ما الذي يمكن فعله أثناء مرورنا الطويل في نفق هذه المرحلة الفوضوية من الأزمة؟
لا يتعامل هذا السؤال بطبيعة الحال مع تحديات الحلّ الطويل الأمد، الذي يعني في الاقتصاد السياسي تحديد الوجهة النهائية لتوزيع الخسائر المتراكمة ومعها المسؤوليات عنها، وفي الاقتصاد الكلّي وضع خريطة طريق لاقتصاد يحقق توازن الحسابات الخارجية للدولة ويحمي العملة الوطنية بالمنافسة والإنتاج، وفي الاقتصاد الاجتماعي الانتقال من نظام المساعدة الاجتماعية التوزيعي والمؤقت بطبيعته إلى الحماية الاجتماعية المعزّزة بنموّ منصف وتغطية صحية شاملة ومؤسّسات تعليم عامة ذات جودة عالية. لكنه، يعني في الاقتصاد النقدي إحياء السياسة النقدية التي تعطّلت أهم أدواتها بسبب توقّف المصارف عن الدفع وشلل قطاع الوساطة المالية. فالسلطة النقدية التي يقع على عاتقها بالدرجة الأولى إدارة السيولة العامة في الاقتصاد وضبطها والتأثير على معدلات الفائدة، فقدت الوسائل اللازمة لفعل ذلك مثل التحكّم بنسب الاحتياط الإلزامي (التي لا قيمة لها مع تلاشي الودائع)، أو تغيير معدلات الحسم (التي فقدت تأثيرها مع جمود النشاط المصرفي)، أو عمليات السوق المفتوحة (بعد انهيار الثقة بإصدارات الدولة من سندات الخزينة).


أربعة عوامل محدّدة لسعر الصرف
وللتذكير، فإن الفرق الجوهري بين أزمة الليرة اللبنانية في ثمانينات القرن الماضي وأزمتها اليوم، يكمن في حجم الخسائر الهائل التي أصابت القطاع المالي، والتي يُراد إطفاؤها من خلال طباعة النقود، فيما كان الغرض من هذه العملية في الأزمة السابقة هو تمويل القطاع العام الذي انعدمت مداخيله أثناء الحرب. إن إدراك هذا الفرق مهم جداً في مواجهة الاعتقاد المبسّط الذي يفترض أنه من اليسير تكرار سيناريو عام 1992، ففي ذلك الوقت شُكّلت الحكومة الحريرية الأولى في ظروف معروفة وضمن تسويات قويّة ساعدت على تحسين سعر الصرف، وهذا ما لا يمكن تكراره الآن في ظل فجوة التمويل الهائلة التي يحتاج ردمها إلى وقت طويل.

حسن بليبل

بناء عليه، حالياً تتحكّم أربعة عوامل، على نحو متفاوت، باستقرار سوق الصرف وتوازنها؛
- أكبرها على الإطلاق خسائر القطاع المالي. ففي كل يوم تُستبدل قيم حقيقية «مندثرة» لودائع بالدولار الأميركي بقيم «وهمية» بالليرة اللبنانية، وتُضخّ من أجل ذلك عشرات مليارات الليرات على شكل سحوبات نقدية من حسابات بالعملة الصعبة. بهذه الطريقة يجري تذويب الخسائر المتراكمة، بما يتعارض مع مصلحة المودعين الذين فقدوا 80% تقريباً من قيمة ودائعهم، وعلى حساب معيشة الأسر التي خسرت حتى الآن ثلثي مداخيلها. إن تغطية الخسائر على النحو المذكور، مسؤول منذ نهاية عام 2019 عن نحو 70% من مجموع الزيادة في النقود المتداولة بالليرة اللبنانية (M0) التي تجري بوتيرة تدفّق شهري يصل معدّلها إلى 1500 مليار ليرة، وتغذّي باطّراد الطلب على العملة الصعبة التي يتناقص المعروض منها باستمرار.
- العامل الثاني في التأثير على توازن سوق الصرف، هو عجز الخزينة العامة، الذي لم يتدنَّ رغم ظروف الأزمة عن 5500 مليار ليرة في عام 2020، بل يتوقع أن يصل إلى 6200 مليار ليرة وفق تقديرات مسوّدة موازنة 2021. وتعتمد الحكومة بصورة شبه تامة على المصرف المركزي لتمويل هذا العجز، ما يرتب ضخّاً نقدياً إضافياً تسبّب على نحو تراكمي في تضخيم الكتلة النقدية المتداوَلة بالليرة. يمكن لهذا الضخّ أن يتضاعف إذا اعتمد على خلق النقد أيضاً، في تمويل برامج المساعدة الاجتماعية للأسر الأكثر فقراً (لا تقلّ الكلفة السنوية المطلوبة لإعانة 600 ألف أسرة فقيرة، عن 9 آلاف مليار ليرة).

6.200 مليار ليرة

هو العجز المتوقّع في موازنة عام 2021، بعد أن كان 5.500 مليار ليرة عام 2020


- يأتي ثالثاً في عداد العوامل المؤثّرة على السوق، عجز الحساب الخارجي. ففي وقت تتسع فيه الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، ينكمش حجم المعروض من العملات الأجنبية بفعل الخلل المزمن في الموازين الخارجية. ورغم تراجع الاستيراد إلى أدنى معدّل له منذ سنوات عدة، ما زال عجز الميزان التجاري مرتفعاً، وكذلك عجز الحساب الجاري الذي تراوح عام 2020 ما بين 3.5 مليار دولار، و4 مليارات دولار. ينضوي تحت هذا العجز، الرصيد السلبي لحساب الدخل الذي يزيد عن مليار دولار أميركي، ونفقات السفر والسياحة التي تصل إلى 1.7 مليار دولار. فيما تقدّر تحويلات العمال وتعويضاتهم الخارجة من لبنان بما لا يقل عن ثلاثة مليارات دولار. وإذا أخذنا في الاعتبار التدفقات الرأسمالية الشحيحة التي ما زال متوقعاً دخولها إلى لبنان، فإنّنا بحاجة إلى ما لا يقل عن ثلاثة مليارات دولار سنوياً لمنع استنفاد الاحتياطات الأجنبية وإبقاء عرض العملات الأجنبية في الأسواق على حاله.
- أما العامل الرابع الذي يمارس ضغطاً إضافيّاً على السوق، فيرتبط بعوامل طارئة؛ مثل لجوء المصارف عن غير حق إلى السوق المحلية لتأمين متطلبات التعميم 154، وتوقف مصرف لبنان عن تزويد الصرافين بالدولارات عبر المنصّة منذ أسابيع، وأعمال المضاربة التي يقف وراءها بعض كبار المتعاملين في السوق، والتوقّعات السلبيّة المتّصلة باحتمال رفع الدعم أو ترشيده، ناهيك عن التوتر الداخلي الذي يجري استغلاله وتصعيده لأغراض سياسية معروفة. تسبّبت هذه العوامل الظرفية في تفشّي ظاهرة تفضيل السيولة بالدولار، أي الاحتفاظ بالعملة الخضراء بدلاً من عرضها في السوق، وفي زيادة سرعة تداول النقود بالليرة اللبنانية الذي يعني تقنياً توسيع الكتلة النقدية.

بؤرة الأزمة
إذا كان الهدف هو السيطرة على تقلّبات سعر الصرف، فهذا يقتضي التعامل مع هذه العوامل مجتمعة، وتدخلاً يومياً محسوباً من قبل مصرف لبنان، وزيادة شفافية سوق القطع وتمكين المؤسّسات النظاميّة العاملة فيه من العمل وفق القوانين المرعية الإجراء. لكن التركيز يجب أن ينصبّ قبل ذلك وبعده على بؤرة الأزمة المتمثّلة في مشكلة المودعين الذين يواجهون اقتطاعاً قاسياً ومتزايداً وعشوائياً من ودائعهم بالعملة الصعبة. فمن حقّ هؤلاء أن يحصلوا على أموالهم بعملة الإيداع، أو على الأقل بما يوازيها بسعر الصرف الفعلي إذا أخذنا ببعض التفسيرات لقانون الموجبات والعقود. وحتى ننجح في امتصاص الأثر اللاتوازني لتسييل الحسابات بالعملة الصعبة على شكل ليرات لبنانية، فإنّ علينا تغيير الآلية المعمول بها حاليّاً، فيحصل المودعون مجدداً على جزء من سحوباتهم بالدولار الأميركي ضمن سقوف محددة. وهذا ما يمكن أن يأتي في إطار إجراء مزدوج ينال بموجبه المودعون ما لا يقل عن 30% من سحوباتهم النقديّة بالدولار الأميركي. على أن يلتزم مصرف لبنان بتغطية ما يوازي الاحتياط الإلزامي (15%) من قيمة هذه السحوبات، فيما تتولى المصارف تسديد نسبة مساوية (مع إمكانية زيادتها تدريجياً)، شرط أن يتحقّق ذلك بأموال طازجة آتية من الخارج ومن ضمنها المؤونات المطلوبة بموجب تعاميم مصرف لبنان.
بتطبيق هذه الآلية، تستأنف المصارف تسديد جزء من مطلوباتها بالدولار، وتجري المحافظة في الوقت نفسه على ما يعدّه المصرف المركزي احتياطيّاً إلزاميّاً. فإذا أخذنا بفرضية أنّ السحب السنوي من الودائع يتراوح ما بين 4.5 مليار دولار و5 مليارات دولار أميركي، يكون المطلوب ضخّ 1.5 مليار دولار تقريباً في السنة لمصلحة المودعين، مناصفة بين المصارف والمصرف المركزي، وهذا يفوق قيمة خلق النقد السنوي بالليرة اللبنانية المترتّب على سحوبات المودعين بسعر المنصة والتي ستقلّ وفق هذه الآلية بمقدار الثلث.

حتى ننجح في امتصاص الأثر اللاتوازني لتسييل الحسابات بالعملة الصعبة على شكل ليرات لبنانية فعلينا تغيير الآلية الحاليّة ليُتاح للمودعين الحصول مجدداً على جزء من سحوباتهم بالدولار الأميركي ضمن سقوف محدّدة


وللغرض نفسه، يجب خفض عجز الخزينة والموازنة العامة إلى أدنى حدٍّ ممكن، مع التركيز على تقليص النفقات التي تستلزم ضخّاً نقديّاً في السوق، وزيادة الإيرادات التي تمتصّ السيولة. وفي واقع الحال يمكن تحقيق التوازن بين جانبَي الواردات والنفقات في الموازنة العامة، ومحو العجز (الذي تقدّره مسودة مشروع موازنة 2021 بنحو 4687 مليار ليرة عدا سلفة الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان) من خلال بضعة إجراءات «واقعية»، أبرزها شطب كامل الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والبالغة حسب المشروع المذكور نحو 3 آلاف مليار ليرة، واحتساب الضريبة على فوائد شهادات الإيداع وودائع المصارف في مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بسعر صرف المنصة. ولا بدّ أيضاً من التحسّب استباقيّاً للمتطلّبات الماليّة الناتجة من توسيع برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً، بزيادة واردات الخزينة لاستيعاب هذا البرنامج من جهة، والبحث من جهة أخرى عن تغطية له بالعملات الأجنبية، سواء من المساعدات الخارجية، أو عبر ما يمكن تسميته بـ«التمويل السلبي» الذي يعني خفض الإنفاق الكلّي بالعملات الصعبة في مجالات محدّدة.

«كونترول» شبه شامل
هنا نصل إلى نقطة مركزيّة في النقاش بشأن ضبط سوق الصرف والتحكم بعوامل العرض والطلب فيها، والتي تتمثل في الرقابة المباشرة والصارمة على حركة التجارة الخارجية وحسابات العالم الخارجي، وهذا ما لا يمكن تركه للآليات التقليدية والعادية في ظل الفوضى الانتقالية الراهنة. ففي الوقت الذي لم نعُد قادرين فيه على استقطاب الأموال من الخارج بالقيم المطلوبة، يمكن حصر إنفاق ما تبقى لدينا من احتياطيات نقدية على السلع الضرورية والحيوية أو التي لا بدائل محلية لها.
ولهذه الغاية يجب العمل على خفض عجز الحساب الجاري إلى أدنى حدٍّ ممكن (وتصفيره إن أمكن) عبر إجراءات فورية ومباشرة منها (على سبيل التمرين): خفض نفقات السفر والسياحة التي يقوم بها اللبنانيون في الخارج، والحدّ من تحويلات العمال غير اللبنانيين المقدّرة بـ1350 مليون دولار حتى شهر حزيران من السنة الفائتة، وخفض استيراد السلع التي يمكن الاستغناء عنها بقيمة لا تقلّ عن مليار دولار سنوياً. وبذلك يكون مجموع الخفض في فاتورة استيراد السلع والخدمات من خلال الإجراءات وغيرها كافياً لردم فجوة الحساب الجاري.
بيد أنّ الإجراءات المطروحة أعلاه ليست سوى محاولة انتقالية لتنظيم الفراغ والحدّ من مخاطره وتخفيف أعبائه، كما أنها ذات صلاحية زمنية محددة، وقد لا تصمد أمام احتمالات الانهيار الذي بدأنا نشهد على ما يبدو موجته الثاني، إذ لا حلّ حقيقيّاً من دون إجراءات جديّة وسريعة للإنقاذ، تقوم بها سلطة أُعيد تكوينها أو إصلاحها أو تفعيلها، أو حتى من خلال ما تيسّر من مؤسّسات ما زالت قادرة على السير ولو على قدم واحدة.

* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام