يدور الحديث في لبنان في هذه الأيام عن الانهيار والمآلات التي ستوصل إليه. ضمن هذا السياق يلاحظ المراقبون أن هناك قناعة، لدى قسم كبير من الطيف السياسي، أنه يمكن تفادي الانهيار أو على الأقل التخفيف من وقعه، في حال اتُّخذت مجموعة من الإجراءات في القريب العاجل. طبعاً كل طرف يشخّص الإجراءات والوضع بشكل مختلف يتماشى مع قراءته الآنية للظروف السياسية المحلية وربما الإقليمية أيضاً. لكن في الحقيقة، إن مصطلح الانهيار، في السياق اللبناني، هو مصطلح فضفاض جداً، قد يحتمل في طياته الإشارة مثلاً إلى الوضع الاقتصادي، أو إلى الفوضى الاجتماعية، أو إلى الاقتتال الأهلي، لذا سنحدّد الإطار الموضوعي للمصطلح. فالانهيار في السياق اللبناني، ولا سيما الأقرب تاريخياً، هو الانهيار الاقتصادي الشامل على المستويين الكلّي والجزئي، بكل ما يعنيه ذلك من انعكاسات على البعدين المالي والنقدي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

لم يسبق أن واجهت البلاد هذا المستوى من الانهيار حتى خلال الحرب الأهلية الطويلة التي شهدت حالات تضخّم جامح أو مفرط. وضمن هذا الإطار، الانهيار ليس على الأبواب، بل وقع فعلاً، ومنذ فترة ليست وجيزة. أما ما يعيشه المجتمع اللبناني اليوم، فهو دخوله واحدة من مراحل الانهيار الأصعب، بعدما كانت البلاد تمرّ بمخاضات أقل وطأة وقسوة، خلال الأشهر الأخيرة. الحقيقة هي أن الانهيار حصل حين أغلقت المصارف أبوابها في 19 تشرين الأول من عام 2019. كان هذا الأمر مؤشّراً، في حينه، إلى توقف الدورة الاقتصادية اللبنانية على مستوى الاقتصاد الكلّي، لما للقطاع المصرفي من حصّة غالبة فيه. ومنذ ذلك الحين، أصبح التصنيف الحقيقي للمصارف اللبنانية هو أنّها معسّرة، ولا ينقص إعلان إفلاسها إلا قرارات من السلطتين القضائية والمالية في البلاد.

الفرص الضائعة
لم يكن بإمكان أي طرف لبناني منع الانهيار في عام 2019. كان أشبه بقطار وصل إلى محطّته رغم العراقيل التي وُضعت أمامه. منع الانهيار كان يتطلّب المبادرة مبكّراً، قبل عام 2016، إلى الاتفاق مع المصارف على إعادة جدولة الديون (أو فرض الأمر عليها عبر استرجاع جزء كبير من الفوائد عبر ضرائب مرتفعة على أرباح هذه المصارف وأرباح الفوائد) والسعي الجدي لإغلاق الفجوة في الميزان التجاري علّ ذلك كان سيساعد في الحدّ من خسائر الحساب الجاري المتراكمة. لكن هذه القرارات كانت ستكون قاسية وصادمة وستواجه بمعارضة شديدة، نظراً إلى الموقع الريادي الذي يحتلّه التجار والمصارف ضمن منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية. وكانت الفرصة الزمنية المتاحة لتطبيق هذه الوصفة والعلاجات محدودة، وكان كلما تقدم الوقت أكثر ارتفع ثمن هذه الإجراءات على المجتمع وعلى المنظومة.
كل ما كان يمكن القيام به، بعد 19 تشرين الأول 2019، هو إدارة الانهيار. والأمثل كان أن يُدار بشكل يسمح ببدء عملية تعافٍ مالية ونقدية تؤسّس لعملية إعادة هيكلة للاقتصاد اللبناني، وتعالج على المديين المتوسط والطويل عيوبه الهيكلية. ما حصل فعلاً كان أن استقال الرئيس سعد الحريري في لحظة كان يجب أن تبدأ فيها حكومته عملية إدارة الانهيار، وأُلقيت المهمة على عاتق حكومة الرئيس حسان دياب، التي قدّمت خطّة واضحة محدّدة النقاط لإدارة الانهيار والانطلاق بعملية التعافي المالي والنقدي- بغضّ النظر عن الكثير من سلبيات الخطة.
قبل ذلك كانت الحكومة قد اتخذت واحداً من أهم القرارات وأكثرها شجاعة في تاريخ الجمهورية اللبنانية وحكوماتها المتعاقبة: قرار التوقف عن دفع الديون. المسار الذي رسمته الحكومة قبل استقالتها كان مؤلماً، ولكنّه بالتأكيد أقل ألماً مما يعيشه اللبنانيون اليوم. وبما أن الخطّة فُجّرت- سواء من داخل الحكومة (فلنتذكر كيف أُفشل مشروع قانون القيود على رأس المال)، أو في المجلس النيابي (من خلال الخفّة التي تعاطت بها لجنة المال والموازنة مع هول الانهيار)- تُرك الانهيار من دون إدارة، وبدأ اللبنانيون يكتشفون مراحله توالياً، انتقالاً من الصعب إلى الأصعب. وفي بلد كلبنان، منظومة اقتصاده السياسي متجذّرة ومتشابكة، لا يمكن افتراض أن موضوعية خيارات أو اقتراحات تعني تلقائية تبنيها والتضامن حولها، حتى لو كان البلد على شفا انهيار اقتصادي شامل. ولهذا السبب تحديداً كانت كل الخيارات مؤلمة منذ عام 2016، فمسار الانهيار ليس وليد عام 2016 أو حتى 2006، بل هو وليد سياسات انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 1992، وأثبتت فشلها الذريع في عام 1997، ولقد تمّ تأجيل معالجتها أوّل مرة عام 1998، ومن ثم توالت التأجيلات تباعاً إلى أن وصل القطار إلى محطة الانهيار في 19 تشرين الأول 2019.

القرار الكبير
ما الذي حصل في عام 1998؟
في الأشهر الأخيرة انتشرت على وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي مقاطع من جلسة مجلس النواب المخصّصة لإقرار موازنة عام 1998. كان الإطار الذي انتشرت فيه، يهدف إلى إظهار مواضع المسؤولية عن «الأزمة الراهنة»، بسبب قرار الاستدانة عبر سندات بالعملة الأجنبية (اليوروبوندز)، وذلك بحجّة أن كلفة الاستدانة عبر سندات الخزينة بالليرة اللبنانية فوائدها مرتفعة جداً. الحقيقة أن تلك الجلسة كانت تأسيسية فعلاً. فهي رسمت المسار الذي سيسلكه معظم الطيف السياسي اللبناني (كممثل لمنظومة الاقتصاد السياسي اللبناني) في العقدين التاليين. والجلسة كانت من الأهمية لدرجة أنّه يمكن القول إن بعض أبطالها ستذكره كتب التاريخ فقط في سياق بعض أحداث الحرب الأهلية، وكمساهم أساسي في إقرار موازنة 1998. ولكن لفهم أهمية ما حصل في تلك الجلسة، ولفهم جدوى الخيارات البديلة في حينه، لا بد من شرح الوضع الذي كانت وصلت إليه البلاد مع نهاية عام 1997.
فمنذ أولى حكومات رفيق الحريري استندت سياسته الاقتصادية إلى قاعدتين أساسيتين هما ضمان استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية وصولاً إلى تثبيته، وبرنامج إنفاق طموح وتوسعيّ. ولكن النتيجة كانت مختلفة تماماً عما كان يتوقعه ويروّج له الرئيس الحريري، فكانت النتيجة أن انطبعت الحقبة بسمتين بارزتين: ارتفاع حاد في الدين العام وانخفاض في معدلات النمو.
بحسب توفيق كسبار، فإنّه خلال الفترة الممتدة بين عامي 1993 و2002، بلغ متوسط النمو السنوي من الناتج المحلي الإجمالي 3.7% فقط، وهو معدل أقل من معدل ما قبل الحرب البالغ 6.2%. واعتبر كاسبار هذا المعدل فشلاً ذريعاً، وذلك لأن النمو في أوائل التسعينيات بدأ من مستوى منخفض نسبياً لإنتاج ما بعد الحرب، بالإضافة إلى أن النشاط الاقتصادي في تلك الفترة كان مدفوعاً بالإنفاق الحكومي المكثّف ومدعوماً بوضع الاقتصاد الكلّي القوي نسبياً رغم ظروف الحرب، وتباطؤ معدل التضخم. والأهم أن مستوى الدين كان منخفضاً في بداية تلك الفترة، بينما كانت مكانة الاحتياطيات الأجنبية وصافي الأصول الأجنبية مريحة. وبينما كانت هذه الصورة «الإيجابية والمرضية» هي الظاهرة والطاغية على المشهد، كانت الحقيقة الكامنة خلف الصورة هي المديونية الخارجية، حيث كان ميزان المدفوعات يعاني من عجز خلال الفترة الممتدة بين عامَي 1995 و2002 ، باستثناء فائض صغير في عام 1996. والحقيقة هي أن عام 1997 شهد بداية خفوت الحديث عن إعادة الإعمار، وازدياد المخاوف بشأن المستويات المرتفعة للعجز المالي والدين العام. وبالفعل في نهاية ذلك العام وصل الدين العام إلى 101% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما ارتفعت نسبة خدمة الدين من الإنفاق الحكومي إلى 36.6%، وشكّلت ما نسبته 72% من عجز الموازنة.
الاحتمالات المفتوحة في الإقليم اليوم تعطي الأمل باحتمال تشكّل منظومة جديدة مختلفة عن تلك التي رسمت الخطوط العريضة للاقتصاد اللبناني خلال القرن الماضي


كان من المفترض أن تشكل نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي، معطوفة على نسبة خدمة الدين من الإنفاق الحكومي، جرس إنذار لفرملة الاندفاع نحو المزيد من الاستدانة، وإعلان التوقف عن السداد. علماً بأنّه في عام 1998 كان الدين بالليرة اللبنانية (سندات الخزينة) لا يزال يشكّل أكثر من 75% من إجمالي الدين العام. ولكن ما حصل كان العكس، اندفعت الحكومة نحو الاستدانة بالعملة الأجنبية، بينما طبّقت حزمة من الإجراءات «الإصلاحية»، التي زادت التقشف والأعباء الضريبية على اللبنانيين. يعدّد توماس هيلبلينغ هذه الإجراءات: على صعيد الإيرادات تضمنت الموازنة زيادة رسوم على الاستيراد والنقل والمبيعات والخدمات والإسمنت، بالإضافة إلى زيادات كبيرة على رسوم المعاملات الرسمية. أما على صعيد النفقات، فقد جمّدت الحكومة التوظيف في القطاع العام وتوجّهت صوب تقليص النفقات المرحّلة من الأعوام السابقة.
عملياً اتخذت الحكومة إجراءات تعطي انطباعاً بأن المالية العامة تمرّ بأزمة عميقة، ولكنّ الدولة لم تتوقف عن الاستدانة وخدمة الدين. ورغم أن الاستدانة عبر «اليوروبندز» خفّفت الضغوط عن السوق المالية اللبنانية بحلول شهر أيار 1998، إلا أن الوضع سرعان ما تدهور في العام التالي. وبحلول عام 2001 كان لبنان بحاجة إلى مؤتمر «باريس 1» لإخراجه من الأزمة المالية التي عصفت به، حيث إن نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي كانت قد وصلت إلى 134%، بينما وصلت نسبة خدمة الدين من الإنفاق الحكومي إلى 38%، ويضاف إلى هذين العاملين أن نسبة الدين بالعملة الأجنبية كانت قد ارتفعت إلى 40% من إجمالي الدين العام.
بمعنى آخر، وجدت الحكومة اللبنانية نفسها في وضع أسوأ مما كانت عليه في عام 1998 حين قرّرت تأجيل معالجة أصل المشكلة.

الضمانات الغائبة
لكن لماذا كان الهروب من التوقف عن الدفع، سواء مع الحريري الأب أو مع الحريري الابن؟
لا يمكن حصر هذا القرار بشخص رفيق أو سعد الحريري فقط. فقرار التأجيل الأول، أي الاستدانة عبر اليوروبوندز، اتُّخذ في مجلس النواب، أي بدعم غالبية الطبقة السياسية، وهي ممثلة لمنظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية. والتوقف عن الدفع كان يعني القبول بأن الدائن الأول، أي القطاع المصرفي، أصبح مهدداً بالإفلاس. والأهم هو أن قراراً كهذا يعني توقف تدفقات رأس المال الغربي على لبنان، مع كل ما يعنيه هذا من مساس بأسس المنظومة. وفي هذا الإطار يشرح هانز باومان ما فهمه (من خلال تقارير صندوق النقد الدولي) عن كيفية تجنّب لبنان الأزمة المالية طوال تلك السنين رغم الدين العام المرتفع للغاية، معيداً السبب الرئيسي إلى «الضمانات غير المباشرة» التي أمّنها المانحون (دول الخليج وأوروبا) والمؤسّسات الدولية (ومن خلفها الولايات المتحدة) لعدم نفاد الدورة المالية اللبنانية من رأس المال الغربي. بمعنى آخر شكّل هؤلاء عماد صمود منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية في الفترة التي تلت انتهاء الحرب الأهلية.
عملياً لطالما كان التوقف عن سداد الدين العام سيعني اهتزاز منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية، سواء بسبب تبعات القرار على القطاع المصرفي أو على تدفّق رؤوس الأموال الغربية على لبنان، لذا كان القرار الدائم هو ترحيل التعامل بهكذا قرار إلى المستقبل. ولكن في السنوات الأخيرة، وعلى عكس كل المرات السابقة، لم يقدّم الغرب وحلفاؤه «ضمانات» تقي منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية شرّ التعامل الجادّ مع الأزمة، فكان أن اختارت المراهنة على استمرار هذه الضمانات حتى حصول الانهيار. ولكن في النهاية وُجد من اتخذ القرار الشجاع بالتوقف عن السداد، في ظل غياب «الضمانات» الغربية. لذا إن المنظومة تتفتّت بشكل تدريجي، وإن لم يظهر الأمر للعيان بعد. وبينما لا يمكن لأحد أن يضمن شكل المنظومة القادمة، إلا أنّ الاحتمالات المفتوحة في الإقليم اليوم تعطي الأمل باحتمال تشكّل منظومة جديدة مختلفة عن تلك التي رسمت الخطوط العريضة للاقتصاد اللبناني خلال القرن الماضي.

المصادر المستعملة:
«المواطن الحريري: إعادة إعمار لبنان النيوليبرالية»، هانس باومان
«اقتصاد لبنان السياسي: 1948-2002»، توفيق كسبار
«إعادة الإعمار بعد الحرب، والمالية العامة، والاستدامة المالية» توماس هيلبلينغ