منذ صيف عام 2019، تحوّلت العلاقة بين المصارف وزبائنها إلى علاقة تجاذب بين طرفين؛ أحدهما في موقع ضعف (وهو الزبون) والآخر في موقع قوّة (وهو المصرف). وازداد تعقيد هذه العلاقة بعد تفجّر الأزمة في تشرين الثاني من السنة نفسها حين أغلقت المصارف أبوابها واحتجزت أموال المودعين قبل أن تعمد إلى تقنين سحوباتهم بغطاء من تعاميم مصرف لبنان، ثم توقّفت عن تلبية احتياجات الزبائن. هكذا وصلنا إلى شباط 2021. العلاقة ما زالت على حالها من دون تدخّل حقيقي من الدولة ينظّمها لتكون متوازنة - هذا أضعف الإيمان - بين الطرفين. فإذاً لماذا لا تزال علاقة المصارف بزبائنها تشوبها إشكاليات بعد مضي كل هذا الوقت، علماً أنه في كل البلدان التي شهدت أزمات مشابهة، كان تنظيم العلاقة بين المصارف وزبائنها من أول الخطوات التي طُبّقت؟
«لا إفلاس بعد»
في خضمّ هذه العلاقة المتأزمة، تردّد على ألسنة معلّقين كثر أن المصارف اللبنانية مفلسة. في هذا التوصيف قدر من عدم الدقة. ففي الحقيقة المصارف اللبنانية متعسّرة مالياً (Insolvent). والتعسّر المالي هو توصيف الوضع المالي للأشخاص أو المؤسسات، عند عدم التمكّن من إيفاء الالتزامات المالية وتسديد الديون بسبب نقص الأموال. أمّا الإفلاس (Bankruptcy) فهو توصيف للحالة القانونية للأفراد أو المؤسسات، الذين يمرّون عبر عملية قانونية لتصفية الممتلكات والأصول لسداد الديون، عند ثبوت تعسّرهم المالي.
بعد سنة ونصف من بداية الأزمة، أصبح بديهياً الحكم بأن المصارف اللبنانية متعسّرة مالياً، لا سيما أنها تحتجز الودائع بالدولار في اقتصاد مدولر بنسبة تتجاوز 70%. وواقع الأمر هو أن خطّة الإنقاذ المالي، التي وضعتها الحكومة المستقيلة، اعترفت بتعسّر المصارف عبر طرحها حلّين متزامنين لمأزقها؛ الأول عبارة عن صندوق استثماري توضع فيه عائدات مؤسّسات الدولة وتوزّع على المصارف، وهذا الحل يُعدّ Bail out. أما الثاني، فهو أن توزّع المصارف أسهماً على المودعين الذين لن تتمكّن من إعادة ودائعهم لهم، وهذا الحل يُعتبر Bail In. والحل الثاني كان سيؤدّي إلى تغيير بنية الملكيات في المصارف اللبنانية لتصبح حصص المساهمين المحليين صغيرة وسيدخل كبار المودعين كمساهمين أساسيين.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

يومها رفضت المصارف الحلّين. الأول بحجّة أنّ الصندوق الاستثماري يجب أن يضم أصول الدولة، لا الأرباح المتأتية منها؛ والثاني بسبب عدم رغبة كبار مساهميها بفقدان حجم حصصهم في ملكيّتها. وسبب رفض الحلّ الأول يمكن فهمه بسهولة. فمن الأكيد أن مساهمي المصارف ومديريها كانوا يعلمون أن العمل المصرفي تحوّل إلى مخطّط بونزي كبير واستعملوا أموال المودعين لتحقيق الأرباح منه، وهم يريدون تكثيف أرباحهم من الأزمة الحالية. حتى وإن بدا أن ما يطالبون به وقاحة. أمّا أسباب رفض الحل الثاني فتفسيرها أصعب.
ظاهرياً، وبكل المقاييس اللبنانية، خسارة ملكية مصرف أمر جلل. لكن هذا مربوط بالقبول بافتراضات بالتأكيد مرّت في أذهان كبار مساهمي المصارف اللبنانية. افتراضات تسلّم بأن الوضع السياسي الذي يؤمّن الحماية للمصارف سيستمر، وأنّ هذا الوضع سيدفع باتجاه إعادة العمل بالنموذج الذي حقّق أرباحاً تفوق الـ30 مليار دولار في العقود الثلاثة الماضية. ومن الافتراضات أيضاً، أن الطوائف اللبنانية ستستمرّ برؤية القطاع المصرفي استثماراً ناجحاً وأنّها ستستمر في القتال عنه لتحفظ حصصها فيه. ومن يظنّ أن التقاطع بين عالم الأعمال والطوائف في لبنان أمر طارئ أو هامشي، لا يقدّر حقيقة تشابك الطوائف في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية في لبنان. ويتجاهل أن هذا القطاع المصرفي هو التجلّي الأحدث زمنياً للاحتكارات التي نشأت في كنف الطوائف في فترة تشكّلها الأول بعد الانفتاح على الأسواق الأوروبية في نهايات القرن السابع عشر (راجع عدد الإثنين 8 حزيران 2020 و الإثنين 15 حزيران 2020 ). ومحاولة تحليل الوضع الحالي، عبر فصله عن هذا المسار التاريخي، لن يأتي إلا باقتراحات حلول مجتزأة ستفشل بعد مدة زمنية قصيرة.
لكن رجل الأعمال الجيد هو الذي يحتسب لتغيّر الأحوال، بالأخص في فترات التغيير والحروب. وكبار مساهمي المصارف اللبنانية رجال أعمال جيّدون، فعّالون في اقتناص اللحظة وتحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح. وهم من النوع الذي يدرك أن العواصف السياسية العاتية في العالم والمنطقة قد تطال أو تغيّر كل الافتراضات آنفة الذكر. وأنّه في حال تغيّرت الأحوال قد يواجهون مطالبات حقيقية لإعلان إفلاس المصارف، لا إعلان تعسّرها فقط. فإذاً لماذا الاحتفاظ باستثمار خاسر قد يرتّب مخاطر مواجهات قانونية مستقبلية؟

أثر الوقف
يمكن أن نجد تفسيراً لسلوك كهذا يحمل الكثير من المخاطرة، في الاقتصاد السلوكي، وخصوصاً في أحد تجليّات عنصر «تجنّب الخسارة» (Loss Aversion) في «النظرية الاحتمالية»، وهو ما يسميه ريتشادر ثالر بـ«أثر الوقف» (Endowment Effect). كان ثالر أول من طور مفهوم «أثر الوقف» في عام 1980، عبر استعمال الإطار النظري الذي أمّنه له كانيمان وتفرسكي.
و«أثر الوقف» هو ميل الأشخاص الذين يمتلكون سلعة، إلى تقديرها بقيمة أعلى من القيمة التي يقدّرها بها الأشخاص الذين لا يمتلكون السلعة. فمثلاً إذا أعطينا مجموعة أشخاص سلعة محدّدة ذات قيمة واضحة، وعرضنا عليهم فرصة بيعها أو تداولها مقابل بديل متساو، سيطالبون، بمجرد إثبات ملكيتهم للسلعة، بضعف (مثلاً) ما هم مستعدون أن يدفعوه كتعويض عن السلعة نفسها. ما سيطالبون به يدعى «الاستعداد للقبول» (Willingness to accept) وما هم مستعدون أن يدفعوه يدعى «الاستعداد للدفع» (Willingness to pay). ودراسة «أثر الوقف» هي دراسة الفرق الذي سيتشكّل بين «الاستعداد للقبول» و«الاستعداد للدفع»، وتأثيره على نموذج التقييم.
عزا ثالر «أثر الوقف» إلى عنصر «تجنّب الخسارة» فقط. لكن الأبحاث التي تلت، أضافت عناصر جديدة تسبّب هذا الأثر، مثل «التحريف الاستراتيجي» (Strategic misrepresentation) و«الأسعار المرجعية» (Reference prices) و«التملك النفسي» (Psychological ownership). كاري مورويدج وكولين غيبلن لخصتا الدراسات حول هذه العوامل في بحث بعنوان «تفسيرات أثر الوقف: مراجعة تكاملية». شرحتا أنّ عنصر «تجنب الخسارة» يتدخل في «أثر الوقف» من خلال عامل كراهية الخسارة عند البشر، إذ أن التأثير النفسي للخسارة أكبر منه للربح. فللسلع قيمة مدرَكة أعلى عند بيعها من عند شرائها. لكن هذا العامل لا يفسّر لما للسلعة قيمة أعلى عند بيعها من عند شرائها.
أما «التحريف الاستراتيجي» فهو عبارة عن العامل الناتج عن سوء فهم إجراءات التفسير والاستنباط في نموذج التقييم. فإذا اعتقد المشاركون أنهم في مفاوضات، قد يحرّفون بشكل استراتيجي تقييمهم للسلعة. توقعات المشاركين بأنهم سيمتلكون السلعة في المستقبل، يغيّر النقطة المرجعية التي يستخدمونها لتقييم السلعة. هنا يمكن أن نفترض أن هذا العامل يحضر في أذهان كبار المساهمين في المصارف اللبنانية. فالملكية المستقبلية للمصارف وتوقع عودة الأسواق المالية إلى العمل بشكل شبه طبيعي مستقبلاً، يؤثران على تقييم أصحاب المصارف لها، بما يشكل «تحريفاً استراتيجياً». ولو كان الأمر كذلك أليس أجدى بالمساهمين أن يعيدوا بعضاً من الأرباح التي أخرجوها؟
يدخلنا هذا العامل إلى عامل آخر وهو «الأسعار المرجعية». وهي عنصر مرتبط بتقييم البائع والشاري للسلعة عبر بيئة خارجية (عن البيئة التي تحوي نموذج التقييم) أو عبر قيمة مستحضرة من الذاكرة. والبائعون والشارون يبحثون تلقائياً عن أسعار مرجعية تناسب موقعهم في العملية. سيبحث الشاري عن أقل قيمة ممكنة، ويبحث البائع عن أعلى قيمة ممكنة. وإذا افترضنا أن كبار المساهمين في المصارف ينظرون إلى أسعار مرجعية من خارج النطاق اللبناني الحالي (سواء في أسواق أخرى أو من الذاكرة القريبة عن السوق اللبنانية)، فبالتأكيد القيمة التي يقدّرون بها مصارفهم أعلى بكثير من القيمة الحقيقية التي ستفترضها أي خطة للمعالجة سابقة أو قادمة.
أهم العوامل هو عامل «التملّك النفسي». هو العنصر الذي يعبّر عن الخلط بين إطارات الخسارة والمكاسب في نماذج التقييم. فالمشترون ليسوا مالكين أبديين والبائعون يمتلكون السلعة بشكل أبدي. كيف؟ ذلك لأن مجرد لمس سلعة، أو لمس صورة سلعة، أو تخيل امتلاك المرء لسلعة، يولد تقييماً أكثر إيجابية إذا كانت تلك التجربة تخلق شعوراً بالتملّك النفسي. وتزداد الملكية النفسية مع مقدار الوقت الذي يمتلك فيه المرء سلعة، ويزداد معه تقييم المرء لها. فالملكية تخلق ارتباطاً قيميّاً غير قابل للتحويل بين الذات والسلعة. تُدرَج السلعة في المفهوم الذاتي للمالك، لتصبح جزءاً من هويته ويغمرها بسمات تتعلق بمفهومه الذاتي. وهذا طبعاً يخلق فرقاً كبيراً بين تقدير صاحب السلعة لقيمتها في مقابل تقدير الشاري لقيمتها.
وإذا محّصنا في سلوك أصحاب المصارف وداعميهم (من سياسيين وممثّلين للطوائف) سنجد أن هذا العامل قابل للإسقاط على سلوكهم وتقديرهم لقيمة المصارف. ويصبح طبيعياً من منظورهم رفض التخلّي عن حصصهم وملكياتهم في المصارف مقابل شطب ودائع ضخمة أضاعوها في مخطط البونزي الكبير. نحن هنا نتحدث عمّا يُقدّر بنحو 80 مليار دولار خسائر وفق تقديرات الخطة الحكومية.
ما يقوم به مصرف لبنان والمصارف اليوم ما هو إلّا تأجيل التعامل مع المشكلة بكلفة ستتحمّلها المصارف وتتشارك مع حاكم مصرف لبنان على تحميلها للمودعين والدولة


كل العوامل المذكورة، يمكن إسقاطها على سلوك كبار المساهمين في المصارف اللبنانية، وهي تفسّر، بواسطة «أثر الوقف»، رفض المصارف المضي قدماً في تنفيذ خطّة التعافي المالي. لكن هذه الخطّة لم تعد صالحة اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة للخطة البديلة التي اقترحها تحالف أصحاب المصارف والطوائف التي تتبناهم والقوى والشخصيات السياسية التي تمثّل مصالحهم. ولأن الخسائر قد تحقّقت على أرض الواقع، وليست خسائر وهمية في دفاتر حسابات، لا يمكن أن تستمر لعبة التحايل عليها إلى الأبد. فما يقوم به مصرف لبنان والمصارف اليوم ما هو إلا تأجيل التعامل مع المشكلة. ولهذا التأجيل كلفة يجب أن تتحمّلها المصارف (بالإضافة إلى كلفة سوء الأمانة في التصرف بأموال المودعين)، بينما تعمل بالتشارك مع حاكم مصرف لبنان على تحميلها للمودعين والدولة.
في القصة الفولكلورية الدنماركية «ثياب الإمبراطور الجديدة»، يعيّن الإمبراطور خياطَين (هما بالحقيقية محتالان) لينسجا له ثوباً جديداً من خيطان مميزة. ورغم أن المحتالين يُلبسان الإمبراطور ثوباً وهمياً وهو في الحقيقة عار، إلّا أنّ الأخير وحاشيته والشعب يختارون أن يصدقوا أن الثوب رائع وأن الإمبراطور ليس عارياً، خوفاً من أن يظهروا أغبياء. وإلى أن يصرخ طفل بأن الإمبراطور عار، عندها فقط يتيقّن الجميع أنّه عار فعلاً. المصارف اللبنانية متعسّرة منذ سنة ونصف، وهي رفضت الحلول التي تؤمّن بعض الإنصاف للمودعين، ودفعت بحلول مقابلة ترفض فيها تقدير الخطة الحكومية لقيمتها. لكن كل ما يحتاجه الأمر هو حكم واحد بإفلاس مصرف واحد حتى يدرك الجميع أنّ هذه المصارف قيمتها الحقيقية أدنى مما قدّرته خطّة التعافي المالي حتى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا