تحلّ الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت، فيما لم تنطلق عملية إعادة الإعمار بشكل حقيقيّ بعد. حتى الآن لم تعلن أي جهة رسمية معنية، عن خطط واضحة ترسم مسار إعادة الاعمار، سواء في المرفأ أو في الأحياء المحيطة به. قد يبدو الأمر طبيعياً في ظل استقالة الحكومة مباشرة بعد الانفجار ودخولها في مرحلة تصريف الأعمال، إلاّ أن الصورة معقّدة أكثر من وجود عراقيل إجرائية تحول من دون رسم الخطط والبحث عن التمويل لإطلاق واتمام عملية إعادة الإعمار. فمن الخطأ محاولة تصوير العملية على أنّها انعكاس لإرادة سياسية مدعومة بمصادر تمويل تسير على سكك تحكمها عوامل قانونية وإجرائية وهندسية. عمليات إعادة الإعمار في لبنان هي عبارة عن صراع، إمّا داخل منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني بين مكوناتها، أو معها إن كانت قوى من خارجها معنية بالعمليات.
إيراي أوزبيك ــ تركيا

في عمليات إعادة الاعمار التي مرّت على لبنان، حضرت منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني بأسسها الثلاثة - رأس المال الغربي، ووكلائه، والطوائف - من خلال تأثيرات كلّ منها. ومن بين كل عمليات إعادة الاعمار تبرز عمليتان، كانتا الأكبر بتاريخ البلاد، إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، وإعادة الإعمار بعد عدوان تموز عام 2006. لكن بما أن معظم الأطراف، المعنية بإعادة إعمار الدمار الذي خلفه انفجار المرفأ، اتخذت قراراً بتجاهل احتمال اتباع نموذج إعادة إعمار الضاحية (وهي التجربة التي تمّت من خارج منظومة الاقتصاد السياسي ومن خلال الصدام معها)، يبدو أن الأمور تتجه صوب استنساخ تجربة إعادة إعمار بيروت بعد الحرب الأهلية.

سوليدير الرائدة
ما نتج عن عملية إعادة إعمار بيروت، بعد الحرب الأهلية، كان تغييراً في نمط الاقتصاد اللبناني، من نمط الاقتصاد الحر (lessaiz faire)، إلى نمط الاقتصاد النيوليبرالي. هذا حصل بمشاركة كل عناصر منظومة الاقتصاد السياسي. فكان لكل منها حضوراً مباشراً أوغير مباشر. عملياً لم تختلف المنظومة بشكل جوهري، لكنّها أُلبست لبوساً نيوليبرالياً، غيّر في بعض آليات عمل الاقتصاد، من دون المساس بكيفية توزيع الثروة بشكل جوهري. فكانت، مثلاً، عملية خلق وتوزيع الريع من النتائج المباشرة والسريعة التحقق للّبوس الجديد.
بشكل عام تعتمد النظرية النيوكلاسيكية في الاقتصاد تعريفاً محدوداً جداً للريع هو: الأرباح المفرطة التي يتم جنيها من التدخّل الحكومي في السوق. هذا التعريف يعتمد بدوره على تعريف مثالي للسوق، أي السوق المعزول عن العوامل السياسية والاجتماعية. لكن، بعيداً عن المثالية النيوكلاسيكية، فإن الريع واسع الانتشار في الأسواق الرأسمالية، وذلك ببساطة لأن الأسواق ليست معزولة عن العوامل السياسية والاجتماعية، وفي الوقت عينه السلطة ليست محصورة في الإطار الحكومي بل تتمدّد إلى كل مستويات المجتمع. لذا فإن تداخل العوامل السياسية والاجتماعية - التي تحكم علاقتها مع السلطة طبيعة جدلية - مع الأسواق سينتج عنه تخصيص أرباح مفرطة لمجموعات طبقية أو اجتماعية أو سياسية معيّنة، من دون أن يكون للآخرين قدرة على المشاركة في تحصيل أرباح مشابهة. وبحسب هانز باومان، فإن الريع أكثر وضوحاً أثناء عملية التطوّر الرأسمالي، عندما تتم إعادة تخصيص حقوق الملكية لتمكين التراكم الرأسمالي.
من هنا ينطلق باومان في عملية تشريحه لإعادة إعمار وسط بيروت حيث تم نقل حقوق الملكية فيه إلى شركة «سوليدير» مقابل أسهم للملاك والمستأجرين الأصليين. فكانت «سوليدير» الوسيلة لخلق الريع، عبر زيادة كثافة البناء (المساحات المبنية) في منطقة وسط بيروت. وتطلّبت هذه الزيادة الكبيرة في الكثافة، هدم الجزء الأكبر من النسيج التاريخي للمنطقة. هُدم 80% من المساحة المبنية، أكثر من النسبة التي هدمتها المعارك على مدى 15 عاماً من الحرب. ولم ترمّم «سوليدير» سوى المساحات التي كانت تحتوي على أعلى كثافة بناء. وبينما قُيّمت المساحات المستملكة بأسعار بخسة حين شرائها من أصحابها الأصليين (800 دولار لكل متر مربع من المساحة المبنية عام 1992- على شكل أسهم)، وصل سعر المتر المربع إلى ما بين 15000 إلى 20000 دولار في عام 2007. علماً بأن الدولة تحمّلت الكثير من أكلاف إعادة الإعمار، لا سيّما في البنى التحتية. وفي الواقع لم يستفد ملاك العقارات الأصليين من هذا الريع الذي خُلق، فقد حصلوا على أسهم عندما كان سعر السهم الواحد يتراوح بين 100 و170 دولار، بينما انخفضت قيمة السهم إلى أقلّ من 20 دولار حين أصبح سعر المتر المربع يفوق العشرين ضعفاً عن سعر الشراء. هذا النوع من الريع امتدّ ليشمل بيروت الكبرى كلّها. في المحصّلة أتاحت الدولة النيوليبرالية التدخليّة أشكالًا جديدة من التراكم عن طريق نزع الملكية.
كل الظروف والمسارات السياسية تشي بأن طريق إعادة إعمار ما دمّره انفجار مرفأ بيروت لن تكون مختلفة عن الطريق الذي سارت عليه عملية إعادة إعمار بيروت بعد الحرب الأهلية


