، وهي التي تجعله مؤهّلاً لاختيار السيارة وقدراتها. هذه المعايير مرتبطة أيضاً بضفة العرض أيضاً. فعلى هذه الضفة يعمل المصنّع على إنتاج وترويج سيارات بقدرات شرائية مختلفة. ويتناغم النظام نفسه مع هذا الوضع لإتاحة التمويل والإقراض من أجل شراء السيارة.
كان نجاح السيارة مريحاً للفرد ولكنه بالتأكيد مضرّ ومكلف للجماعة


لهذه النزعة الاستهلاكية تاريخ يعود إلى ما بعد أول ظهور للسيارة في 1770 حين كانت مركبة بخارية من اختراع الفرنسي كونيو. ففيما كان اختراع السيارة أمراً مبتكراً في تلك الحقبة، تحوّل الأمر إلى نمط تجاري اعتباراً من 1908 مع ظهور سيارة فورد (تي) على يد المهندس الأميركي هنري فورد. نجاح هذه السيارة وانتشارها خلق تحوّلات اجتماعية واقتصادية وأرسى بنية تحتية مهيّأة لاستيعاب الزيادات الهائلة في الإنتاج الاستهلاكي. وهذا الإنتاج استمرّ لاحقاً مع المصنّعين الآخرين الذين عززوا النزعة الاستهلاكية عبر إنتاج ألوان ونماذج جديدة كل عام، فضلاً عن تمويل شراء السيارات بالدَّين. واستمرّ إنتاج السيارات في العالم بوتيرة سريعة معزّزة بزيادة الدخل منذ منتصف القرن العشرين، ولا سيما في البلدان الصناعية مع تسجيل خروقات في الدول النامية ومنها لبنان. ففي عام 1950 مثلاً، كان هناك نحو 75 مليون سيارة فقط في العالم، إلا أن هذا الرقم ارتفع مع نهاية 1990 ليزيد أسطول السيارات العالمي بنحو 4 مرات ليصل العدّد إلى نحو 610 ملايين سيارة في بداية القرن الحادي والعشرين، ثم إلى 1.1 مليار مركبة في عام 2015، ويتوقّع أن تتضاعف هذه الأرقام بحلول عام 2050 لتصل إلى 2.6 مليار سيارة.
بمقارنة الزيادة في عدد السيارات بزيادة الدخل، يتبين أنه حتى السبعينيات، كان معدّل الزيادة في ملكية السيارات العالمية أسرع من معدّل الدخل مع مرونة كبيرة بين العاملين. لكن منذ التسعينيات، تبع نمو امتلاك السيارة نموّ الدخل، فيما بدت أن مرونته مع الدّخل انخفضت نسبياً، وخصوصاً في البلدان الغنية أكثر منها في البلدان النامية. هذه الأخيرة شهدت ـــ ولا تزال ـــ زيادة في عدد السيارات نابعة أساساً من النموّ السكاني وزيادة الثروة ـــ رغم الفوارق في توزعها ـــ وانتشار رموز ومعايير العولمة التي تعكس السيارة أسلوب حياة مُعيَّناً لها. وهذا ما شهدناه جليّاً في لبنان الذي ازداد فيه عدد السيّارة سبعة أضعاف بين 1974 و2016 إلى نحو 1.7 مليون سيارة رغم عقدين ونصف من الحرب الأهلية خلال هذه الفترة.
في الدول التي تعتمد أنظمة النّقل فيها على السيارة، كغالبية الدول الصّناعية وبعض النامية وعلى رأسها لبنان، يتم تحديد خمسة عناصر أساسية لما نسمّيه نظام النقل المعتمد على السيّارة: صناعة أو توفر السيارات، البنية التحتية للسيارة، الزحف العمراني، قطاع النقل المشترك، وثقافة استهلاك السيارة.
بنية تحتية ملائمة ومساعدة تعني شبكة طرقات كافية، ومواقف سيارات، وأيّ بنى تحتية أخرى قد تحتاجها السيارة. في الواقع، تكاد تكون الولايات المتحدة الأميركية أكثر البلدان لجهة استخدام السيارة وتأمين الطرقات لها لا سيّما الأوتوسترادات. ولا تقف هذه الثقافة عند حدود الانتشار في أوروبا منذ الأعوام 1950، بل تجسّدت أيضاً في إنشاء الطرق الدائريّة حول المدن، إنشاء الأوتوسترادات، تحويل الساحات العامة الى مواقف، إزالة الترامواي في أغلب المدن إفساحاً في المجال للسيارة ــــ أغلبها استرجعت الترامواي قبل نهاية القرن المنصرم ــــ. أما في أغلب البلدان النّامية فلم تكن الطرقات والأوتوسترادات أبرز همومها في القرن الماضي. إنما مع انتشار السيارة وزيادة نموّ المدن والاقتصادات، بدأ عدد من هذه الدول يشق الطرقات والأوتوسترادات، وغالباً إما بتشجيع ودعم من الدول المهيمنة اقتصاديّاً أو سياسيّاً عليها، أو بدفع من المؤسسات الدولية (الصناديق الاستثمارية، البنك الدولي...). هذه المؤسسات صوّرت إنشاء الطرقات على أنها الخطوة الأساس للعبور إلى التطوّر مع التركيز بشكلٍ موجز على أهمية الوصول إلى الخدمات الأساسية، فيما التركيز الأكبر كان على الوصول إلى العمل مع التشديد على أن ذلك سيحصل بطريقة مريحة للفرد ما يحافظ على إنتاجيته ويحسّن بالتالي إنتاج وربحية الشركة. ذلك التصوير لم يرتبط حصراً بموضوع الطرقات، إنما تم تصويره أحياناً (في الدول الصناعية كما النامية) كدافع أساسي لخفض زحمات السير ما يُسرّع الوصول إلى العمل براحة وكأنّ كل هدف تحسين نظام النقل يجب أن يصبّ أولاً وأخيراً في مصلحة الشركات ورأس المال.
هذه النظرة «المتوحشة» رأت أن تحسين النقل المشترك مطلوب للأسباب نفسها، لكنها من دون أن تقولها صراحة، اعتبرت أن هذا التحسين مرتبط بكونه وسيلة تنقل للفقراء والعمّال الذين توجّب ألا يستعملوا السيارات ولا يساهموا بالتالي في الزحمة وهو أمر لا يناسب الأفراد من فئات وطبقات مجتمعية أخرى يراهم النظام الرأسمالي أحقّ في الطريق ولهم الأفضلية في استعماله.
هذه النظرة تبدّلت في أوروبا الغربية في السنوات الأخيرة بينما بقيت رائجة نوعاً ما في الاقتصادات الناشئة والنامية (لبنان من ضمنها) وبعض المدن الخليجية التي وصل بها الأمر الى تخصيص مقاعد مخصصة للعمال خصوصاً الأجانب منهم في مركبات النقل العام فيها، ما يعيدنا إلى سياسة الأفضليّة للبيض على السود في النقل المشترك في أميركا والتي استمرّت إلى أن تم كسرها بعد الشرارة التي أطلقتها المناضلة روزا باركس في مدينة مونتغمري عام 1995.
شبكة الطرق تتكامل عضويّاً مع التوسع العمراني خصوصاً خارج المدن. بدأ ذلك عبر تزاوج بين انتشار ثقافة المسكن المفرد مع استعمال السيارة التي تعتبر الوسيلة الأكثر فردانية. فتم تشجيع الناس على الخروج من المدينة واختيار سكن منفصل. وأصبح على عاتق السلطات المعنية تأمين شبكة طرق تصل إلى بيوت الناس وهو ما يُصعّب في نفس الوقت إمكانية إرساء شبكة نقل مشترك إلى الوحدات السكانية ما يستدعي من الأفراد امتلاك سيارة لتأمين تنقلاتهم.
هذا التزاوج بين السيارة والسياسات العمرانية لا يأتي سوى لخدمة قطاع العقارات وبالتالي الريع من ضمن شبكة مصالح أوسع (متعهدو طرقات ومحروقات، شركات السيارات، مصارف...).
في الدول النامية كلبنان أخذ هذا التطور شكلاً متطرّفاً حيث أن اللانظام العمراني المعتمد سبّب هجرات جماعية من المدينة باتجاه ضواحيها القريبة ما صعّب عملية إرساء شبكات نقل غير الطرقات ورفع كلفة إنشاء شبكات نقل مشترك. حصل ذلك في بيروت مثلاً مع التوسع العمراني الذي شهده متناها الشمالي حتى جونية والجنوبي حتى الجية منذ عقدين حتى اليوم.
يسجَّل للسيارة كونها من أكثر السلع التي انتشرت بسرعة وسهولة إلى أن أصبحت نموذجاً للاستهلاك العالمي إلى حد تصوير حصول الأفراد عليها كهدف أو إنجاز بحدّ ذاته. وبذلك تم الانتقال من اعتبار تملّك السيارة من حق للأسرة إلى اعتبارها حق للفرد في أقل من نصف عقد فقط.
كان نجاح السيارة مريحاً للفرد ربما ولكنه أكيد مضرّ ومكلف للجماعة.

* باحث متخصّص في أنظمة النقل وعادات التنقل