تعديل قانون المياه لينصّ على «مكافحة التلوث في الليطاني بتغريم المخالف بغرامة (تنظيف 6 كيلومترات من مجرى النهر)»، يعدّ بمثابة أول خطوة جريئة لتطبيق هذا القانون بعد 20 عاماً على صدوره. صحيح أن التعديل على قاعدة «Le pollueur payeur» إلّا أنه لا يكفي لحماية قطاع المياه والبيئة من حالة التسيب والفلتان الحاصلة اليوم. فقد كان يفترض أن يتحرّك القضاء مع تلقي المدّعي العام البيئي في البقاع عشرات الشكاوى بحقّ مخالفين اعتدوا على نهر الليطاني وعلى روافده العليا برمي نفاياتهم الصلبة والسائلة في المجرى الطبيعي للنهر، أو عندما أطلقت بلديات 48 قرية ومدينة في البقاع الغربي مجاريها الصحية في مجرى النهر مباشر، أو في روافده الثمانية، لتتجمّع مياه الصرف الصحي بعدها، في بحيرة القرعون، ولتشكّل ربع سعتها من المياه. كارثة التلوث البيئي التي حلّت بنهر الليطاني، طاولت أيضاً بقية الأنهر والمجاري الشتوية الأخرى. فالعاصمة بيروت تشهد في بداية الشتاء فيضان نهر الغدير الذي يُغرِق بمياهه الآسنة مداخل بيروت الشرقية والجنوبية، وتلتقي مياهه مع السيول الشتوية التي تخترق مكبَّي الناعمة والكوستا برافا لتشكّلا مع مياه الغدير تياراً شتوياً جارفاً يُغرِق بيوت الفقراء في الأوزاعي قبل أن تصبّ المياه في البحر بمحاذاة مطار رفيق الحريري الدولي. كذلك «تنعَم» بيروت بمجرور آخر يحمل اسمها ويسدّ عند فيضانه، مع سقوط الأمطار الأولى، مداخل بيروت الشمالية والشرقية ليصبّ في نهاية الأمر، في عرض البحر على مقربة من مكبّ برج حمود الشهير.
في الواقع، مضى نحو 74 عاماً لتظهر هذه التطورات بشكلها الحالي. ففي عام 1926 لم يكن لدى لبنان قانون خاصّ لتنظيم إدارة المياه واستغلالها، بل كان القطاع يخضع لقانون صدر في عام 1926 ونصّ بعض مواده على أن المياه هي ملك عام لا تنطبق عليها أعراف الحقوق المكتسبة، وأنه لا يجوز حفر آبار ارتوازية في حرم الينابيع، وعلى مقربة من مصادر المياه، كما يُمنع حفر البئر إلا بموجب رخصة قانونية صادرة عن المرجع المختص... على امتداد هذه الحقبة كان قرار المياه موزعاً على 209 لجان، أو مصالح يحمل معظمها اسم النبع أو النهر (مياه نبع الطاسة، مياه الباروك، مياه عين الدلبة، مياه شمسين...).
استمرّ الأمر على هذه الحال، إلى أن صدر قانون المياه في أيار عام 2000 الذي بموجبه توزّعت لجان ومصالح المياه على أربع مؤسسات عامة. ومنذ صدور القانون إلى اليوم، طرأت تغييرات كبيرة. فقد اختفى نبع العليق - المنبع الرئيسي لنهر الليطاني الذي حمل يوماً اسم «بحر البقاع» - ولم تعُد تتفجر مياهه بعدما حُفرت في حرمه عشرات الآبار. أيضاً اختفى نبع الحمام في سهل مرجعيون عندما أقدمت مصلحة مياه جبل عامل على حفر مجموعة من الآبار في وادي الخوخ على مقربة من النبع. ولم تسلم المياه السطحية للنهر من هذه الهجمات بل اتّسمت الهجمة عليها برمي النفايات الصلبة في حرم الأنهر وفي مجاري المياه الشتوية، وبإطلاق أبواق المجارير التي تنقل مياه الصرف الصحي مباشرة إلى البحر أو إلى الأنهر. ثم حلّت الكارثة الكبرى عندما وجّهت نحوه مجارير 48 بلدة ومدينة في البقاع الغربي لتصبّ مباشرة في مجراه، ومجاري روافده، ولتستقرّ في نهاية الأمر في بحيرة القرعون التي تحوّلت إلى جورة صحية ضخمة تشكّل المياه المبتذلة فيها حالياً، نحو ربع سعتها.
الهجمة على نهر الليطاني لم تقتصر على مياه الصرف الصحي من منازل قرى البقاع الغربي في مجرى النهر وروافده، بل شملت أيضاً فضلات مخلّفات نحو 950 مؤسسة صناعية وتحويلية من بينها 105 معامل لإنتاج الألبان والأجبان، وبينها «المغرّم» ألبان لبنان الذي تعرّض للعقوبة للمرة الأولى. وشملت الهجمة أيضاً بقايا ومخلّفات معامل تحويل الإنتاج الزراعي les agro alimentaires ومخلفات المسالخ ومزارع الدواجن، وخمارات النبيذ العشر، ناهيك عما تحمله مياه الري نحو النهر بواسطة السيلان السطحي من أسمدة وكيماويات ومبيدات.
وقد استمرت هذه الهجمة المتمادية على مياه النهر وروافده حتى قُيّض لمصلحة الليطاني أخيراً من تسلّم قيادتها. إدارة جديدة وضعت في رأس أولوياتها شنّ حرب ضروس على الملوّثين من أصحاب المعامل والبلديات المستهترة، مستعملة في ردها الوسائل المتاحة كافة؛ إقامة دعاوى على المخالفين، أو اختيار نقاط ثابتة لحراسة النهر. ناهيك عن الحملات الإعلامية التي شنتها على المعتدين والمخالفين والساكتين على المجزرة التي حلّت بالنهر. وكانت باكورة هذه الحملة صدور أول حكم يعاقب أحد المخالفين.
رغم ذلك، لم تتوقّف عملية رمي النفايات الصلبة في مجرى النهر وروافده. يستدلّ على ذلك من وجود «طبقة جليدية» على سطح بحيرة القرعون مكوّنة من أكياس نيلون وأوراق أشجار وجلود ماشية ومخلفات أخرى يصعب تحديدها. هذا يعني أن مياه الصرف الصحّي ما زالت تصبّ في النهر وفي بحيرته، وما زال النهر يتلقّف أكياس القمامة التي ترميها ربّات المنازل المحاذية للنهر، وما زال أصحاب البسطات في أسواق الخضار القائمة على الضفة القريبة من النهر يطلقون ما أتلف من بضاعتهم في مجرى النهر.
تغريم ملوّثي المياه بغرامة هي بمثابة خطوة جريئة لكنّها تنتظر التطبيق ولا تُغني عن تحرّك القضاء والمدّعي العام البيئي


إن معركة حماية الأنهر اللبنانية، بشكل عام، والليطاني بشكل خاص، تحتاج إلى تضافر جميع الجهود الأمنية والإدارية والقانونية والصناعية والبيئية والبلديات وسائر المؤسسات العامة والخاصة لتمارس دورها في الرعاية والحماية، بدلاً من أن تترك الأمر في عهدة مصلحة الليطاني وحدها، على قاعدة «إذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون». فالمشكلة أن المسؤولين لا يقومون بواجباتهم، ابتداءً من شرطي المرور، مروراً بحارس المياه، وصولاً إلى المدّعي العام البيئي. فما الذي يمنع بوليس البلدية في زحلة مثلاً من أن ينظّم محضر ضبط بسائق يرمي كيس نفاياته في نهر البردوني، بينما يسارع إلى تنظيم محضر ضبط بحقه إذا ركن سيارته للحظة في مكان ممنوع الوقوف فيه؟ ولماذا يداوم حراس قناة القاسمية في مكاتب الإدارة خلال فصل الشتاء مع أن أكثر المخالفات تقع على الأقنية في هذا الفصل، فيما يسهرون ليلاً ونهاراً على حماية المياه في الأقنية الرئيسية خلال موسم الري؟ لماذا لا يتحرك النائب العام البيئي من تلقاء نفسه عندما تقع مخالفة على مشروع مائي، بدلاً من انتظار تقديم دعوى من قبل المتضرّر؟
إن تنظيم أول ضبط بحقّ المخالف سبقتنا إليه بلدان أخرى بزمن بعيد. ففي فرنسا مثلاً، يتعرّض السائح لعقوبة إذا أقدم على رمي قشرة ليمون أو عقب سيجارة في نهر السين، ولا ينفع تذرّعه بجهل القوانين الفرنسية. أحد الأقرباء رمى منذ فترة كيس نفايات في جدول قريب من منزله في مدينة رين، وعندما عثر شرطي البلدية على الكيس فرَزَ محتوياته وتبيّن له وجود إيصال كهرباء مدوّن عليه العنوان، فحرّر بحق المخالف محضر ضبط قيمته ألف يورو. أما في إيران التي زرتها أخيراً، فقد أصرّ منظّم الرحلة أن نزور بعض محطات التجارب الزراعية في أصفهان. من المحطات التي زرناها، حدائق الطيور والزهور والأسماك العائمة على بحيرات مائية اصطناعية، والمسوّرة بأشجار الدلب والكستناء والبلوط. لكن فوجئنا لدى الدخول إلى الحدائق في مطلع النهار أن سطح المياه صاف، لا تطفو عليه ورقة واحدة مع أننا في فصل الخريف. كما أن حارس الموقع أفادنا بأن فريقاً من العمال يقوم بجمع الأوراق والأغصان عن سطح البحيرة مرّة كل ساعتين على امتداد النهار. قيل لنا لاحقاً إن حماية المياه والفسح الخضراء هي ثقافة متأصلة في نفوس الإيرانيين. وقد ثبت ذلك خلال زيارة ساحة أصفهان الشهيرة التي تتوسطها حديقة واسعة من الزهور والورود، ولا يفصلها أي حاجز شوكي عن بقية الساحة التي يطوف فيها عشرات الآلاف من السائحين والمتجولين. والحالة ذاتها، تكرّرت في حديقة الزهور الفارهة القريبة من مرقد الإمام الخميني في طهران.
إن حماية المياه والبيئة بحاجة إلى تشريع عصري code rural يحمي هذه الموارد من عبث العابثين ولا يمكن الاكتفاء بتعديل مادة في قانون المياه.

* مهندس زراعي



الغرامات تنتظر التطبيق
في 16 تشرين الأول 2020، أقرّ مجلس النواب تعديلاً على قانون المياه رقم 77 يقضي بتغريم الأشخاص المعنويين الذين يؤدّون أعمالاً ونشاطات ذات طبيعة ملوّثة بما يسمى «بدل تعويض عن التلوّث»، وقضى أيضاً بتغريم المخالفين بالحبس والغرامة المالية التي تصل إلى 300 ضعف الحدّ الأدنى للأجور (حالياً يبلغ الحدّ الأدنى للأجور 675 ألف ليرة، أي أن الحدّ الأقصى للغرامات يصل إلى 202.5 مليون ليرة)، وإمكان وقف نشاطات المخالفين أيضاً. هذه المخالفات هي باختصار على الشكل الآتي:
- سحب المياه بلا ترخيص.
- استثمار أو إقامة منشآت أو ممارسة أشغال أو نشاطات خارج الترخيص.
- إلقاء أو تسييل أو رمي أو سكب مواد أو مادة تضرّ بالمياه السطحية أو الجوفية أو مياه البحر.
- رمي أو تفريغ أو ترك نفايات مهما كانت طبيعتها في المياه السطحية أو الجوفين أو مياه البحر ضمن الحدود الإقليمية اللبنانية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا