يفترض أن تُستخدم سياسات الدعم في البلدان النامية كجزء من دعم المستهلك لتصحيح أثر الفقر وحماية القوة الشرائية لهذه الأسر. مع ذلك، تشوب هذه العملية عيوبٌ مهمّة لا تتيح للدولة أداء الدور المطلوب منها للحماية الاجتماعية: مثلاً، دعم أسعار الوقود الشامل يفيد عادةً الأغنياء أكثر من غيرهم لأن قدرتهم الاستهلاكية أعلى من خلال ملكية أكثر للسيارة أو قدرة على استعمالها أكثر، فضلاً عن إمكانية وصول أفضل إلى المنتجات المدعومة. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي (2017) إلى أن أفقر خُمس في مصر والأردن وموريتانيا والمغرب واليمن مثلاً يتلقون ما بين 1% و7% فقط من إجمالي دعم الديزل، وهو أقل بكثير من 42% إلى 77% من أغنى خُمس. كذلك غالباً ما تؤدي سياسات الدعم إلى تحويل الموارد من النفقات الاجتماعية الأخرى (التعليم والرعاية الصحية على وجه الخصوص)، التي قد تكون أكثر فعّالية في حماية الفقراء لجهة الكلفة. أيضاً، يتم التشكيك في استدامة سياسات الدعم ولا سيما عند زيادة أكلافه وزيادة قيود الموازنة التي تواجهها العديد من الحكومات. ورداً على ذلك، بدأت العديد من الدول في إعادة النظر في سياسة دعم الأسعار، بشكل عام وللمحروقات بشكل خاص. أما عن تخفيف (أو توقيف الدعم) لأسباب أخرى فقد شهدناه في العديد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل مصر والأردن والسودان وإيران... واليوم الموضوع أصبح أساسياً لكلّ من صانعي السياسات والباحثين المعنيين بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية.


لا دعم ولا نظام نقل
تشير الأبحاث - ولو لا تزال قليلة - إلى أن إلغاء دعم المحروقات يمكن أن يعيق النمو الاقتصادي في بعض الحالات ويؤدي الى زيادة أسعار الطاقة التي تنعكس أيضاً على أسعار السلع وتخفّض مداخيل بعض الأسر. تشير دراسة صادرة عن صندوق النقد الدولي في عام 2015 إلى أن زيادة قدرها 0.25 دولار أميركي لكل ليتر من الوقود، قد تؤدي إلى انخفاض دخل الأسرة الحقيقي بنسبة 5.5% (المتوسط عبر عينة من 32 دولة) ويُراوح هذا التأثير من 3.5% في أميركا الجنوبية والوسطى إلى 7% في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

بالأرقام


375
هو عدد السيارات لكل ألف شخص في مدينة تبريز
350
هو عدد السيارات لكل ألف شخص في مدينة بيروت
186
هو عدد السيارات لكل ألف شخص في مدينة اسطنبول
73
هو عدد السيارات لكل ألف شخص في مدينة الإسكندرية


أما في لبنان، فالوضع مختلف من دون أن يكون ذلك حكراً عليه. الدعم بشكل عام، وللمحروقات بشكل خاص، لم يأتِ كلياً لدعم الأسر الفقيرة ولا بناءً على مخطّط طويل الأمد لسياسات الاستهلاك أو السياسات الاجتماعية بمقدار ما أتى في سياق تحويل المجتمع إلى استهلاكي. أمّن هذا التحوّل ربحاً لكارتيلات أبرزها «كارتيل السيارات ومحروقاتها» من مستورديها إلى بائعيها، واستكمل سياسة النقل المعتمدة منذ نهاية الحرب الأهلية والتي تتلخص بـ«السيارة أولاً» وتترجم بالاستثمار الهائل في شبكة الطرقات مقارنة بفتات الاستثمار في النقل العام، وفي دعم المحروقات وتحمل كلفة استيراد واستهلاك السيارة وتوابعها بالعملات الصعبة. كذلك الأمر بالنسبة إلى رفع الدعم، فهو لم يأت أيضاً استجابة لأهداف التنمية المستدامة ولا بناءً على خطة مجتمعية – اقتصادية ارتأت تبديل هذا الدعم بحلول أخرى. بالفعل، أتى رفع الدعم ببساطة لأنه غير قابل للإطالة بعد نظراً إلى الشحّ بالعملات الأجنبية وانهيار المنظومة الاقتصادية المهيمنة على البلد منذ عقود.
بعيداً من هذا السياق، فإن إقرار الدعم ثم تقليصه وصولاً إلى إلغائه، كل ذلك ليس حكراً على لبنان، إنما هذه البلدان تتميّز بأنها لا تعتمد بشكل شبه كلّي على السيارة كما هو الحال في لبنان، وبعضها الآخر لديه بدائل مثل وسائل النقل المشترك واللينة، أو أنظمة تنقّل أخرى.

النقل المشترك أساس
أتت إجراءات وقف دعم المحروقات في مصر على وقع وصفة صندوق النقد الدولي الذي اشترط تحرير أسعار المحروقات باستثناء الغاز المستخدم للنقل والمحروقات للأفران ولإنتاج الكهرباء. لكنّ مصر تُعدّ من أقلّ دول الشرق الأوسط امتلاكاً (وربما اعتماداً) على السيارة. لديها 4.25 ملايين سيارة بمعدل 49 سيارة لكل 1000 مقيم، مع تركز خاص للسيارة في القاهرة حيث بلغ المعدل 106 سيارات لكل 1000 مقيم، وهذا رقم متدنّ مقارنة مع مدن أخرى في الشرق الأوسط. لكن في المقابل، تشير التقديرات إلى أنه لكل مليون مقيم في القاهرة يوجد نحو 130 باصاً (ذات معدل كلفة 0.22دولار للرحلة)، و3 كلم من مترو الأنفاق الذي يستخدمه نحو 846 مليون شخص سنوياً (بكلفة 0.28دولار للرحلة). هذا عدا شبكات النقل المشترك في المدن الأخرى كالإسكندرية، وشبكة السكك الحديدية الوطنية التي تُعدّ الأضخم في أفريقيا رغم ضعف نوعيتها وخصوصاً في الأرياف، لكن هناك خطّة لتطويرها بكلفة استثمار تبلغ 23 مليار دولار.
وعلى النهج نفسه، خفّض الأردن الدعم على المحروقات تلبية لبرامج صندوق النقد الدولي. هو لا يملك شبكة نقل «متطورة» وسككٍ حديدية، إلا أنه أيضاً لا يعتمد كثيراً على السيارة (139 سيارة لكل 1000 مقيم). فقد بدأ بخطوات جدية لتحسين شبكات النقل المشترك، ورسم في عام 2014 خطّة تهدف إلى إنشاء نظام فعّال لنقل الركاب عبر زيادة العدد الإجمالي للركاب الذين يستخدمون وسائل النقل العام من 13% (2010) إلى 25% في عام 2025. من أهداف الخطة تقليص نسبة استهلاك الوقود، خفض عدد الكيلومترات المقطوعة على المستوى الوطني وبكثافة في المناطق المأهولة، تطبيق نظام حافلات النقل السريع والسكك الحديدية الوطني... حالياً، يملك الأردن شبكات باصات وطنية تعمل على 500 خطّ، ويستخدمها نحو 5 ملايين راكب سنوياً. ولديه مشاريع لإيجاد شبكة باصات سريعة بين عمان والزرقاء (مشروع لنحو 4 سنوات لإنشاء 20 كلم مسارات) مع شبكة باصات حضرية في داخل مدن إربد، السلط، مادبا، والزرقاء. أما في عمان فقد تم التخطيط لزيادة حصّة النقل العام إلى 40% بحلول عام 2025.

كل زيادة بقيمة 0.25 دولار أميركي على ليتر الوقود قد تؤدي إلى انخفاض دخل الأسرة الحقيقي بنسبة 5.5%


صداقة السيارة مع النقل العام
يختلف الأمر في إيران حيث الاعتماد يزداد على السيارة في ظل وجود نظام نقل مشترك قوي. ويأتي هذا الأمر رغم الصعوبات الاقتصادية والحصار. هناك 153 سيارة لكل 1000 مقيم (نصف المعدل في لبنان). ورغم الخفض التدريجي للدعم على المحروقات، إلا أن البنزين لا يزال مدعوماً بشكل كبير ما شكّل عائقاً في حلّ مشكلة النقل والازدحام المروري في البلاد فضلاً عن نقص مواقف السيارات وتلوّث الهواء. وبالتوازي مع اتخاذ إجراءات في المدن الكبيرة مثل تقييد حركة السيارات في بعض أحياء طهران، إقرار رسم دخول سنوي الى بعض الأحياء، اقتراح المزدوج-المفرد في المرور في مناطق مقيدة (من عام 2005 إلى عام 2019)، أجريت عملية تطوير لشبكة النقل العام. في السنة الجارية تنتهي سادس خطّة خمسية للنقل، ومن أبرز أهدافها إعطاء الأولوية للسكك الحديدية وإنشاء ميزة تنافسية لها، ولا سيما لنقل البضائع لتشمل الموانئ والمراكز الاقتصادية وممرات العبور الدولية بين الشمال والجنوب. فعلى الصعيد الوطني تملك إيران نحو 14 ألف كيلومتر من السكك الحديدية وهناك خطة لزيادتها إلى 25 ألفاً. كذلك تطوّرت المدن في هذا المجال. ففي طهران أُطلق أول خطّ مترو في عام 1999 وأول خط باص سريع (BRT) في عام 2007، وحالياً هناك 7 خطوط مترو (جزء منه يعمل في الغالب كقطار في الضواحي) و10 خطوط BRT بالإضافة إلى شبكة حافلات كبيرة مع دعم أسعار التذاكر بشكل كبير للسماح للفقراء بالسفر. تجدر الإشارة إلى أن طهران من أكثر مدن الشرق الأوسط امتلاكاً للسيارات (337 سيارة لكل 1000مقيم) ولكنها لا تؤمّن سوى ربع التنقلات مقابل 40% في النقل المشترك. الحال نفسه في مشهد التي تملك أيضاً شبكة مترو وباصات سريعة مع معدل أقل لامتلاك السيارة (235 سيارة لكل 1000 مقيم) لكن نسبة استعمال أعلى (55% للسيارة مقابل 45% للنقل المشترك). أرقام شبيهة لمدينة شيراز (284 سيارة لألف مقيم و49% حصة السيارة من النقل مقابل 32% للنقل المشترك) والتي تملك أيضاً خطوط سكك حديد وشبكة باصات أو مدينة تبريز مع 375 سيارة لكل ألف مقيم و35% حصة السيارة من التنقل مع شبكة مترو وباصات. في كل هذه المدن هناك خطط لتوسيع شبكات الباصات والمترو.


النهوض السوري
ثمّة نموذج آخر لما يحصل في مجال النقل والأزمات، يكمن في سوريا. فهذا البلد يشهد منذ عقد حرباً قاسية مدمّرة اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وبشرياً... رغم ذلك، تحافظ سوريا على النقل المشترك على أراضيها. أكثر ما يمكن أن يطبع في الذاكرة، هو عودة القطار في حلب إلى العمل بعد أيام قليلة على انتهاء المعارك فيها. بعيداً من الشق التقني للموضوع، فإن ذلك يعتبر تصويراً واضحاً لتوجه القيمين على النقل المشترك في البلاد في الحفاظ عليه، لكن نوايا كهذه لم تكن متوافرة في لبنان في عام 1990. ورغم خفض كوتا المحروقات في سوريا، وزيادة سعرها (ليتر مادة البنزين الممتاز «90 أوكتان» إلى 750 ليرة سورية لليتر الواحد، ومبيع البنزين «95 أوكتان» للمستهلك بـ2000 ليرة لليتر الواحد)، إلا أن هذا البلد الذي لديه معدل 221 سيارة لكل 1000 مقيم، لم يعتمد على السيارة كما في لبنان، بل يملك الحدّ الأدنى من النقل المشترك المقسم إلى سكك حديد بطول 2500 كيلومتر تربط المدن الرئيسية، بعضها ببعض، ويخطّط لتعزيز ربطها بالدول المجاورة ولا سيما العراق وإيران. كذلك لدى سوريا شبكة نقل مشترك شعبي (سرافيس «فانات»، تاكسي، ميني فان، باص) شبيهة بالشبكة اللبنانية وباصات حضرية ولا سيما في دمشق تُعرف بالباصات الخضر والتي اشتهرت خلال إجلاء الإرهابيين من غير منطقة والتي كانت الحكومة قد اشترتها في عام 2008 لتحسين شبكة النقل الحضري لديها.

التحوّل في عادات الانتقال
في اليونان وإسبانيا، لم يتم التكيّف مع الأزمة سلباً، بل خلق المعنيّون بذلك طريقة للتكيّف الإيجابي. أزمة اليونان شبيهة إلى حدّ ما بأزمة لبنان، وإسبانيا لديها أزمتها أيضاً. الأزمة المالية والاقتصادية دفعتهم إلى تغيير عادات التنقل. أظهرت العديد من الدراسات في هذين البلدين، أن كلفة التنقل في السيارة ارتفعت بسبب الأزمة، ومعها انخفضت مداخيل المقيمين، ما دفعهم إلى التحول من السيارة إلى وسائل النقل المشترك والليّن بشكل كبير (انخفاض بنحو 17% في نسبة استعمال في بعض المدن). كذلك بدأوا بالعمل عن بعد قبل عقد من كورونا! ترافق ذلك مع إجراءات مشجّعة من السلطات، ولا سيما المحلية، التي زادت أحياناً وتيرة النقل المشترك، وشجّعت استعماله، وخفّضت كلفته ونظّمت التنقل مشياً على الأقدام وتحفيز الدراجة الهوائية.

نموذج الاعتماد المفرط على السيارة
ليس المقصود هو التسويق لتجارب الدول في مجال رفع الدعم، بل هو نقد للواقع اللبناني الذي يروّج لوقف دعم المحروقات من دون أن يكون لديه الحدّ الأدنى من البنية التحتية الملائمة لإنتاج نظام نقل بديل للطبقات الفقيرة والمتوسطة، ولتقليص الكلفة على الاقتصاد. فلبنان بلد مهول كان يعتمد بشكل مفرط على السيارة (نصف التنقلات إلى العمل وثلثا التنقلات الأخرى مع 307 سيارات لكل 1000 مقيم أقله)، وهذه كارثة تضاف إلى الأزمة التي تعصف بلبنان ونتائجها الاجتماعية والاقتصادية المدمّرة. فالمقيمون في لبنان يدفعون ثمن إهمال النقل على مدى عقود، وسيدفعون أيضاً ثمن وقف الدعم. فلو حافظ لبنان على النقل المشترك بعد الحرب كما فعلت سوريا، ولو طوّر النقل المشترك حين أدركنا ضعفه كما فعل الأردن، لو كان لديه ترف عدم الاعتماد على السيارة كما مصر، لو استثمر بشكل هائل في النقل المشترك وبادر كما بادرت إيران، أو لو انتبه مسؤولوه منذ عام واحد، أقله، إلى الخطر القادم وجرى تداركه عبر دعم النقل المشترك كما في اليونان وإسبانيا أيام أزمتهما، لما أصبح المقيمون تحت سيف الكارثة كما هي حالهم اليوم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام