اللبنانيون يستهلكون ذاتهم. سقف طموحاتهم لم يعُد يتجاوز البحث عن الغذاء، واستدامة العمل، والهروب من لعنة «كورونا». استهلاك الذات يتحوّل إلى معركة وجود في بلد غير منتِجٍ أصلاً ولم يكن يعتمد إلّا على تدفقات الأموال واستيراد السلع مقابل تصدير محدود لبعض أنواع الخدمات والسلع. ويصبح الأمر أسوأ بكثير عندما يُترَك المجتمع في مواجهة الاحتكارات التجارية. فالأزمة لا تدفع الأفراد والأسر حصراً إلى تبنّي سلوك البقاء على قيد الحياة، بل هي تحفّز التكتلات التجارية أيضاً نحو زيادة التركّز الاحتكاري والحفاظ على قيمة المخزون في مواجهة تقلّبات سعر الصرف. بين الطرفَين، يُفترض أن تمثّل الدولة عامل التوازن الوحيد في معركة الوجود هذه. تدخّلها يعدّ أكثر حيوية لذوي المداخيل الأدنى أو الذين يعيشون تحت خطوط الفقر، أي الشرائح الأكثر تأثّراً بالأزمة. والأمثلة عن تدخّل الدول لتصحيح الانحرافات الناتجة من الأزمات، متوافرة وحقيقية بمعزل عما إذا كانت الأزمات قابلة للتفسير أيديولوجياً، أو اعتُبرت بمثابة استثناء عن القواعد المتّبعة.



ففي أعقاب الانهيار المالي العالمي في نهاية 2008، وضعت سلطات الولايات المتحدة يدها على أكبر المصارف التجارية في أميركا بهدف تخليصها من الأصول المسمومة وإنقاذ اقتصادها من تبعاتها. وفي مواجهة تداعيات «كورونا» التي أدّت إلى قصور الإنتاج والعمل، تدخّل الكثير من الدول عبر التوسّع النقدي من أجل الحفاظ على نشاط حركة العرض والطلب. بالنسبة إلى لبنان، أصل التدخّل أهمّ من نجاح هذه التدخلات وصوابها أو فشلها. عموماً، تدخّل الدولة ينطوي على أهداف تصيب بشكل نسبيّ فئات المجتمع من أفراد عاملين أو رؤوس أموال على شكل تكتّلات تجارية وصناعية. أما في لبنان، فالمشكلة أن النصيب الأكبر من التدخّلات يميل دائماً لمصلحة التكتلات التجارية والصناعية المتحالفة مع قوى السلطة. ففي ظلّ الأزمة النقدية – المالية – الاقتصادية التي انفجرت قبل نحو سنة، امتنعت السلطة عمداً عن التدخّل لفرض قيود شرعية ونظامية وهادفة وعادلة على حركة السحب والتحويل. تركت الأمر على عاتق المصارف ومصرف لبنان، ما أدّى إلى تهريب الأموال. وامتنعت أيضاً عن فرض القيود على حركة الاستيراد والتصدير. وفي هذا الوقت، تدخّل مصرف لبنان مُمعناً في التوسّع النقدي حتى ارتفعت الكتلة النقدية المتداولة أكثر من 6474 مليار ليرة في نهاية أيلول 2019 إلى 25570 مليار ليرة في نهاية تشرين الأول 2020.
إمعان السلطة، بما تمثّل من توازنات القوّة لمصلحة التكتلات هذه، في التدخّل لمصلحة هذه التكتلات، أتاح تهريب رؤوس الأموال والسلع إلى الخارج عبر القنوات الشرعية وفي عزّ إغلاق المصارف أبوابها بعد 17 تشرين الأول 2019. لاحقاً، تبيّن أن هناك حاجة لتوسيع دعم استيراد السلع الأساسية اللازمة لاستمرار المجتمع، من المشتقات النفطية والقمح والأدوية والمستلزمات الطبية، إلى سلّة واسعة من السلع الغذائية. التكتلات التجارية بدأت تضغط في هذا الاتجاه وتمكّنت من فرض دعم استيراد عدد كبير من السلع، ما أدّى إلى زيادة التمويل المدعوم بدولارات مصرف لبنان، من 200 مليون دولار شهرياً إلى نحو 458 مليون دولار بحسب دراسة المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق.


أتى ذلك في وقت يحتاج فيه لبنان والمقيمون فيه إلى كلّ دولار من أجل معركة البقاء على قيد الحياة. وقد نتج من سلوك السلطة اللامبالي فوضى شبه منظّمة في الاستيراد والتصدير. فرغم أن استيراد الأرز مدعوم، إلّا أن السلطة وقفت متفرّجة إزاء تصدير كميات غير قليلة منه. كذلك صدّرنا قطعان الغنم، فيما ارتفعت أسعار اللحوم الطازجة أكثر من أربعة أضعاف. حتى أننا صدّرنا البنّ المحمّص وزيت السمسم… ولم تكتفِ السلطة بهذا الانزلاق في هذا المسار اللامبالي، بل كانت متفرّجة أيضاً على تصدير قسم من المنتجات التي نصّنعها محلّياً والتي نحتاج إلى استهلاكها بدلاً من استيرادها. أمّا الأصول التي استوردها لبنان سابقاً بتمويل من دولارات الودائع المحجوزة في المصارف اليوم، فقد تحوّلت إلى فرصة للحصول على الدولارات الطازجة في عزّ الإفلاس. لم تدخل هذه الدولارت إلى لبنان. فقد صدّرنا أكثر من 880 مليون دولار من سبائك الذهب واللؤلؤ والألماس.
الأزمة لا تدفع الأفراد والأسر حصراً إلى تبنّي سلوك البقاء على قيد الحياة، بل تحفّز التكتلات التجارية أيضاً نحو زيادة التركّز الاحتكاري


في عزّ عملية نزف الأصول التي يتعرّض لها لبنان، لم يُنتج البلد إلّا القليل القابل للتصدير والاستغناء عن استهلاكه محلياً. فخر الإنتاج اللبناني أصبح خردة الحديد والألمنيوم، وبعض صادرات الأدوية والفواكه والخضر المعلّبة والكتب والمياه ومستحضرات التجميل. وهذا ما يعيد إثارة مسألة أساسية تتعلق ببنية هذا النموذج الاقتصادي الذي كان قائماً على سياسات قاتلة للنشاط الاقتصادي عبر أدوات مالية فقط. كان الهدف أن يبقى النموذج قادراً على جذب رؤوس الأموال من أجل تمويل الاستيراد. بمعنى آخر، جرى تحويل المجتمع إلى آلات استهلاك هائلة تحصل على السلع بسعر مدعوم عبر ثبات الليرة مقابل الدولار. جرى تحويله إلى مجتمع كسول لا يليق به العمل ولا الإنتاج.
لذا، المطلوب اليوم، ليس فرض قيود على حركة رؤوس الأموال فقط، بل فرض قيود واضحة ومشدّدة على حركة الأصول والسلع أيضاً، خصوصاً أن هناك سلعاً تمثّل حاجة أساسية لاستمرار المجتمع ولمنع النزف في الودائع الاحتياطية التي يملكها مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. في أوقات كهذه، يُفترض أن ينطوي سلوك السلطة على مرونة كافية للتعامل مع الأزمة، لا أن تصبّ أهداف تدخّل الدولة لمصلحة التكتلات التجارية والتركّز الاحتكاري. أمّا الخروج من الأزمة فليس ممكناً من دون تدخّل أيضاً في اتجاه تحويل المجتمع الكسول إلى مجتمع منتِج. أيّ اقتصاد لأيِّ مجتمع نريد؟



«الخردة» فخر الإنتاج اللبناني
في الأشهر الثمانية الأولى من السنة الجارية صدّر لبنان خردة بقيمة 92.3 مليون دولار. الخردة التي يصدّرها لبنان هي عبارة عن خردة حديد وخردة ألمنيوم، ومجموع قيمة هاتين السلعتَين يمثّل نحو 5% من مجمل الصادرات اللبنانية.


إدمان على «اختبار الحمل»
بعض أنواع السلع المستوردة تترك انطباعاً حقيقياً عن صورة المجتمع. فالتمويل لم يكن متوافراً بكلفة مقبولة، والأراضي أيضاً كانت منفوخة الأسعار، ما أدّى عملياً إلى خفض القدرة التنافسية للصناعة، لكن ليس مفهوماً أن تبقى الصناعة اللبنانية بدائية إلى حدّ ما وتقتصر على الصناعات التحويلية من أبرزها الصناعات الغذائية. من أبرز الأمثلة، أن لبنان يستورد «كواشف حمل» بقيمة 36.8 مليون دولار. اللبنانيون مدمنون على اختبارات الحمل ولا أحد مستعدّ لتصنيع هذا المنتج.


تهريب الأرزّ
بين مطلع عام 2020 ونهاية آب من السنة نفسها، استورد لبنان 107 آلاف طن من الأرزّ بقيمة 64.4 مليون دولار، لكنه صدّر 20.6 ألف طن من الأرزّ الذي يحمل المواصفات نفسها بقيمة 13.4 مليون دولار. واردات الأرزّ باتت مدعومة اعتباراً من مطلع تموز الماضي، لكن لا يجب تبرير منع التصدير بوجود الدعم، فالمخزون الذي كان متوافراً قبل صدور قرار الدعم، لا يجب التفريط به، لأنه يمثّل سلعة غذائية أساسية للبنانيين تُستورد من الخارج ويُدفع ثمنها بالدولارات القليلة المتوافرة لدى مصرف لبنان. تصدير الأرزّ هو بمثابة تهريب للسلع تقوم بها التكتلات التجارية من أجل الحصول على دولارات طازجة يرجّح أنها أُودعت في مصارف خارجية بدلاً من تحويلها إلى لبنان.


لماذا نصدّر البن؟
السؤال سببه أن الجمارك اللبنانية لا تميّز بين البن الأخضر الذي نستورده وبين البن المحمّص الذي يصدّر إلى الخارج. بمعنى آخر، إن بعض المحامص اللبنانية تستورد البن الأخضر وتقوم بتحميصه وتعليبه ثم بيعه في السوق المحلية وتصديره إلى الخارج أيضاً. هذه العملية من أبسط أنواع الصناعات وأكثرها بدائية، وكلفتها على لبنان تبلغ 11.4 مليون دولار وهي تساوي قيمة الفرق بين الواردات والصادرات، لذا فإن السؤال الأساسي بالنسبة إلى هذه السلعة يتعلق بما إذا كانت قيمة مبيعات التصدير تدخل إلى لبنان. فالواضح أننا نستردّ نصف قيمة الواردات، لكن أين يذهب النصف الباقي؟


تصدير المنتجات «المحلية»
لبنان استورد في الأشهر الثمانية الأولى من السنة الجارية نحو 32.9 مليون دولار مقابل صادرات بقيمة 16.5 مليون دولار من منتجات الفوط الصحية والحفاضات وأصناف مماثلة. هناك مصانع محلية تنتج هذه الأنواع من السلع، ولكن لبنان لا يزال يستورد من الخارج ضعف ما يصدّره. ربما لم تعد هناك حاجة للاستيراد إذا كانت المصانع المحلية قادرة على تلبية الطلب المحلي، فإذا تبيّنت صحّة ذلك، يمكن التخفيف من العجز التجاري عبر الترويج للماركات المحلية المصنوعة.
وما ينطبق على الحفاضات والفوط والصحية وسواها، ينطبق أيضاً على مستحضرات العناية بالشعر ومستحضرات التجميل. فلبنان يستورد من هذه السلع أكثر بكثير مما يصدر. قدرته على إنتاج هذه السلع وتصديرها وبيعها في الخارج، تعني أن الإنتاج اللبناني سيزداد وستتوسع مبيعاته المحلية بالتزامن مع التغيرات التي ستطرأ على سلوك المستهلكين المحليين، أي عندما ينخفض الطلب على «الماركات» التي تستورد حالياً.


لبنان يصدّر الضأن
كان لافتاً أن لبنان يصدّر قطعان الضأن أو الغنم. فاللحوم الحيّة مثل البقر والغنم واحدة من السلع الأساسية في سلسلة الغذاء اللبناني، وبالتالي كان يُفترض الحفاظ على أكبر كمية من هذه اللحوم بهدف تأمين الغذاء للمقيمين في لبنان. لكن في ظلّ الفوضى، تبيّن أن هذه التجارة أكثر من مربحة. ففي الأشهر الثمانية الأولى من السنة الجارية، استورد لبنان 74752 رأساً من الضأن بقيمة 9.2 ملايين دولار، أي بقيمة 123 دولاراً للرأس الواحد. وفي المقابل صدّر نحو 83250 رأساً من الضأن بقيمة 21.6 مليون دولار، أي بقيمة 260 دولاراً للرأس الواحد. فمن الواضح أن هدف التصدير هو تحقيق الأرباح، إلّا أنّ هذا الأمر يفرض البحث في كلفة تربية هذه الكمّيات من المواشي، سواء أتت من الخارج أو استولدت في الداخل. ففي مقابل تمويل كلفة استيرادها، سدّد المجتمع اللبناني كلفة تربيتها بالأعلاف المستوردة أيضاً بدولارات «فريش».


تفريغ مخزون سبائك الذهب والألماس
يبلغ صافي قيمة استيراد وتصدير سبائك الذهب والألماس غير المشغول واللؤلؤ غير المصنّع، نحو 410.9 ملايين دولار خرجت من لبنان. فقد استوردنا ما قيمته 554 مليون دولار، وصدّرنا بقيمة 965 مليون دولار من المعادن والمجوهرات الثمينة بشكلها الأولي، أي غير مصنّعة أو مشغولة. وتصديرها بشكلها الأولي يشير بوضوح إلى أن الهدف يكمن في بيعها خارج لبنان والاستفادة من الدولارات في حسابات خارجية لا يرجّح أنها دخلت إلى لبنان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا