ترشيق الإدارة العامة وترشيد الإنفاق، عنوانان لطالما رافقا الإدارة المالية في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية. في سنوات النهوض التي شهدت السياسات الأولى لمراكمة الدين العام كان يتم تبرير الفساد والهدر بأنهما نتيجة القطاع العام المنتفخ وغير الفعّال. وعلى خلفية المصالح السياسية الطائفية كان يجري الترويج لبيع أصول الدولة للقطاع الخاص، لكونها تاجراً فاشلاً، وبالتالي تعزيز تنافسية الاقتصاد اللبناني وتحسين مؤشراته الرافعة لوضعيته المالية.صَدَق دعاة الترشيق والترشيد، وإن عرضياً، في مسألة واحدة وهي أن الدولة اللبنانية بنظامها الطائفي، يتعذّر عليها الفعل التجاري المربح اجتماعياً ومالياً، نظراً إلى تعاظم الأضداد وتضارب المصالح في كنفها. فهل كان بالإمكان تأمين الكهرباء الدائمة والثابتة لو تمّ بيعها أو التشارك في استثمارها مع القطاع الخاص؟ على الأرجح نعم. ولكن هل كانت فرص التعليم والمؤشرات الأكاديمية أفضل لو تم إضعاف الجامعة اللبنانية أكثر مما هي عليه هشّة، لمصلحة القطاع الخاص؟ بالتأكيد لا.

البحث عن الأجوبة بين السيّئ والأسوأ فعلٌ عبثي تماماً كمحاولة إدارة مجتمع متنوّع دينياً بالاعتماد على نظام طائفي. ولذا تجد أبناء لبنان تخلّوا عن البحث عن الحقيقة والتقدّم وقد امتصّ النظام طاقة شبابهم وفعلهم التغييري. اليوم، يوجد لبنان بين عشرين بلداً تُعدّ «بؤر جوع»، حيث يتدهور فيه الأمن الغذائي نتيجة تأزم دولة الطوائف، بالتزامن مع استحكام وباء كوفيد-19 بالبلاد.
التصنيف الذي يعتمده برنامج الأمم المتّحدة للغذاء والزراعة، يعكس، في حالة لبنان، معدل تضخّم عاماً يقارب 150%، ونسبة ارتفاع في أسعار السلع الغذائية تفوق 400%. كلّ ذلك في ظل انهيار القدرة الشرائية للأجر بنسبة 90% تقريباً بعدما هوى الحد الأدنى للأجور إلى 50 دولاراً تقريباً.
ستتراجع النفقات الحكومية في لبنان إلى 23% من الناتج وهو أحد أسوأ المؤشرات في مجموعة البلدان النامية والمتوسطة الدخل التي سيبلغ المعدل فيها هذا العام 33% تقريباً


في ظل غياب التسوية، يتوقع أن تستفحل الأزمة الغذائية أكثر خلال المرحلة المقبلة بينما تركّز الطبقة السياسية على عناوين تُشكّل لها رافعة في التفاوض مع الشركاء في الداخل والرعاة من الخارج. أحدها الملف النفطي، الذي يزداد تعقيداً بين سوريا والكيان الإسرائيلي، وعلى الأرجح لن يكون ذات جدوى عملية في المرحلة المقبلة. والآخر، وهنا الدسم الذي يفيد الزعماء، هو تراجع معدل الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
فبنتيجة سياسة التضخّم النقدي المعتمدة، وإحجام الدولة عن التوسع في الإنفاق، سيتراجع معدل الدين العام الإجمالي إلى الناتج المحلي الإجمالي من أكثر من 150% في عام 2020 إلى 93.1% هذا العام ويستمر التراجع ليبلغ المعدل 85% تقريباً بعد خمسة أعوام وفقاً لتقديرات نشرها أخيراً صندوق النقد الدولي في إطار نشرة المرصد المالي لشهر نيسان.
ولهذا المؤشر أبعاده في السياسة اللبنانية وفي العلاقة مع الأفرقاء الأجانب، فالاقتصاد الصغير المفتوح على الخارج وعلى الهدر والفساد أيضاً، يبحث من دون كلل عن نوافذ للاستدانة أكثر، وكلما كان المعدل المذكور منخفضاً شكّل مسوّغاً اسمياً لطلب الأموال والتوقيع على سندات الاستدانة.


السلطة اللبنانية التي تتخبّط في أزمة مستمرة منذ نحو عامين، قد تجد نفسها في موقع تفاوضي تقني أكثر ملاءمة خلال الفترة المقبلة، على أن تعالج عقدتها المتمثّلة بحكومة تقنية الطابع. لكن في المقابل، يجد الشعب نفسه في المقلب الآخر من المعادلة حيث تتراجع النفقات الحكومية كنسبة من الناتج إلى 23% فقط، وهو أحد أسوأ المؤشرات في مجموعة البلدان النامية والمتوسطة الدخل التي سيبلغ المعدل فيها هذا العام 33% تقريباً. كذلك تهوي إيرادات الحكومة إلى 11% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم يعادل نصف المسجّل في مجموعة البلدان النامية، وأحد أسوأ المؤشرات بين البلدان الأخرى. كذلك يُتوقّع أن يُسجَّل عجزٌ في المالية العامة هو الأعلى خلال فترة العقد الأخير، والأسوأ بين البلدان النامية، يبلغ 18.8% في مقابل معدل ما دون 8% لبلدان المجموعة النامية.
جميع هذه المؤشرات المتراجعة تعني خفضاً في الإنفاق العام يؤدي إلى تضرر الفئات الأكثر هشاشة بشكل أو بآخر، ويدفعها أكثر صوب الإعانات الزبائنية فيما تتدهور الاستثمارات ومستويات الخدمات العامة في البلاد. الأزمة إذاً مستمرة ومعها قطار دولة الطوائف.


يمتنع صندوق النقد الدولي عن نشر أيّ تقديرات وتوقّعات اقتصادية للبنان لفترة 2021 - 2026 في تقريره «آفاق الاقتصاد العالمي - نيسان2021» وذلك لوجود «درجة عالية غير معتادة من عدم اليقين» وفقاً لما يذكره في الملحق الإحصائيّ.

* يجدر الانتباه إلى أن صندوق النقد الدولي لم يذكر أيّ منهجية اعتمدها من أجل احتساب أرقام الدين العام والناتج المحلي الإجمالي ولا أيّ سيناريوهات تبنّاها لتقديم هذه الأرقام.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام