في الخطاب العام، عاد الحديث عن التضخّم ولا سيما مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية. فقد شهد العالم الرأسمالي المتقدّم تضخماً مرتفعاً للغاية في السبعينيات والثمانينيات. عندها كان أثره مزعزعاً للاستقرار الاقتصادي ومؤثراً بشكل سلبي على أجور الملايين من الناس. ففي حين أن الزيادات السريعة في الأسعار تؤدّي إلى ارتفاعات كبيرة في الأجور، إلا أنه وسط التضخّم المفرط قد تنخفض القيمة الحقيقية للأجور. تتفق الوكالات الدولية اليوم على توقعات اقتصادية إيجابية إلى حد ما. فتتوقع المفوضية الأوروبية أن يتوسع اقتصاد الاتحاد الأوروبي بنسبة 4.2% في عام 2021، وبنسبة 4.4% في عام 2022. يُعدّ هذا الأمر تحوّلاً وتعافياً كبيرين مقارنة بانكماش نسبته 6.1% في عام 2020. وفي ما يتعلّق بالتضخّم، تشير تقديرات المفوضية إلى معدّلات تبلغ 1.9% في السنة الجارية و1.5% في عام 2022، وهي نسب تقلّ عن المعيار المرجعي الذي وضعه المصرف المركزي الأوروبي، البالغ 2%.
عالمياً، يتوقّع صندوق النقد الدولي انتعاشاً قوياً. يقدّر أن ينمو الناتج العالمي بنسبة 6% في العام الجاري و4.4% في العام المقبل بعد انكماش بنسبة 3.3% في عام 2020. كذلك، يتوقّع أن تشهد الولايات المتحدة نمواً مماثلاً، وأن تشهد منطقة اليورو نمواً بنسبة 4.4% في العام الجاري و3.8% في العام المقبل. أما بالنسبة إلى الصين، فيتوقّع الصندوق أن تشهد نمواً بنسبة 8.4% في عام 2021، وبنسبة 5.6% في عام 2022، علماً بأنها لم تشهد انكماشاً في عام 2020.
ومع ذلك، يحذّر صندوق النقد الدولي من اللامساواة: «ستعتمد قوّة التعافي على التوزيع السريع للقاحات الفعّالة في جميع أنحاء العالم». ويركّز على انعدام المساواة فيقول: «لا يزال هناك الكثير للقيام به لدحر الوباء وتجنّب الزيادات المستمرة في انعدام المساواة داخل البلدان والتفاوت في دخل الأفراد عبر الاقتصادات».
وتشير توقعات منظمة التعاون الاقتصادي إلى نمو عالمي بنسبة 5.8% هذا العام، ما يمثّل تعديلاً تصاعدياً حاداً عن توقعات شهر كانون الثاني الماضي. وتلحظ المنظمة أيضاً أن بعض البلدان تتعافى بسرعة أكبر بكثير من غيرها: «تعود كوريا والولايات المتحدة إلى مستويات دخل الفرد قبل انتشار الوباء بعد نحو 18 شهراً. ويتوقع أن يحتاج جزء كبير من أوروبا إلى نحو 3 سنوات للتعافي إلى مستويات ما قبل الأزمة. في حين قد يستغرق هذا الأمر ما بين 3 و5 سنوات في المكسيك وجنوب أفريقيا».
وحذّرت منظمة التعاون الاقتصادي، مرددة تحذيرات صندوق النقد الدولي: «في حين أن معدلات التلقيح تتقدم بشكل جيد في العديد من الاقتصادات المتقدمة، فإن البلدان ذات الأسواق الناشئة وتلك الفقيرة تتخلف عن الركب»، مشددة على أنه: «ما لم يتم تقديم حماية الجميع، فيمكن أن نعتبر أنْ لا أحد محميّ».

عملية التعافي
أحد أسباب خروج العالم من الركود الذي أحدثه فيروس كوفيد-19، هو اللقاح. هذا التعافي سيكون الأقوى منذ عام 1945، فهو أكثر حدّة من انتعاشات 1945-1946، و1982، و1991.
سبب آخر لقوّة هذا التعافي هو أن الحكومات اقترضت واستثمرت على نطاق واسع ودعمت القطاعات الخاصة بدرجة غير مسبوقة، للحفاظ على الأعمال التجارية الخاصة. لقد قدموا دعماً مالياً لأعداد ضخمة من العاملين في القطاع الخاص، بشكل يمكّن الشركات أن تبدأ العمل بمجرد بدء التعافي.
لقد اعتقدنا، نحن الإيرلنديين، بعد انهيار الأمولة النيوليبرالية (financialized neoliberalism) في عام 2008، أن إنقاذ الحكومة لسوق الملكية الخاصة وجميع المصارف الخاصة سيبقى أكبر عملية إنقاذ للدولة على الإطلاق. لكن الآن حدث ذلك على نطاق أوسع بكثير.
هذا النوع من التعافي سيرفع الأسعار. والدافع الآخر للتضخم هو أسعار السلع الأساسية، التي تتصاعد عالمياً. والمساهم في هذا الأمر هو الطلب على الطاقة النظيفة. ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية، يزدهر النحاس العالي الجودة لأنه يُستخدم في توربينات الرياح والسيارات الكهربائية. فمستقبل الطاقة هو الكهرباء والأسلاك النحاسية هي جوهرها.
يجب أن تنجح الجهود الدولية لفرض ضرائب على رأس المال والأرباح بالشكل المناسب لاسترداد أكلاف الدعم التي منحتها للشركات والعمال خلال الجائحة


تتجه برامج الاستثمار الحكومية للتحول نحو الاستدامة البيئية ما يعزّز الطلب على السلع مثل النحاس والليثيوم والنيكل والكوبالت والمعادن الأخرى المستخدمة في المنتجات المستدامة. وقد سجلت أسعار النحاس وخام الحديد والبلاديوم والأخشاب مستويات قياسية في شهر أيّار كما قفزت أسعار السلع الزراعية مثل الحبوب والبذور الزيتية والسكر ومنتجات الألبان.
الدافع الآخر للتضخم العالمي هو طلب الصين الشره على السلع والمنتجات الأخرى. فقد كانت الصين، إلى حدّ كبير، خارج السوق العالمية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لكنها اليوم مندمجة تماماً في هذه السوق. كما أن الفائض الهائل في المدخرات، الناتج عن أن المستهلكين لم يتمكنوا من إنفاق الكثير خلال الجائحة، سيعزز الطلب وبالتالي سيرفع الأسعار لبعض الوقت.

تضخّم متواضع ومؤقّت
يمكن أن يكون ارتفاع معدلات التضخم متواضعاً ومؤقتاً أيضاً، بحسب الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. إذا قام الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة بسرعة كبيرة، قد يتسبب ذلك في ركود آخر في الولايات المتحدة.
ينتقد لاري سمرز، وزير الخزانة السابق والديمقراطي اليميني المؤثر، برنامج الاستثمار الذي اتبعه جو بايدن منذ أن أصبح رئيساً، بحجة أنه سيؤدي إلى تضخم مرتفع. ويقدِّر أن حزمة التحفيز الأولية للإدارة تمثل 14% من الناتج المحلي للولايات المتحدة. ويخشى سامرز أن تكون هذه الحزم فيها مبالغة للحاجة الفعلية. ويقول: «الآن ، الخطر الأساسي على الاقتصاد الأميركي هو الإنهاك - والتضخم».
لكنّ الاقتصادي، الحائز على جائزة نوبل، جو ستيغليتز يجادل بأنه «سواء كان هؤلاء الذين يروّجون للمخاوف من التضخم، يتبعون أجندتهم الخاصة أو أنهم يتسرّعون بالتوقع، فلا ينبغي الالتفات إليهم». يمكن توقّع حدوث تعافٍ كبير يرفع الأسعار على المدى القصير، لكن هذا ليس بالأمر السيئ، لأنه يساعد على تحريك عجلة الاقتصاد والأعمال.

تحوّل معجّل
سرّعت أزمة فيروس كورونا عملية التحول نحو الرقمنة والأتمتة، بما في ذلك النمو الهائل في التجارة الإلكترونية والعمل عن بعد. وسيؤدي هذا الأمر إلى زيادة الإنتاجية بشكل كبير، وهو تحول من غير المرجح أن يتم عكسه، ما يساهم في استدامة التعافي.
لكنّ المكافآت من زيادة الإنتاجية ستتدفق إلى مالكي رأس المال. وفي الوقت عينه، يجب دعم وإعادة تدريب العديد من العمال الذين تهجّروا. ويجب أن تنجح الجهود الدولية لفرض ضرائب على رأس المال والأرباح بالشكل المناسب، إذا أرادت الدول استرداد أكلاف الدعم التي منحتها للشركات والعمال خلال الجائحة. ففي هذا العالم الجديد، لا ينبغي تقديم أي دعم للشركات الخاصة، على هذا النطاق الواسع، من قبل الحكومات من دون عوائد واضحة ومحددة لدافعي الضرائب الذين طالت معاناتهم.
أظهر الميدان العام أنه القوة المهيمنة في النظام العالمي الجديد. ويجب أن يدرك قادته ذلك. كما يجب أن يتبنوا روحية أنه «يمكننا أن نفعل» التي غابت عن السياسات التقدمية مع تضاؤل دور الدولة في العصر النيوليبرالي. يجب على هؤلاء القادة التفاوض والتخطيط، مع هذا الطموح السياسي الأسمى، لضمان الحدّ من انعدام المساواة ومعالجة إصلاح المناخ بسرعة تماماً كما هو الحال مع كوفيد-19.

* نُشر هذا المقال على موقع socialeurope.eu في 17 حزيران 2021

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام