ليس ثمّة ما يميّز العام المنصرم عن العام الجديد في لبنان سوى روزنامة عشوائية. فالأزمة المقيمة تراوح مكانها، وهي عمياء عن تبدّل الأيام والسنين. يمكن تشبيهها بتنين أسطوري رباعي الرؤوس: أزمة كورونا، أزمة المالية العامة، أزمة نقدية وانفجار مرفأ بيروت؛- وباء كورونا: ضرب الكرة الأرضية في مثل هذه الفترة قبل عام حتى فاق عدد الإصابات 84 مليوناً وعدد الوفيات المليونين، منهم 180 ألف إصابة في لبنان ونحو 1500 وفاة. ورغم ظهور أكثر من 34 لقاحاً حول العالم وخصوصاً في أوروبا وأميركا والصين وروسيا، فهذه اللقاحات هي للوقاية وليست للعلاج، وتستفيد منها حالياً نسبة ضئيلة من البشرية. ولا يتوقف مصاب الوباء على البشر بل بعد الوفيات والإصابات ضرب الاقتصاد فتراجع الإنتاج العالمي بنسب راوحت بين %10 و15% وعطّل التجارة والصناعة والخدمات وشلّ السياحة والسفر.
هذا الفرع من رأس التنين هو عالمي وليس وقفاً على لبنان، الذي يقاوم بإمكاناته المتواضعة أزمة لا شك في أنّها ستتواصل طيلة 2021.


- أزمة المالية العامة: كانت خطراً مبيتاً طوال سنوات وحتى منذ أيام تثبيت الليرة عام 1997 وإشاعة البحبوحة الكاذبة. فالأزمة باتت محسوسة جداً عام 2018 ثم انفجرت دفعة واحدة عندما توقفت الحكومة اللبنانية عن سداد اليوروبوند في 9 آذار 2020 عندما تدهورت ثقة المؤسسات الدولية والدول الغربية في قدرة الدولة اللبنانية على تمويل دينها وموازنتها وإدارتها. هذا الأمر ربط إعادة الثقة، وبالتالي توفير القروض، بتشكيل حكومة تنفّذ سلسلة شروط بعضها إملاءات مبطّنة لضرب الوشاح الذي يحفظ الوحدة الوطنية ويحمي لبنان، وخصوصاً بدعة «حكومة اختصاصيين» التي بدأت مع محاولة مصطفى أديب المدعومة فرنسياً وفشلت. هكذا، يستند تمويل الدولة لتسديد مستحقات الدين وتوفير مصاريف الإدارة والخدمات إلى قرض يأتي من الخارج لعله يبدأ بـ600 مليون دولار في سنته الأولى وأقل من ملياري دولار في عام 2022. لكن على الأقل يعيد فتح الشرّاقة التي تتّكل عليها الطبقة السياسية التي لطالما تعاملت مع الدولة اللبنانية كبقرة حلوب. أما محاولة تشكيل «حكومة اختصاصيين» ترضي الخارج (وهي عبارة كود تعني عزل حزب الله وحلفائه) فهي متواصلة مع الرئيس سعد الحريري الذي قد ينجح بعد أسابيع. ويلي ولادة الحكومة أشهر من التفاوض مع صندوق النقد الدولي (ومن ورائه الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) للحصول على قرض زهيد مقارنة بالتحديات والمبالغ المطلوبة فعلاً.
- أزمة نقدية: هي أزمة التدهور غير المسبوق في قيمة الليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي والتي لم يشهدها لبنان مثلها حتى في أحلك أيام أزماته في عام 1992 عندما ارتفع الدولار إلى 3000 ليرة في ظل حكومة عمر كرامي وفتح الباب لصعود رفيق الحريري وفريقه. ففي عام 1997 اجتمع رئيس الحكومة رفيق الحريري ووزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة واتفقوا على ربط العملة الوطنية بالدولار على سعر 1515 ليرة بهدف جذب الدولارات بأسعار فائدة مرتفعة في غياب الاستثمار العربي والأجنبي لمشروع الحريري إعادة إعمار وسط بيروت.
استمرّ هذا الاستقرار الزائف لليرة حتى بعد الأزمة العالمية عام 2008 وما تلاها من «هندسات» ابتدعها حاكم المصرف وأثرَت أصحاب المصارف على حساب الناس. وإذ دخل لبنان في نفق الاضطرابات في 17 تشرين الأول 2019 اعتمدت المصارف التجارية أسلوب الإقفالات والقيود على الودائع بعد سنوات على تغنّي خبراء المصارف وحيتان المال بحجم الودائع الذي بلغت نسبته %180 من حجم الاقتصاد اللبناني. وخلال أسابيع تدهورت الليرة ووصل سعر الدولار إلى 2000 ليرة في مطلع آذار 2020، ثم إلى 2500 – 3000 ليرة في آخر آذار.
وأدّى إقفال الاقتصاد لضبط انتشار الكورونا مع إقفال مطار بيروت الدولي إلى هبوط حرّ لليرة. فالدولار بدأ يسجّل قفزات هائلة ووصل إلى 4500 ليرة في مطلع حزيران، ثم اشتعلت السوق الموازية وجعلت الليرة في مهبّ الريح فوصل الدولار إلى 9900 ليرة في تموز. ورغم كل التوقعات بصعود فاحش للدولار إلى 10 آلاف و15 ألف ليرة، إلا أنه راوح في السوق الموازية عند سعر يُراوح بين 8000 ليرة و8500 ليرة في نهاية العام، فيما استقرّ السعر شبه الرسمي (سعر المنصّة) عند 3900 ليرة.
اختفى أمل عودة طبقة وسطى وتصاعدت معدلات البطالة وارتفعت وتيرة الهجرة حتى باتت الاستفتاءات تتحدث عن رغبة ثلثَي العائلات اللبنانية في السفر


هناك ثلاثة عوامل يمكن أن تحسّن سعر الصرف عام 2021 هي: تشكيل حكومة تحصل على قروض دولية توفّر السيولة، تراجع الوباء مع توزيع اللقاح وتحسن المناخ وعودة العجلة الاقتصادية، وانفراجات مع الدول العربية وخصوصاً إذا ارتأت الإدارة الأميركية الجديدة فتح ملف الاتفاق النووي مع طهران.
- انفجار مرفأ بيروت: يكاد المرء يقول «تفجير» المرفأ لما لهذا العمل الشائن من آثار تخريبية وتدميرية على لبنان الذي كان يعيش صباح 4 آب 2020 أسوأ أزماته ولم يكن ينقصه كارثة جديدة. أحدَثَ الانفجار خسائر بشرية، فقتل 200 شخص وأصاب 6000 آخرين وهجّر نحو 300 ألف من سكان الأحياء المجاورة. كما أنّ الخسائر المادية في أهم منطقة عقارية في كل لبنان كانت غير مسبوقة حتى بمقاييس حرب 1975. بعض التقديرات أشارت إلى أن كلفة الخسائر المادية تصل إلى 10 مليارات دولار. وصودف أنّ تدمير المرفأ كان عاملاً تسهيلياً لإعلان التطبيع بين دول عربية وإسرائيل وسط كلام كثير عن استبدال بيروت بمرفأ حيفا في فلسطين المحتلة وربط حيفا بخط قطار تجاري ينقل البضائع والبشر عبر الضفة الغربية والأردن مروراً بالأراضي السعودية ووصولاً إلى مدينة دبي، فخر showcase النيوليبرالية الأميركية وما تقدمه لأتباعها، مقارنة بمصاب أو مصائب بيروت لمن يرفض الانصياع.

أزمة الاقتصاد اللبناني
من حسنات الانتفاضة الشعبية أنّها عرّت اقتصاد لبنان من ردائه الهش وكشفت أنّ عماده هو الريعية البغيضة بإشراف حيتان المال المتضامنين في السياسة والاقتصاد والأمن والقضاء. كذلك كشفت عن تحالف شيطاني من رجال الدين والزعماء وأصحاب المصارف. وتبيّن أنّ النظام الاقتصادي القائم لا يملك أي مناعة أمام الأزمات المذكورة أعلاه. إذ سرعان ما تهاوى صرحه وهبط الناتج القومي من نحو 55 مليار دولار إلى 18 مليار دولار عام 2020، وربما إذا تواصلت الأزمات إلى ما بين 12و15 مليار دولار في عام 2021.
كذلك ارتفعت نسبة الفقر في المجتمع اللبناني من 20% عام 2018 إلى نسبة تُراوح بين 30% (مصادر دولية) و50% (وفق مؤسسة أسكوا وغيرها) في مطلع 2021. واختفى تماماً أمل عودة طبقة وسطى حمت اقتصاد لبنان في الماضي. وتصاعدت معدلات البطالة جراء الإقفالات وتدهور نشاط القطاعات ففقد 250 ألف عامل وظائفهم منهم 120 ألفاً في السياحة وقطاعاتها المتحالفة. وارتفعت وتيرة الهجرة لكل من استطاع إليها سبيلاً مقارنة بالتسعينيات حتى باتت الاستفتاءات تتحدث عن رغبة ثلثَي العائلات اللبنانية في السفر.
لكن من حسنات تصدّع النظام الاقتصادي، تراجع فاتورة الاستيراد الباهظة التي كانت العبء الأول في الحاجة إلى الدولارات، والعودة إلى الأرض والزراعة المحلية ونمو التصنيع الوطني رغم الشوائب، والتوكيد على عدم الحاجة إلى قطاع مصرفي ضخم لم يلبِّ يوماً حاجة القطاعات المنتجة لمصلحة اقتصاد عصري.
أخيراً، إنّ الكلام الباذخ والسطحي عن اقتصاد ليبرالي حرّ كشف عن اقتصاد لبناني متوحّش لا علاقة له بحقوق الإنسان والبرامج الاجتماعية، وهي سمات الاقتصاد الحديث في معظم دول أوروبا.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا