أتى الاتفاق بين مصر وصندوق النقد الدولي في إطار برنامج يتضمن شروطاً معيّنة، يفترض أن يهدف الاتفاق إلى «تحسين» بعض المؤشرات، مثل نمو الناتج المحلي وخفض العجز في الحساب الجاري. وفي مقابل هذه الأهداف يُضفي الاتفاق مع الصندوق نوعاً من الغطاء لمصر في الأسواق المالية، إذ يُحسّن تصنيفها الائتماني بشكل يخوّلها العودة إلى الاقتراض من هذه الأسواق. إذاً كان الهدف الأول والأخير من الاتفاق، هو الاستدانة والمزيد من الاستدانة، وهذا الأمر ليس حصرياً للحالة المصرية فحسب، بل ينطبق على أي بلد اضطر إلى المضي في اتفاق مع الصندوق. فقد لجأت مصر إلى صندوق النقد بعد معاناة مالية تمثّلت في عجز الموازنة العامّة بنسبة 12.47% من الناتج المحلي في عام 2016، وعجز في الحساب الجاري بلغ 20.4 مليار دولار في عام 2016 ما أدى إلى نزيفٍ حادّ في احتياطات العملات الأجنبية لديها. انخفضت الاحتياطات من 37 مليار دولار في عام 2010 إلى 15.8 ملياراً في نهاية 2015. كذلك كانت تعاني من تضخّم في سعر العملة المثبتة على سعر لا يمثّل القيمة الحقيقية للجنيه المصري. وبمعزل عن الدوافع السياسية، إلا أن الحكومة المصرية لجأت إلى صندوق النقد الذي أقرضها 12 مليار دولار في إطار برنامج يمتدّ على ثلاث سنوات. تضمّن البرنامج شروطاً قاسية مثل رفع الدعم، تحرير سعر الصرف، اتّباع سياسات مالية تقشّفية.

68

مليار دولار هي قيمة الزيادة في الدين الخارجي المصري منذ الاتفاق بين مصر وصندوق النقد الدولي في تشرين الثاني 2016 إذ ارتفعت من 55 مليار دولار إلى 123 ملياراً في حزيران 2020


ما نتج عن الاتفاق مع الصندوق كان بالفعل عودة ناجحة لمصر إلى الأسواق المالية. بنتيجة هذه العودة تحسّن تصنيفها الائتماني بشكل شبه فوري بعد عقد الاتفاق مع الصندوق وحتى قبل أن تبدأ نتائج تطبيق شروط البرنامج بالظهور. فبعدما كانت وكالة S&P للتصنيف قد صنّفت مصر في خانة (B-) في شهر أيار 2016 مع توقعات سلبية، تحوّلت إلى توقعات تميل الى الاستقرار في شهر تشرين الثاني، أي بعد الاتفاق مع الصندوق بشهر واحد فقط. وتحوّل التصنيف بعد ذلك إلى (B) في عام 2018.
ومنذ دخول الاتفاق مع الصندوق حيّز التنفيذ في نهاية عام 2016 ارتفعت الديون الخارجية في مصر من 55 مليار دولار إلى 123 ملياراً في الربع الثاني من عام 2020. ارتفاع يعكس المسار الذي رسمه الصندوق للحكومة المصرية. ولكنه، في المقابل، لم يظهر أي مؤشّر لمعالجة جذور المشكلة، فالقطاعات الأكبر هناك لا تزال من القطاعات الريعية الطابع غير المنتجة، مثل القطاع المالي وقطاع الإنشاءات. ولم تتم معالجة جذور المشكلة المتمثّلة بالعجز الكبير في الميزان التجاري الذي شهد تحسّناً طفيفاً من 49 مليار دولار في عام 2016 إلى 42 ملياراً في عام 2020، وهذا التحسّن يعود إلى رفع الدعم عن المحروقات والسلع الغذائية الذي كانت مفاعيله بمثابة المفاعيل الضريبية التي ترفع الأسعار الداخلية وتخفض الطلب على الاستهلاك والاستيراد.
إلا أن الحكومة المصرية لم تكتفِ بالديون الخارجية، التي تراكمت خلال هذه الفترة. فقد قررت أنها بحاجة إلى تدبير طرق مبتكرة جديدة غير الاتفاقات الثنائية وغير سندات الدين المقوّمة بالعملات الأجنبية. ففي شهر أيار الماضي وافقت هيئة الرقابة المالية المصرية على مشروع قانون يهدف لاستحداث آلية تسنيد (securitization) الحقوق والمستحقات المالية المستقبلية المتوقّعة.
آلية «التسنيد» هذه جديدة نسبياً في الأسواق المالية، فبحسب صندوق النقد استُخدمت للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأميركية في السبعينيات. وتضمنت هذه العمليات حينها تجميع الديون و«إعادة تحزيمها» لبيعها كأوراق مالية قابلة للتداول تستند على الديون الأصلية. وهذه الأوراق تصدرها الجهة الدائنة وتبيعها لمستثمرين آخرين. ومنذ ذلك الوقت شهدت عمليات التسنيد تطوراً، فأصبحت تعتمد تجميع أصول أخرى، حتى وصلت إلى تسنيد الإيرادات والمستحقات المالية المستقبلية (future cashflows). بمعنى آخر هذه الآلية تتيح إصدار سندات دين، تستند إلى الإيرادات المالية المتوقعة مستقبلاً. أو يمكن القول بأنها عملية بيع للإيرادات المستقبلية. فمثلاً إذا كان سند الدين أصدر بهدف إنشاء محطة مترو جديدة، يكون هذا السند مضموناً بإيرادات هذه المحطة. خصخصة الإيرادات المستقبلية هي العنوان الأكثر تعبيراً عن مفاعيل هذه الآلية.

في أيار الماضي وافقت هيئة الرقابة المالية في مصر على مشروع قانون يهدف لاستحداث آلية تسنيد الحقوق والمستحقات المالية المستقبلية المتوقّعة


وتُعدّ هذه الآلية طريقة لتخفيف المخاطر عن الدائنين، بحيث يضمن الدائن أخذ مستحقاته، في حال تخلّف المدين عن الدفع، من خلال أخذ الإيرادات المحددة. لكن في المقابل، هذه المخاطر المخفّفة عن الدائن تتحول إلى كاهل المدين. ففي حالة السندات السيادية العادية، هناك بنود في الاتفاق يمكن أن تحمي الدولة المدينة، في حالة عدم قدرتها على الدفع، سواء عبر بند الإجراء الجماعي، الذي يتيح للدولة إجراء اتفاقات مع الأكثرية الساحقة من حاملي السندات لإعادة الجدولة أو إعادة الهيكلة، أو غيرها من البنود الرائجة التي يمكن أن تحمي الدولة المدينة. إلا أن السندات التي تعتمد على تسنيد الإيرادات، فيها آلية واضحة في حال التخلف عن الدفع، لاستحواذ الدائنين على إيرادات أو جزء من إيرادات الجهة المدينة.
وفي 6 حزيران الجاري، وافق مجلس النواب المصري على قانون «الصكوك السيادية». وهي آلية جديدة للدين، بالنسبة إلى مصر، تعادل أو تشبه السندات، من ناحية أنها من أدوات الدخل الثابت (fixed income security)، تعتمد على أصل الدين وعلى دفعات ثابتة، ولكن تحكمها ضوابط الشريعة الإسلامية، في ما يخص موضوع الفائدة، لكونها محرّمة في الفقه الإسلامي. لذا تُستبدل الفائدة في الصكوك، من خلال عملية تملّك الدائن لحصّة من الأصل الذي يقوم عليه الصك، في مقابله يأخذ الدائن دفعات ثابتة من إيرادات الأصول، بحيث تأتي هذه الدفعات بدلاً من دفعات الفائدة في السندات العادية. وعند انتهاء مدّة الصكّ يدفع المدين المبلغ الأصلي للدائن ويستعيد الملكية الكاملة للأصول. وتشبه هذه العملية بطريقة أو بأخرى آلية تسنيد الإيرادات المستقبلية المذكورة سابقاً، مع فرق أن الصكوك هي نوع من المضاربة، بحيث يتحمّل الدائن مخاطر خسارة المشروع مثله مثل المدين.
إن هذا القانون، بالإضافة إلى مشروع قانون تسنيد الإيرادات المستقبلية، هما مؤشّر إضافي على محاولات الحكومة المصرية لابتكار طرق جديدة للاستدانة، لإشباع حاجة تمويل الدولة. وإن تراكم الديون في الفترة السابقة، وتحولها لابتكار طرق جديدة للدين ترهن إيرادات الدولة المستقبلية، يشيران إلى بوادر أزمة، قد تكون مؤجّلة، في ما يخص الدين الخارجي والإجمالي. وهذا الأمر سيقود مصر إلى صندوق النقد لطلب مساعدات جديدة، ولكن بشروط أقسى هذه المرة. وبهذا تكون قد دخلت في حلقة مفرغة، أو ما يُعرف بفخّ الدين.



نوع آخر من سندات الدين
أصدرت مصر في أيلول الماضي «السندات الخضراء» التي تهدف إلى تمويل مشاريع صديقة للبيئة بقيمة 750 مليون دولار وبأجل استحقاق، يمتد إلى خمس سنوات بفائدة 5.25%، وبحسب «مبادرة السندات المناخية» سيبلغ حجم سوق السندات الخضراء عالمياً ما بين 400 مليار دولار و450 مليار دولار في عام 2021. علماً بأن مصر تُعدّ الدولة الأولى في الشرق الأوسط التي تقوم بإصدار هذا النوع من السندات.