يُخطئ من يعتقد أن استقلالية مصرف لبنان عن السلطة السياسية هي موضوع هامشي، ومجرّد شعار يزيّن الخطابات والأدبيات الاقتصادية والنقدية. لا نغالي إذا اعتبرنا أن أحد جوانب الكارثة التي حلّت باقتصاد لبنان وعملته ونظامه المصرفي ناتج عن تساهل المصرف، منذ زمن بعيد، في رسم الحدود الواضحة والصارمة بين وظائفه وبين سياسات الحكومات المتعاقبة.
ميهاي إغنات ــ رومانيا

ويمكننا الجزم أنه لو تمكّن مصرف لبنان المركزي، خلال العقود الأربعة المنصرمة، من أن يُبقي السياسة النقدية بمنأى عن أهداف السلطة السياسية، وتأثير سياساتها المالية والاقتصادية المدمّرة، لتجنّبت البلاد هذا الانهيار غير المسبوق الذي انفجر بشكل مأساوي في خريف سنة 2019. لا يتوقّف الأمر عند ترسيم حدود الصلاحيات بين المصرف والدولة، بل يتعدّى ذلك إلى مسائل موضوعية وجوهرية تتعلّق بوظيفة المصرف المركزي، الذي كلّفه القانون بحراسة المجتمع ضدّ التضخّم وبالسهر على سلامة العملة الوطنية ونظام لبنان المالي والمصرفي.
لم تكن استقلالية مصرف لبنان مطروحة كمسألة حيوية وجدلية في السنوات العشرين الأولى التي أعقبت تأسيس المصرف. لكن، مع غرق لبنان في أتون الحرب الأهلية سقطت القواعد الصارمة والحكيمة التي سلّح قانون النقد والتسليف مصرف لبنان بها، لكي يقوم بوظائفه الحيوية والجوهرية باستقلالية كاملة، لا سيما واجب الامتناع الكامل عن تسليف الدولة وتمويل عجزها بطرق مدمّرة للاقتصاد والمجتمع.
بمعنى آخر، بدأ تأثير الدولة السلبي على مصرف لبنان يتحوّل إلى مشكلة منذ نشوء أزمة المالية العامّة، وتفاقمها في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، حيث أصبحت الدولة تلجأ إلى الاقتراض المفرط من المصرف لتمويل عجزها المتعاظم. وصودف وقتها وجود إدمون نعيم على رأس المصرف، وهو قانونيّ متشدّد يرفض المساومة على أحكام قانون النقد والتسليف، خصوصاً لجهة احترام استقلالية المصرف تجاه الحكومة وحظر تمويل عجز الدولة بواسطة الاقتراض من مؤسّسة الإصدار.
باتت إيرادات الدولة في ذلك الوقت لا تغطّي إلا نسبة هامشية من نفقاتها. فبسبب انحسار سلطة الدولة على أراضيها تضاءلت الإيرادات بحيث تجاوز عجز الموازنة في بعض السنوات أكثر من 90% من النفقات. بين 1982 و1990 بلغت الإيرادات العامّة 7.5% فقط من النفقات. وتغيّرت بنية إيرادات الدولة بعد سيطرة الميليشيات المسلّحة على المرافئ غير الشرعية والمعابر بين المناطق المتقاتلة، فباتت الضرائب غير المباشرة، بما فيها عائدات الجمارك، تقلّ عن حجم الضرائب المباشرة، خلافاً للبنية التقليدية لموارد الدولة اللبنانية. كانت الرسوم الجمركية قبل الحرب الأهلية تموّل بين 30% و35% من النفقات العامّة، وباتت سنة 1985 تساوي 1.5% من النفقات وأقلّ من 1% سنة 1987.
ومن المعروف أن أزمة المالية العامة في لبنان لم تنتهِ بمجرد انتهاء الحرب الأهلية، بل تفاقمت في الفترة الطويلة التي أعقبتها، ما أبقى موضوع تمويل الجهاز المصرفي للدين العام موضوعاً ساخناً حتى اليوم. فقد ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي من 44.3% سنة 1993 إلى 100% سنة 1997 و144% سنة 2000، و155% سنة 2019.
ننتقل إلى موضوع حسّاس ومهمّ في آن وهو كيف تعامل مصرف لبنان مع تمويل الدولة خلال هذه الفترة الطويلة من الزمن؟ وهل استطاع أن يمارس استقلاليته التي خصّه بها قانون النقد والتسليف؟ وهل تمكّن من الالتزام بالحظر الذي فرضه القانون المذكور على تمويل المصرف للدولة؟
في الواقع لقد اختلفت علاقة المركزي بالدولة في هذا المجال باختلاف الحكّام الذين تعاقبوا على رئاسته، فطبع كلّ منهم هذه العلاقة بطابعه.
امتدّت المرحلة الأولى طيلة الولاية الأولى من عهد الحاكم الشيخ ميشال الخوري التي استمرّت من سنة 1977 وحتى بداية سنة 1985. بدأت الدولة وقتَها بالتوجّه إلى مصرف لبنان لتمويل عجزها، لكن مقدار العجز في هذه الفترة كان محدوداً، لأن الحرب كانت ما زالت في بداياتها. على وقع اعتراضات صندوق النقد الدولي المتكرّرة، كان المصرف وقتها يلبّي حاجات الدولة ويسعى قدر الإمكان إلى مواءمة تمويل العجز مع شكليات قانون النقد والتسليف، لجهة تمويل العجز بواسطة عقود موقّعة بين المصرف المركزي ووزارة المالية، بدل فتح خزائن المصرف أمام وزارة المالية لتسحب منها الأموال عند الطلب.
في المرحلة الثانية، التي كان إدمون نعيم خلالها حاكماً لمصرف لبنان، بين بداية سنة 1985 ونهاية سنة 1990، وجد مصرف لبنان نفسه أمام تحدّي التوفيق المستحيل بين تلبية متطلبات دولة شارفت على الإفلاس وبين أحكام قانون النقد والتسليف التي تحظر، بصورة مطلقة تقريباً، تمويل عجز الدولة بواسطة الاقتراض من مصرف لبنان، أي بواسطة خلق النقد.
لو تمكّن مصرف لبنان المركزي، خلال العقود الأربعة المنصرمة، من أن يُبقي السياسة النقدية بمنأى عن أهداف السلطة السياسية، وتأثير سياساتها المالية والاقتصادية المدمّرة، لتجنّبت البلاد هذا الانهيار غير المسبوق


وقعت المشكلة بين المصرف المركزي برئاسة إدمون نعيم والدولة، عندما أهملت هذه الأخيرة وضع الخطط لزيادة مواردها، أو على الأقلّ وقف الهدر والحدّ من الإنفاق قدر الإمكان. فقد استمرّت بالإنفاق من دون قيود أو ضوابط، معتبرة مصرف لبنان بمثابة خزّان مالي لها، عليه تمويل العجز في ماليتها من دون حدود.
قرّر إدمون نعيم مواجهة الدولة، مستنداً إلى قانون النقد والتسليف الذي حظر تسليف مصرف لبنان لها. فتسلّح بأحكام قانون النقد والتسليف ليعرقل أحياناً، ويرفض أحياناً أخرى، طلبات التمويل الواردة إليه من الدولة. وكان يردّ على طلبات الحكومة بترداد ما نصّ عليه قانون النقد والتسليف في هذا الشأن، حيث نصّت المادّة 88 منه على أن الحالة الوحيدة التي يجوز للمصرف المركزي فيها إقراض الحكومة هي تسهيلات صندوق يمكن إسداؤها عند الضرورة لمرّة واحدة كل سنة، وهي لا «تتعدى قيمتها عشرة في المئة من متوسط واردات موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها».
باستثناء ذلك يحظر على المصرف المركزي تسليف الدولة. ووضع القانون شروطاً صارمة للخروج عن هذه القاعدة «في ظروف استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى»، ونصّ على إجراءات دقيقة يجب اتّباعها قبل الوصول إلى الموافقة على قرار التسليف في هذه الحالة. لكن الحكومة لم تعترف باستقلالية المصرف المركزي التي كفلها قانون النقد والتسليف، وذهبت في المواجهة إلى حدّها الأقصى وصلت إلى حدّ الاعتداء على الحاكم جسدياً لإجباره على الخضوع لقراراتها.
كان قانون النقد والتسليف سباقاً بين تشريعات المصارف المركزية في العالم لجهة منع البنك المركزي من تمويل الدولة، باستثناء قانون البندسبنك الألماني المتشدّد إلى آخر الحدود. إلا أن التشريعات العالمية اعتمدت بعد ذلك هذا الحظر خصوصاً بعد دخول اتّفاقية الوحدة النقدية الأوروبية حيّز التنفيذ سنة 1993. ففرضت على جميع الدول الأعضاء تبنّي استقلال المصرف المركزي عن الدولة استقلالاً تامّاً من أجل عزل السياسة النقدية كلّياً عن مصالح رجال السياسة، ومنعت بصورة مطلقة اقتراض الدولة من المصرف المركزي أو حمل المصرف لأوراق الدين المصدرة من الدولة (1).
اتّحاد السياسيين من مختلف المشارب والاتّجاهات جعل المصرف المركزي يخسر المعركة ويقبل مرغماً بتمويل الخزينة، فيما كان إدمون نعيم يجمع حقائبه ويستعدّ للرحيل بسبب انتهاء ولايته.
السياسة التي انتهجها المصرف المركزي في عهد الحاكم رياض سلامة هي تسهيل حصول الدولة على تمويل عجزها من دون قيود، بل يمكن القول إن أحد الأهداف الرئيسية للسياسة النقدية في عهده كان تسهيل تمويل المصارف للدين العام ودخول المصرف المركزي شريكاً في هذا التمويل عند الاقتضاء.
لم يلجأ المصرف عموماً خلال ولاية سلامة إلى طبع العملة لتمويل الدولة، ولكنه لجأ إلى أساليب أخرى مضرّة أيضاً بالنقد وبالنموّ الاقتصادي. فهو دفع المصارف بوسائل متنوّعة إلى تسليف الحكومة، ومع توظيف 70% من موجودات المصارف في القطاع العام استقال القطاع المصرفي من وظيفته الأساسية، وهي تمويل الاقتصاد لخلق الوظائف وتوليد النموّ، وتحوّل إلى وظيفة تمويل الدولة.
ولجأ المصرف إلى شراء سندات الدين الحكومية من السوق الثانوية للهروب من المخالفة الصريحة لقانون النقد والتسليف. ثم إن تزامن وتزاوج تمويل العجز مع تسخير طاقات النظام المالي للدفاع عن سعر صرف الليرة اللبنانية لم يكن سبباً للانكماش الاقتصادي فحسب، بل أدّى إلى انهيار النظام المصرفي برمّته.
وخير ما نختم به هذا المقال، أن استقلالية المصرف المركزي لا تتحقّق بمجرّد أن ينصّ عليها القانون، بل هي تتطلّب شرطَين أساسيَّين لا غنى عنهما: الأوّل أن يكون الرأي العام قد تطوّر بحيث يجبر السلطات على احترام القانون وعدم الاستهتار بأحكامه، والثاني أن يؤمن القيّمون على المصرف المركزي أنفسهم بأهمّية استقلال مؤسّستهم، حجر الزاوية في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وأن يكونوا حاضرين للدفاع عنها مهما كان الثمن.