يوم الإثنين الماضي نشرت وزارة الاقتصاد والتجارة ورقة بعنوان: «تصوّر وزارة الاقتصاد والتجارة لاستبدال برنامج الدعم بالعملات الأجنبية الحالي ببرنامج تعويضات نقدية بتغطية واسعة للمواطنين اللبنانيين». الورقة التي أعدّها وزير الاقتصاد راوول نعمة وفريقه تأتي بعد مجموعة اجتماعات عُقدت مع الجهات المعنية مثل مصرف لبنان والوزارات الأخرى المعنية (صناعة، طاقة، مالية)، لكنها تعكس حالة العجز التي تعيشها قوى السلطة وفشلها في حلّ الأزمة بعد فشل سابق يتعلق بالاتفاق على توزيع الخسائر واللجوء إلى صندوق النقد الدولي والجهات الدولية المانحة الأخرى للحصول على الدولارات التي تُنعش النظام الاقتصادي.انتقال هذه القوى من فشل إلى آخر، ليس حالة مستجدّة، لكنّه في الواقع يعكس رهاناتها على إعادة إحياء النموذج الاقتصادي الذي كان قائماً على استقطاب الدولارات من الخارج وتحويلها إلى موجودات محلية يتم توزيعها عبر قناتين أساسيتين: قناة التوزيع السياسي، وقناة التوزيع المالي - التجاري. مشكلتها أنها تعيش أسيرة لهذا الدور ولا يمكنها التخلّي عنه حتى في عز الإفلاس. ففي ظل البحبوحة كان يمكن أن تمارس هذه القوى الدور الذي رسمته لنفسها ولاستمراريتها، إنما اليوم هي تتناتش ما تبقّى من الأموال وتختلف في ما بينها على قنوات التوزيع. فالدعم القائم اليوم بدولارات مصرف لبنان، يمرّ عبر قناة الوزارات حيث يجري تحويله إلى الشركات المستفيدة، ومنه إلى المستهلك. بمعنى آخر، إن قناة التوزيع السياسي لا تزال فاعلة وفي أفضل حالاتها، لكنها تعاني من نقص في الموارد يدفعها أو يفرض عليها التفكير في تعديل تحالفاتها الفعلية من العلاقة مع التجّار المستفيدين بشكل أساسي من الدعم، إلى المستهلكين الناخبين. ويفرض عليها هذا الواقع أيضاً أن تقوم بعملية تقليص لحجم التوزيعات تحت عناوين عدالة دعم المستفيدين منه. بهذا المعنى تصبح رغبة الأطراف في التعديل واضحة، ويصبح الاهتمام بالفقراء أوضح أكثر. فالنسبة الكبرى من المقيمين في لبنان أصبحت فقيرة أو على حافة الفقر (حتى الآن هناك تقديرات تشير إلى أن 43% من المقيمين باتوا فقراء، لكنّ هناك نسبة كبيرة تشير إلى أنّ من هم على حافة الفقر عدد لا يستهان به)، وبالتالي فإن استهداف الفئات الأوسع هو الهدف الأصحّ بالنظام لقنوات التوزيع السياسي.
لذا، فإن العقل الجماعي للقيّمين على قنوات التوزيع لم يتغيّر ولم يتأثر بالأزمة إطلاقاً. بل يبدو أنه أصبح متشدّداً ومتصلباً في مواجهة فشله في إدارة الأزمة والتعامل معها. وفي هذا الإطار يمكن تفسير التبرير الذي يقدّمه نعمة في سياق عرض مشروع استبدال دعم السلع الاستهلاكية بالدعم النقدي للأسر المستهدفة. هو يقول إن 24% من الخمس الأفقر يمتلكون سيارات مقابل امتلاك 80% من الخمس الأغنى للسيارات في لبنان. تضييع الأرقام بهذه المعادلات قد يكون مقصوداً، فهو يشير إلى أن 16% من الأكثر ثراء يملكون سيارات مقابل 5% من الأكثر فقراً، أما الذين هم ما بين النسبتين فليسوا موجودين في هذه الحسبة، لكنه رغم ذلك يشير إلى أن الدعم الاستهدافي سيستثني ما بين 20% و30% من الأكثر ثراء، وأن التغطية ستشمل ما بين 70% و80% من الأكثر فقراً، وبالتالي فإنه فور إجراء هذا التعديل سينخفض عدد الذين سيتلقون الدعم من 6 ملايين شخص إلى 3 ملايين شخص.
لكن على أيّ دعم سيحصل هؤلاء؟ وفق ورقة وزير الاقتصاد، سيتم استبدال الدعم ببرنامج تعويض نقدي مباشر للبنانيين المسجّلين بقيمة 50 دولاراً شهرياً لكل البالغين المسجلين (فوق 23 عاماً) و40 دولاراً شهرياً في السنتين الثانية والثالثة، و30 دولاراً في السنتين الرابعة والخامسة مع نصف هذا المبلغ للأطفال. كذلك تشير الورقة إلى بقاء دعم الكهرباء الضروري للشركات والمواطنين حتى يتم تنفيذ برنامج إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان وتسعيرتها، وسيستمر العمل بدعم الأدوية والمستلزمات الطبية إلى أن يتم الإصلاح الكامل للقطاع الطبي، لأن أي برنامج جيّد طويل الأجل يتطلب إصلاحاً كاملاً للقطاع الطبي على أن تُجرى في غضون ذلك مراجعة الدعم وترشيده وتكييفه مع المستوى الدولي (دعم 100% من المواد الخام، صناعة الأدوية المحلية، وقف دعم المنتجات المماثلة لتلك المصنّعة في لبنان، دعم سعر البديل الأرخص...).
إذاً، سيبقى دعم شراء الفيول أويل والمازوت لزوم كهرباء لبنان بدولارات مصرف لبنان، وسيبقى جزء من هذه الدولارات يموّل استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية والتوزيعات النقدية الشهرية التي ستحلّ محل دعم السلّة الغذائية والقمح. كل ذلك بهدف توفير 2.1 مليار دولار في السنة الأولى وصولاً إلى 13.7 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة، علماً بأن السلطة تراهن أيضاً على الحصول على تمويل بالقروض الدولية وتراهن أيضاً على بقاء سياسة الدعم لنحو خمس سنوات، وهي كذلك تراهن على أن الأمر يمكن أن يستمر لهذه الفترة بتمويل من دولارات مصرف لبنان، وبقروض من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وألمانيا... كل ما تأمله هو تقنين عمليات التوزيع على قياس طموحاتها وتمديد قدراتها لسنوات إضافية، وتمديد آجال الفقر ومعدلاته المستجدّة لسنوات أطول. ليس هناك نقاش في كيفية إخراج الناس من الفقر عبر البحث عن طرق تجاوز الأزمة والخيارات الإستراتيجية المتاحة لإنقاذ الإقتصاد بما يؤمن وضع معدلات الفقر على مسار إنحداري بل ما يحصل اليوم يركز النقاش في صرف ما تبقى من الأموال عبر القنوات التاريخية للتوزيع السياسي وتمديد الفترة الزمنية للدعم قياساً على محدودية الأموال المتوافرة من أجل تمديد وجود الناس في مستنقع الفقر بدلاً من انتشالهم منه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا