وفقاً للقانون الدولي، فإن القوّة المحتلّة مسؤولة عن حفظ الأمن الاقتصادي والاجتماعي في فلسطين، لكن الكيان المحتلّ ضرب هذه المسؤوليات بعرض الحائط مع صمت مطبق مما يُسمّى «المجتمع الدولي» وحتى «المجتمع العربي». وما حصل بعد اتفاقات أوسلو المشؤومة هو إلقاء المسؤولية على السلطة الفلسطينية من دون تمكينها من تحقيق الحدّ الأدنى من الرفاهية للمواطنين الفلسطينيين. فالكيان الصهيوني يستفيد من الاحتلال من دون تحمّل أي مسؤولية، لأن السلطة الفلسطينية تتحمّل هذه المسؤولية من دون أي مقابل! بمعنى آخر، إن الاقتصاد الفلسطيني هو مرتع للاقتصاد الصهيوني والمساعدات التي تأتي للسلطة تسهم، في نهاية المطاف، بالاقتصاد الصهيوني.المهم هنا هو الإشارة إلى بعض النقاط الأساسية التي يتّسم بها الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال. ليست هذه مراجعة لمكوّنات الاقتصاد، بل محاولة لإبراز بعض نقاط الضعف التي تجعل الاقتصاد الفلسطيني تابعاً بشكل شبه مطلق للقرار الصهيوني، أو بالأحرى للمزاج المتقلّب للمحتل الصهيوني والدول التي تدعمه. فمند 1994 حرص الكيان المحتل على السيطرة على الموارد الاقتصادية والمالية للسلطة الفلسطينية لتجريدها من أي مقوّمات للاستقلال الاقتصادي وبالتالي السياسي، وذلك بموافقة الولايات المتحدة ودول الغرب بشكل عام. لذا، تخضع التدفّقات الخارجية للسيطرة المطلقة للكيان. وتعود هذه السيطرة، إلى ما قامت به سلطات الاحتلال منذ 1967 ثم للأسف تكرّس الأمر في اتفاقيات أوسلو المشؤومة.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

من سمات التبعية للاقتصاد الصهيوني، التجارة الخارجية الفلسطينية. 80% من الاستيراد الفلسطيني يأتي من دولة الكيان المحتل. كما أن القطاع الخارجي خاضع لرقابة وسيطرة الكيان خصوصاً بعض ضرب مرفأ غزّة ومطارها، والتحكّم بمرور البضائع الفلسطينية عبر جسر النبي مع الأردن.
من جهة أخرى ليست هناك عملة فلسطينية. فالتعامل يحصل إما بالشيكل الصهيوني وإما بالدينار الأردني وإما بالدولار. فلا قدرة ولا سلطة نقدية فلسطينية، ما يحول دون امتلاك السلطة الفلسطينية القدرة على رسم سياسات نقدية تسهم في تمويل التنمية. فهي بحاجة إلى عملة الآخرين لتشغيل الإدارة والنفقات الضرورية، لكن لا مجال للتنمية. أضف إلى ذلك أن مجمل القطاع المصرفي الفلسطيني المؤلّف من 14 مصرفاً و370 فرعاً يخضع لعملية سرقة موصوفة من قبل سلطات الاحتلال. إذ يحق لأيّ جندي صهيوني أن يدخل أيّ مصرف فلسطيني ويصادر الأموال العائدة لحساب معيّن. كما أن سلطات الاحتلال تُصدر بشكل روتيني قوائم تمنع المصارف من التعامل مع عدد من الفلسطينيين التي تضعهم على قائمة سوداء. ويمكن الاسترسال بقائمة الإجراءات التي تقوم بها سلطات الاحتلال المتعارضة مع القانون، بموافقة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذين يدعمون الكيان بشكل شبه مطلق.
من جملة القرارات التعسّفية، قرار محاصرة قطاع غزّة الذي يأتي بعكس منطق التطبيع بل بعكس منطق التجويع والإبادة البطيئة. فسلطات الاحتلال عمدت إلى ربط الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد الكيان، ولا سيما في ما يتعلّق بالقطاع الزراعي، لجعل الفلّاح الفلسطيني يترك أرضه فتستولي عليها. والأسوأ من كل ذلك، أن منتوجات المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية تسوّق في الخارج كأنها منتجات فلسطينية. أضف إلى ذلك، أن سلطات الاحتلال عمدت إلى مصادرة الموارد المائية.
أما سياسة استعمال اليد العاملة الفلسطينية الرخيصة والعالية الإنتاجية في السوق الصهيوني، فهي لصرف الأنظار عن تطوير البنى التحتية والتشجيع على إنشاء مصانع ومصادر للتوظيف في فلسطين. لجنة صادان الصهيونية وجدت أن السياسة الصهيونية جعلت الاقتصاد الفلسطيني رهينة المصادر الخارجية للدخل. والمداخيل الفلسطينية الناتجة عن استخدام اليد العاملة الفلسطينية داخل الخط الأخضر ساهمت بنسبة 27% وفقاً لتقرير على موقع «السفير/ فلسطين». والسلطة الفلسطينية تنظر بإيجابية لهذا الأمر، باعتبار أنه يخفّف من مستوى البطالة الذي يتراوح بين 27% و30% لفترة 2020-2021 وفقاً لمختلف الإحصاءات المحافظة التي اطلعنا عليها، علماً بأنه يحتمل أن يكون معدّل البطالة أكثر من ذلك.
جاءت اتفاقات أوسلو لتحدّد العلاقات الاقتصادية والتي كرّستها بروتوكولات باريس. وقد عمدت السلطة الفلسطينية ضمن أحكام هذه البروتوكولات، إلى تطوير المصادر الخارجية للدخل لتجاوز عدم إمكانات التطوير الداخلي، وخصوصاً لجهة التدفقات الناتجة عن اليد العاملة الفلسطينية في المهجر، والمساعدات المالية الصادرة عن المانحين. لكن كل ذلك كان يخضع لسيطرة حكومة الاحتلال. فقد تلقّت السلطة بين 1994 و2018 ما يوازي 38 مليار دولار من مساعدات. وقد شكّلت هذه المساعدات 48% من موازنة السلطة، بينما كان إنفاق السلطة يمثّل 30% من إجمالي المساعدات. هذه المساعدات شكّلت ما يوازي تقريباً، ربع الناتج الداخلي، بينما شكّلت التحويلات الفلسطينية ما يوازي 15% من الناتج الداخلي وفقاً لتقرير أعدّه معهد الشرق الأوسط الأميركي في كانون الأول 2020. هذا يعني، أن قدرة السلطة الفلسطينية على مواجهة قرارات الاحتلال وقرارات الولايات المتحدة المؤيّدة للاحتلال شبه معدومة. وهذه المساعدات ساهمت في تكوين طبقة مستفيدة منها ومتمسّكة بها، وبالتالي لا تعتبر نفسها معنيّة بمقاومة الاحتلال كما يجب وإلّا خسرت هذه المساعدات. التهديد بإيقاف المساعدات والتدفقات المالية يمنع السلطة من «التمرّد» أو ممارسة الحدّ الأدنى من السيادة. والمحاولات الأخيرة لإيجاد مصادر داخلية تخفّف من التقلّبات في التدفقات الخارجية تجلّت في زيادة الضرائب على الفلسطينيين ما زاد في مستوى الفقر. فمن جهة لا تستطيع السلطة الاتكال على المساعدات الخارجية ومن جهة أخرى، هي غير قادرة على توفير مصادر داخلية لمواردها المالية.
لذا، يصبح السؤال: ما هي جدوى السلطة إن لم تكن قادرة على ممارسة الحد الأدنى من الاستقلالية في القرار ولا تريد في نفس الوقت تبنّي خيار مقاومة الاحتلال؟
واتّسمت المساعدات المالية الخارجية بارتباطها بالسياسة ومتطلباتها، ما أدّى إلى عدم استقرارها وتذبذبها على صعيد الحجم وعلى صعيد معدّلات نموها. كما إنها لم تحقّق أهدافاً تنموية استراتيجية، ولم تصل أيضاً إلى مرحلة التنمية المستدامة. معظم المساعدات كان لها طابع إغاثيّ ولدعم عجز الموازنة. ووفقاً لدراسة صادرة عن منظمة تحرير فلسطين أعدّها الباحث مازن العجلة فإنه «بنتيجة السيطرة شبه التامة للواردات والمنتجات الإسرائيلية على السوق الفلسطينية، تسهم المساعدات، في المحصّلة النهائية، بدفع مستويات الطلب الكلّي في الاقتصاد الكلّي الإسرائيلي، مقابل تعميق اختلالات الاقتصاد الفلسطيني». غير أن هذه المساعدات تراجعت بنسبة ملحوظة سنة 2020 سواء كان مصدرها بعض الدول الأوروبية أو بعد الدول العربية. فالمساعدات العربية تراجعت بنسبة 76% عما كانت عليه في السنوات السابقة بينما مساعدات مجمل المانحين تراجعت خلال السنوات الست الماضية بنسبة 67%. والمساعدات التي كانت تدعم الاقتصاد الفلسطيني تراجعت من 20% عام 2014 إلى 15% عام 2018. وأسوأ من كل ذلك هو أن قسماً كبيراً من هذه المساعدات تسرّبت للاقتصاد الصهيوني بحسب الدراسة المذكورة.
منذ 1994 حرص الكيان المحتل على السيطرة على الموارد الاقتصادية والمالية للسلطة الفلسطينية لتجريدها من أي مقوّمات للاستقلال الاقتصادي وبالتالي السياسي


من معالم الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال، تكاثر المنظمات غير الحكومية التي تعمل إما بتمويل ذاتي على حدّ زعمها أو بتمويل خارجي. نتيجة تكاثر هذه المنظمات، صبّت في تهجين الاقتصاد الفلسطيني مقابل تمويل خارجي، بحسب دراسة أعدّها مركز «بديل» المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين. كذلك، هناك خلط بين منظمات المجتمع المدني، والمجتمع الأهلي، والمنظمات الدولية غير الحكومية التي تعمل في فلسطين المحتلة، في غياب تشريعات تنظّم أعمال هذه المؤسسات، ما يخلق حالة من الفوضى. أيضاً، ليس هناك دراسة مفصّلة لعدد الهيئات العاملة تحت تلك المظلّة؛ بعض التقديرات تحدّد عدد هذه المؤسسات بنحو 3600، وتوفّر فرص عمل لأكثر من 40 ألف مواطن، وفقاً لدراسة أعدها موقع «بوّابة فلسطين» الإلكتروني في عام 2016. ليست مهمة هذه المقاربة تشريح واقع المنظمات غير الحكومية، بل لنشير إلى أنها ساهمت في خلق طبقة من العاملين المثقفين الذين يرتزقون من التمويل التي تحظى به المؤسسات. وبالتالي هناك طبقة لا تعتبر نفسها معنيّة بمواجهة الاحتلال بل الاستمرار من الاستفادة من ذلك التمويل.
في خلاصة الأمر، إن الاقتصاد الفلسطيني هو اقتصاد تحت الاحتلال. لذا، إن مقاربته لكشف تأثير اتفاقية أوسلو من الناحية الاقتصادية تصبح غير ذات معنى. كذلك، فإن عدم إقبال السلطة على اتخاذ خيارات وسياسات وإجراءات تحدّ من التبعيّة للاحتلال، علماً بأنه يصعب إن لم يكن يستحيل استمرار السلطة في الاعتماد على المساعدات الخارجية بدلاً من اعتبارات التضامن كما ورد في دراسة مازن العجلة.
ما يمكن أن يفسّر هذا التقصير هو عدم وجود أي دعم عربي يذكر لا على صعيد الدول ولا على صعيد المنظمات الشعبية. كما أن المؤسّسات الدولية لا ترى أيّ مبرر لتمكين استقلالية القرار الاقتصادي الفلسطيني طالما المساعدات التي تمنحها تشكل وسيلة ضغط على سياسة السلطة. ويتكرّر هنا السؤال: ما هي جدوى وجود سلطة فلسطينية لا صلاحيات لها وكل المسؤولية عليها بينما الكيان يتمتّع بكل الصلاحيات دون أي مسؤولية؟

** باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

* هذا المقال هو واحد من حلقات عديدة مقتطفة من الورقة التي أعدّها الباحث والكاتب الاقتصادي والسياسي، زياد حافظ بعنوان: «البعد الاقتصادي للتطبيع: الواقع والمواجهة}، والتي قدّمها في منتدى «متحدون ضد التطبيع} في 21 شباط 2021. يقول حافظ إن مهمة الورقة ليست تعداد المكتسبات التي حققها الكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات السلام والتطبيع غير الرسمي الذي تعمّم في التسعينيات، بل التركيز على فكرة أساسية أن هذه الاتفاقيات لم تؤدّ إلى تحسين المشهد الاقتصادي للدول التي أقدمت على تلك الخطوة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام