خلال السنة والنصف الماضية، فقد مصرف لبنان قدرته على التدخّل في السوق، سواء للحفاظ على السعر الثابت للدولار، أو لتأمين متطلّبات الخزينة بالعملات الأجنبية، أو لكبح التضخّم... يمكن اعتباره عاجزاً غصباً عنه أو بإرادته. فهو رسم مساراً خاصاً به لتغطية أزمة النظام المصرفي حصراً، على حساب مداخيل الناس ومدخراتهم، وانكماش الاقتصاد بمستويات غير مسبوقة. ضمن هذا الهدف أفرط في استعمال الأدوات المتاحة له، أو استعملها بشكل غير ملائم حتى باتت غير فاعلة، أو تغاضى عن استعمال أدوات أخرى لا تخدم الأهداف التي حدّدها لنفسه بعيداً عن أي توجهات حكومية أو رسمية. المصرف المركزي، هو مصرف المصارف. هو الجهة التنظيمية. بحسب قانون النقد والتسليف هو مسؤول عن استقرار الاقتصاد والليرة والقطاع المصرفي. عمله يتطلب أحياناً تمويل المصارف، أو سحب السيولة من السوق، أو طباعة المزيد من النقود. كل ذلك وغيره، يجب أن يتم ضمن أهداف واضحة ومحدّدة مرتبطة بمستويات التضخّم والتوظيف. في الواقع، لم يكن مصرف لبنان يمارس هذه الوظائف. حصر عمله في الحفاظ على تدفّق الدولارات من الخارج وتحويلها إلى موجودات محلية. بنية هذا النظام مرسومة على أساس السطو على ودائع الناس.

35.980 مليار ليرة

هي مجمل قيمة النقد المتداول في منتصف شهر آذار الجاري مقارنة مع 34487 مليار ليرة في نهاية شباط، أي بزيادة 1493 مليار ليرة خلال 15 يوماً

وهو لم يكن يمارس أيّاً من الوظائف المحدّدة له في الإطار العام، بل في الإطار الخاص الذي يراه مناسباً لتأمين استمرارية النظام (النموذج الاقتصادي). باختصار، هو فشل في قيامه بهذا الدور. فمن بعد سنوات من النجاح المزعوم، تبيّن أن أصل الأزمة في النظام نفسه الذي كان يحميه سلامة وآخرون في السلطة. نظام تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار انهار بالكامل. لم يتمكّن من لجم معدّلات التضخّم التي حلّقت نحو 90% في السنة الماضية. أما فشله الأكبر فهو تدمير الاقتصاد من أجل حماية النظام المصرفي. لا فرص عمل مستهدفة، بل ركود خانق وتزايد في معدلات البطالة.
أي مصرف مركزي حول العالم، لديه أدوات لتحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها، سواء لكبح معدلات التضخّم والبطالة أو للدفاع عن العملة (يُفترض ألّا يكون الدفاع عن العملة هو الهدف النهائي بل هو هدف وسيط يتناغم مع المؤشرات الاقتصادية). أهم هذه الأدوات: عمليات السوق المفتوحة، خفض معدل فائدة الإقراض، خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي للمصارف، سعر الحسم... إذاً، ما هي هذه الأدوات ولأيّ أهداف تُستعمل؟

عمليات السوق المفتوحة
تعتبر عمليات السوق المفتوحة، الأداة الأكثر استعمالاً من قبل المصارف المركزية للوصول إلى الأهداف المطلوبة. فهي تتضمن عمليات بيع وشراء سندات الخزينة بين المصرف المركزي والمصارف التجارية. الهدف منها، التأثير على الاحتياطات المالية للمصارف ومعدلات الفوائد في السوق. فعندما يشتري المصرف المركزي سندات الخزينة من المصارف التجارية، هو يقوم عملياً برفع الاحتياطات المالية لهذه المصارف ويوفّر لها كميات إضافية من السيولة التي يمكن إقراضها في السوق. هذا ما يسمى «رفع مستوى كمية العرض النقدي في السوق». العرض النقدي، إلى جانب الطلب على النقد، هما عاملان أساسيّان للتحكّم بمعدلات الفائدة السوقية. ففي حال ارتفع العرض النقدي في السوق، تكون النتيجة انخفاض معدلات الفائدة. أما إذا قام المصرف المركزي ببيع السندات للمصارف التجارية، فيخفّض بهذه الطريقة الاحتياط النقدي الموجود لديها ويصبح لديها كميات أقل من السيولة للتصرف بها (الإقراض والتوظيف) ما يؤدي إلى انخفاض العرض النقدي في السوق وارتفاع معدلات الفائدة السوقية.

بشار اللقيس ــ لبنان


تعديل نسب الاحتياط الإلزامي
العمل الطبيعي للمصارف هو إقرض الزبائن أموالاً من خلال السيولة المتاحة لديها. لكن المصرف المركزي لديه طلب واحد في المقابل: الاحتفاظ بقدر معين من الودائع في متناول اليد لتغطية عمليات السحب المحتملة. يسمى هذا المبلغ «الاحتياط الإلزامي»، أي الكمية النقدية التي على المصارف الامتناع عن إقراضها وإيداعها لدى المصرف المركزي. عندما يرفع هذا الأخير، نسب الاحتياط الإلزامي، فهو يعبّر عن سياسة نقدية انكماشيّة في إطار الأهداف التي يرسمها، أي أنه يسعى إلى خفض العرض النقدي من خلال تجميد كميّة أكبر من الأموال كاحتياطات إلزامية. أما إذا خفّض نسب الاحتياطات، فإن ذلك يُعتبر جزءاً من سياسة توسعيّة، أي سياسة تهدف إلى رفع النقد المتداول في السوق من خلال إتاحة أموال أكثر للإقراض. قد يندر استعمال هذه الأداة بسبب صعوبة تأقلم المصارف مع التغيّرات الناتجة منها. لذا، تلجأ المصارف المركزية، في العادة، إلى استعمال هذه الأداة في حالات الأزمات فقط. هذه الأداة اعتمدتها بعض المصارف المركزية، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لمواجهة أزمة كورونا.

تعديل سعر الحسم
سعر الإقراض للبنك المركزي، أو سعر الحسم (discount rate)، هو أداة متاحة لاستعمالها من قبل المصارف المركزية. هذا السعر، هو معدّل الفائدة التي يطلبها المصرف المركزي لإقراض المصارف التجارية، وهو أعلى من معدّل فائدة الإقراض بين المصارف نفسها. أهميّة هذا المعدّل، أنه يؤثّر على معدلات الفائدة السوقية. فإذا رفع المصرف المركزي سعر إقراضه، ترتفع كلفة الاقتراض عند المصارف وبالتالي يرفع سعر فائدة القروض التي تعطيها للزبائن ما يؤدّي إلى انخفاض العرض النقدي، لأن المصارف ستخفّف اقتراضها للأموال من المركزي. ومن ناحية أخرى، يؤثّر هذا الأمر على طلب النقد في السوق بسبب ارتفاع كلفة الاقتراض، أي أنه يصبح جزءاً من سياسة نقدية انكماشية. أما إذا قرر المركزي خفض سعر الحسم، تنخفض كلفة الاقتراض لدى المصارف ما يؤدّي إلى انخفاض معدلات فائدة إقراض الزبائن، وبالتالي يزداد الطلب على النقد والعرض أيضاً.

أداة غير تقليدية
كل ما سبق هو من الأدوات التقليدية للمصارف المركزية لتطبيق سياساتها النقدية. لكن هناك أداة أخرى غير تقليدية أصبحت محور بحث عند الاقتصاديّين المختصّين، هي أداة التواصل مع عامّة الشعب. يقول بول جنكينز، وهو حاكم المصرف الكندي المركزي السابق، إن التواصل هو أداة مهمّة جداً للمصارف المركزية لسببين أساسيين؛ الأول هو أن «التجارب أظهرت أن التواصل يحسّن فعالية السياسة النقدية. أو بعبارة أخرى، السياسة النقدية تكون أكثر فعالية عندما يتم إبلاغها إلى الشعب بشكل فعال». أم السبب الثاني فهو أن «التواصل يجعل المصارف المركزية أكثر خضوعاً للمساءلة». فمع ازدياد مستوى الثقافة المالية والاقتصادية عند المجتمعات، يصبح على المصارف المركزية التفكير بشكل أعمق في الأثر الناتج من قراراتها، على السلوك الجماعي للمتلقّين. فعندما يقوم المصرف المركزي بإجراء معيّن بهدف معيّن، من الطبيعي أن يكون العامل الأكثر تأثيراً في هذه العمليّة هو ردة الفعل العامّة. إذا اختلفت ردّة الفعل عن توقعاته، قد تكون نتيجة الإجراء مغايرة تماماً لما يهدف إليه. لذا تستعمل المصارف المركزية التواصل كأداة من أجل الحصول على ردة فعل عامّة تتناسب مع توقعاتها، وبالتالي تعطي إجراءاتها فعاليّة أكبر. كما أن تواصل المصرف المركزي مع الناس أساسيّ لأنه يجعل المصرف خاضعاً للمساءلة ولتحمّل مسؤولية نتائج سياساته.

فشل مصرف لبنان
عملياً، لم يعُد لدى مصرف لبنان أدوات كثيرة متاحة للاستعمال. أصبح هامش الحركة ضيقاً أمامه. فهو منذ بداية الأزمة استخدم «عمليات السوق المفتوحة» بشكل مفرط، بعدما اختار مواجهة الأزمة عبر طباعة أكثر من 30 ألف مليار ليرة خلال بضعة أشهر. كانت هذه الأداة هي طريقه الوحيد لضخّ هذا المبلغ في السوق وإن لم تتم بالطرق التقليدية (مثل شراء سندات الخزينة من المصارف). لكن النتيجة كانت واحدة: تضخّم كتلة العرض النقدي في التداول. هذه الأداة لم تعُد ذات فعاليّة الآن. فحتى لو قرّر تقليص الكتلة النقدية، أي عكس الاتجاه الذي سلكه منذ بداية الأزمة، فالمصارف التي أصبحت بمثابة مصارف «زومبي» غير قادرة على لملمة الأموال من السوق، فضلاً عن أنها مضطرة لأن تدفع للمودعين أموالهم بالليرة.
فقدان الثقة بمصرف لبنان انعكس سلباً على الاقتصاد ولن تعود هذه الثقة إلا بعد تغيير كبير في هذه المؤسّسة


أما أداة «معدل فائدة الإقراض»، فقد استعملها في بداية الأزمة عندما خفّض معدلات الفائدة على ودائع الليرة والدولار، لكن هذا الأمر لم يجدِ نفعاً إذ أن انخفاض معدلات الفائدة لم ينعكس زيادةً في القروض لتحريك الاقتصاد، لأن المصارف لم تكن قادرة على الإقراض أصلاً.
ولم يلجأ مصرف لبنان إلى «تعديل نسب الاحتياط الإلزامي» رغم أنه أمر قد يصبّ في مصلحة الاقتصاد على المدى الطويل. إن بقاء الاحتياط الإلزامي كما هو، يضمن على الأقل عدم تبديده من قبل المصارف اللبنانية أو تحويله إلى الخارج بشكل استنسابي. وقد يكون لهذه الأداة دور مهم في مرحلة قادمة إذا تم الاتفاق على خطّة اقتصادية شاملة. عندها قد يستعمل تحرير جزء من الاحتياطي الإلزامي لتمويل قروض تخلق حركة إنتاجيّة وتحرّك عجلة الاقتصاد. هذا بالطبع في حال كانت هذه الاحتياطات موجودة فعلاً بالحجم الذي يدّعيه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
أما أداة التواصل التي تعد الأهم عندما تتزامن مع استعمال الأدوات الأخرى وتمنحها فعالية أكبر، فقد فقدها المصرف منذ ما قبل الأزمة. فالتواصل القليل الذي كان يقوم به حاكم مصرف لبنان بشأن تحديد أهدافه السنوية أو تفسير تحرّكاته في السوق، اتضح منذ قبل بداية الأزمة أنه لا يعوّل عليه. هذا الأمر أثّر بشكل مباشر على الثقة بمصرف لبنان كمؤسسة. فقدان الثقة بمؤسسة بهذا الحجم ينعكس سلباً على الثقة في المؤسسات الأخرى، من مصارف ومؤسسات عامّة، وفي الاقتصاد بشكل عام. هذه الثقة لن تعود إلا في حال حصل تغيّر كبير في المصرف المركزي، أو في حال حصل تغيّر ملحوظ في سياساته. فقط عندها، يمكن لأداة التواصل هذه أن تكون مبعث قوة وثقة في يد المصرف المركزي ليستعملها في تطبيق سياساته.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام