بعد الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت عصر 4 آب الماضي مخلّفاً أكثر من 200 ضحية وأضراراً جسيمة تقدّر بمئات ملايين الدولارات، عاد بقوّة موضوع «إعادة إعمار المدن بعد الحروب». هو في الأساس، لم يغِب عن لبنان، بل كان محوراً شبه دائم للنقاش من أبرز محطّاته المؤتمر الدولي في حزيران 2017 والذي نظّمه قسم التنظيم المديني في الجامعة اللبنانية بالتعاون مع جامعات ومراكز أبحاث أجنبية، بعنوان «تراث في حروب حول حوض البحر الأبيض المتوسط». في هذا المؤتمر قدّمت ورقة بحثية بعنوان «إعادة إعمار حلب القديمة. من قبل من؟ لمن؟ كيف؟ أي دروس تُستخلص من التجربة اللبنانية؟» ارتكزت إلى دراسة المخطّطات التي أُعدّت لوسط بيروت، وأبرزها مخطّط 1984 الذي أعدّته شركة «أوجيه»، و«مخطط 1977».
انقر على الصورة لتكبيرها

ثمة خلاصات غنيّة من هذا المؤتمر والمؤتمرات المماثلة (في 1997 نظّمت نقابة المهندسين في بيروت مؤتمراً دولياً بعنوان «إعادة إعمار المدن بعد الحروب» وتضمّن أوراقاً حول إعادة إعمار المدن في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ومدينتي بيروت وطرابلس في لبنان): إن نجاح هذا النوع من المشاريع يعتمد على مقاربات تكاملية تكون ثمرة توافق مجتمعيّ يضع في أولويّاته ترميم النسيج الاجتماعي وإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية التي تصدّعت. لذا، من المهمّ في سياق النقاش القائم حالياً حول إعادة إعمار الدمار الناتج عن الانفجار المشؤوم، التذكير بأنه إلى جانب «المقاربة التكاملية»، فإنّ الحفاظ على التراث هو «مسألة إرادة سياسيّة تدفع نحو تطوير سياسات عامّة ملائمة وتعاون جميع الفاعلين المعنيين لتحقيقها» (نُشر للكاتب مقال سابق عن انفجار مرفأ بيروت والتراث العمراني في 12 تشرين الأول 2020 بعنوان «هل يمكن الحفاظ على تراث بيروت؟»). والأهم أن هناك تجربة حاضرة لقياس هذه المفاهيم: إعادة إعمار وسط بيروت انطلاقاً من المخطّطات التي أُعدّت له وكانت بمثابة رهان على عودة الحياة إليه. فعلى ماذا ارتكز مخطّطا 1977 و1984؟ ما كان دور الوسط التجاري الذي دمّرته الحرب؟ لماذا تحوّل هذا المكان لاحقاً إلى فراغ مدينيّ؟ هل يُمكن استخلاص الدروس من محاولات إعادة إعماره، والرهان مجدّداً على دور له في المستقبل لإخراجه من الفراغ؟

«البلد» عشية الحرب الأهلية
بعد عقدين أو ثلاثة قد لا يبقى من يعمل من أجل «الوسط التجاري» لبيروت أو من يذكره. لقد توقّف قلب المكان عن الخفقان في منتصف السبعينيات ولم يعُد يؤدّي الدور المركزيّ الذي لعبه قبل الحرب. باختصار، كان «البلد» هو المساحة العامّة الرئيسية للبيروتيين، ومكان التسوّق والعمل والسكن والدراسة. كان النقطة المحوريّة لانطلاق ووصول آليات النقل المشترك المحلّية والمناطقية. وكانت الأحياء المحيطة مزدهرة بالنشاطات المرتبطة به. كان نموذجاً مصغّراً عن لبنان ومكان التقاء اللبنانيين. صحيح أن النموّ العمراني لبيروت أسهم في ظهور مناطق أعمال وتجارة أخرى في مطلع السبعينيات، إلّا أن وسط بيروت التجاري ظلّ حتى بداية الحرب الأهلية عام 1975 يلعب دور المكان الجامع والعصب الاقتصادي الرئيسي للبلاد. أدّى اندلاع الحرب وامتدادها بسرعة إلى وسط بيروت على مدى عقد ونصف، إلى تعطيل هذا الدور وتشتيت سكّانه ونشاطاته نهائيّاً.