منظومة الاقتصاد السياسي لم تكن غائبة عن عملية إعادة الإعمار هذه. ففي البداية كان رأس المال الغربي هو القوة الدافعة الرئيسية خلف العملية. سواء كان تحويل رأس المال يتم عن طريق الدول من خلال المنح والقروض المخصصة لإعادة الإعمار، وتحت إشراف المؤسسات المالية الدولية، أو من خلال القطاع الخاص على شكل رؤوس أموال خليجية استثمرت في مشروع «سوليدير»، ثم في تمويل عملية خلق الريع في المشاريع التي انتشرت على جغرافيا بيروت الكبرى وجبل لبنان. فكانت هذه التدفقات تأتي عن طريق وكلاء رأس المال الغربي، الذين تمثّلوا هذه المرّة بالمطورين العقاريين اللبنانيين العائدين من الخليج أو المستفيدين من سياسات مصرف لبنان الإقراضية.
وفي المقابل لم تغب الطوائف عن مشهد «سوليدير». زعماؤها ووكلاؤها استفادوا من الريع الذي خُلق عبر الحصص في المشروع، أو عبر التعويضات التي دُفعت. ويشير نجيب حوراني، إلى الشبكات التي نُسجت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، بين العائلات والميليشيات ومجموعات الأعمال التي تشاركت ونسّقت مع «سوليدير» عملية إعادة إعمار بيروت. وربما الأهم، في ما يذكره حوراني، هو الإشراف المباشر للمؤسسات المالية الدولية على مسار عملية إعادة الإعمار في بيروت، ومسؤولية هذه المؤسسات عن خلق بيئة نيوليبرالية طبعت الاقتصاد اللبناني في السنوات التي تلت العملية، عبر فرضها شروط سياسية حتى بعد أن نفذت حكومة الرئيس عمر كرامي شروطها الاقتصادية. وبشكل عام يتّهم حوراني هذه المؤسّسات بالمساهمة في إفشال إعادة الإعمار النيوليبرالية في بيروت.

الفشل والنجاح
كيف فشلت عملية إعادة إعمار بيروت؟ ألم تنتصب الأبنية مكان الدمار؟ في هذا النطاق يحدّد حوراني ثلاثة تأثيرات لعملية إعادة الإعمار في حالة بيروت:
- الأول: تمثيل الحرب على أنها السبب الرئيسي للانهيار الاقتصادي، وإخفاء الديناميكيات السياسية والاقتصادية للحرب داخل صندوق أسود غير خاضع للتحليل. فتصبح الحرب غير مسيسة، ومجرد تسلسل من الأحداث معزول عن أي سياقات سياسية واقتصادية، قبل وخلال الحرب. هذا الخطاب سمح للاعبين الأساسيين في الحرب (وجلّهم كان قد أصبح ممثلاً لطائفته حينها)، والشبكات الاقتصادية التي نسجوها، بالدخول إلى منظومة الاقتصاد السياسي والحلول مكان لاعبين أقدم منهم، أو على الأقل مشاركتهم حصصهم. هذا ما سمح بتدجين العمليات السياسية والاقتصادية.
- الثاني: هو من نتائج التدجين للعمليات السياسية والاقتصادية، إذ تمكّن ممثلو الطوائف من إخفاء سلطتهم في إطار أجهزة الدولة والعمليات الاقتصادية الطبيعية، وإخفاء مدى تأثير هذه السلطة على مسار عمل الأجهزة والعمليات. ما أدى، بشكل طبيعي، إلى فرض المزيد من القيود على الوصول إلى الفرص الاقتصادية، ويُترجم هذا الأمر على شكل احتكارات رسمية وغير رسمية.
- الثالث: هو نتيجة اجتماع قوة زعماء الطوائف وممثليها مع الإفقار التدريجي للسكان (بسبب السياسات النيوليبرالية)، الذي ينتج عنه اعتماد شعبي متزايد على هياكل الطوائف الاقتصادية والسياسية، ما يرسّخ الانقسامات الاجتماعية. أي عملياً، لم ينتج من عملية إعادة الإعمار معالجة حقيقية لأسباب الحرب الاجتماعية والاقتصادية، لا بلّ كُرّست الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية.
ويركّز حوراني على أن هذه النتيجة، التي وصلت إليها عمليات إعادة إعمار بيروت بعد الحرب الأهلية، كانت تحت إشراف المؤسسات المالية الدولية، بتمويل من رأس المال الغربي. هكذا صار المشهد النهائي مدينة من خرسانة وزجاج، مقيّدة الحريّات، تحكمها حدود طائفية وطبقية غير مرئية.

مصير قديم متجدّد
يقول فابريس بالانش، أنّه في الشرق الأوسط، تعدّ المدينة مكان استعراض قوة الدولة وسلطتها. وعليه بعد عقود من إعادة إعمار بيروت، يُعد التنظيم المكاني لبيروت الكبرى تعبيراً مباشراً عن الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية للنخب الاقتصادية والسياسية في لبنان. إنه نجاح اقتصادي لا يمكن إنكاره للنخبة، لكنه فشل من حيث حل الصراع في لبنان.
في المحصلة، إن كل الظروف والمسارات السياسية تشي بأن طريق إعادة إعمار ما دمّره انفجار مرفأ بيروت لن تكون مختلفة عن الطريق الذي سارت عليه عملية إعادة إعمار بيروت ما بعد الحرب الأهلية. حتى الآن لا يبدو أن هناك استعداداً، عند أغلبية القوى المعنية، في البحث عن مصادر تمويل بديلة عن رأس المال الغربي. حتى أن معظم هذه القوى تتصدّى لأي حديث عن احتمال قبول مصادر تمويل بديلة، سواء أكانت صينية أو روسية.
ضمن هذا المسار، لا يمكننا أن نتوقع أن إعادة الإعمار سينتج منها سياق يختلف عن السياق الفاشل لإعادة إعمار بيروت. لن تُمحى الحدود الطبقية والطائفية غير المرئية، ولن تُردم الهوّة الاجتماعية والاقتصادية. والأكيد أن السكان الأصليين للمناطق المنكوبة سيُهجّرون، من أجل خلق دورة ريع جديدة. لا بل يمكن أن نتوقع أن تدخل نخب جديدة إلى منظومة الاقتصاد السياسي، ضمن دورة خلق الريع الجديدة، نخب قادمة من رحم الديناميات السياسية (المحليّة والدولية) التي خلقها زلزال 17 تشرين الأول 2019. والأرجح أن هذه النخب ستستظلّ بطوائفها، مع الوقت.
هذا المسار، بكليّته، مرتبط بتدفق رأس المال الغربي، علماً بأن هذا الأخير منقطع عن لبنان منذ عام 2016. وإلى أن تتم تلبية الشروط الغربية لعودة تدفقات رأس المال الغربي، سيبقى مصير المرفأ والأحياء المحيطة به معلّقاً. وكل الاجراءات التي تعرقل عمل المرفأ، ما هي إلا تعليقاً لإعادة إعماره من قبل منظومة الاقتصاد السياسي، بانتظار مسار يمنع تفتّتها ويعيد تذخيرها. علماً بأن نتيجة هذا الرهان مربوطة بالتطورات السياسية المحلية والإقليمية.

المصادر المستعملة:
- «المواطن الحريري: إعادة إعمار لبنان النيوليبرالية»، هانس باومان
- «المعونة وإعادة التنمية. التمويل الدولي وإعادة إعمار بيروت. الحرب بوسائل أخرى»، نجيب حوراني، من كتاب «بيئة ما بعد الصراع»
- «إعادة إعمار لبنان أو حكم الابتزاز»، فابريس بالانش