مخطّط 1977
جرت المحاولة الأولى لإعادة إعمار وسط بيروت عام 1977 بعد سنتين من بداية الحرب بعد اعتقاد واسع بأنها شارفت على نهايتها. يومها لم تكن الأضرار التي أصابته، فادحة نسبيّاً. عُرف المشروع آنذاك، باسم «مخطط 1977»، وهو جاء بعد إنشاء مجلس الإنماء والإعمار ليحلّ محل وزارة التصميم ويكون الأداة التنفيذية للمشروع. ولأنّ المجلس كان في بداياته، أُوكل المشروع إلى وزارة الأشغال العامة بإشراف المديرية العامة للتنظيم المدني وبلدية بيروت. وفي موازاة ذلك، وقّعت الحكومة اللبنانية اتّفاق تعاون مع الدولة الفرنسية للاستعانة بدعم تقنيّ في مجال إعادة إعمار لبنان. أدّت هذه الاتفاقية إلى تكليف «المحترف الباريسي للتنظيم المدني» إعداد تصميم توجيهي لوسط مدينة بيروت.


وبالفعل سُلّمت الدراسة إلى الحكومة اللبنانية في حزيران 1977 وطغت عليها صفة «المحافظة». كان هدفها إصلاح ما خرّبته الحرب وإعادة أصحاب الحقوق إلى أرزاقهم. وقد استغلّ «المحترف الباريسي» هذه الفرصة لإدخال تحسينات في أماكن مختلفة من الوسط التجاري وإعطائه وجهاً جديداً. من هذه التحسينات: الكورنيش البحري، النفق تحت تلّة السراي، وخطّ المترو. بدورها سلّمت الحكومة اللبنانية الدراسة إلى بلدية بيروت بشخص المحافظ الذي أنشأ مكتباً فنّيّاً لذلك، واستعان بمكاتب دراسات خاصّة لإعداد التصميم التوجيهي النهائي. سُلّم هذا التصميم في نيسان 1978 وأتى مختلفاً بعض الشيء عن دراسة المحترف الباريسي، إذ إنه ارتدى طابعاً حديثاً عوضاً عن الطابع المحافظ الذي اتّسمت به الدراسة السابقة.
من المهمّ الإشارة إلى أن الخطّة التنفيذية لهذا المخطط كرّست دور القطاع العام في تنفيذ المشروع من خلال إسناده إلى بلدية بيروت مع دعم الإدارات العامّة المعنيّة، واختيرت المؤسّسة العامة والشركة العقارية كأدوات تنفيذية للمشروع، أمّا القطاع الخاص فأوكل إليه تنفيذ الدراسات التفصيلية في الأحياء. لكن اندلاع المعارك مجدّداً في بيروت ومناطق أخرى من لبنان، جمّد تنفيذ هذا المخطط.

مخطّط «أوجيه»
بعد انتخاب أمين الجميّل رئيساً للجمهورية في عام 1983 وعودة الهدوء إلى البلاد، كلّفت المملكة العربية السعودية رجل الأعمال اللبناني رفيق الحريري برفع الأنقاض من شوارع العاصمة وضواحيها. أوعز هذا الأخير إلى شركته «سعودي أوجيه» لتنفيذ العمل. خلال أعمال رفع الأنقاض، تمنّى الرئيس الجميّل على رفيق الحريري إدخال وسط بيروت ضمن العملية، لكن الفريق الاستشاري للحريري استطاع إقناع الرئيس الجميّل بإجراء مسح شامل للوسط التجاري وتحديث مخطّط 1977 لما لهذا المكان من بُعد تاريخي.

1170 مليون دولار

هي قيمة تخمين 1630 عقاراً في الوسط التجاري بمعدّل 1532 دولاراً للمتر المربع من الأرض التي كان سعرها يُقدر بنحو 3250 دولاراً، وبمعدّل 100 دولار للمتر المربع من البناء الذي كانت تُقدر قيمته بنحو 400 دولار المصدر: أصحاب الحقوق


للقيام بهذا العمل، وقّعت شركة أوجيه (التي أصبحت محليّاً أوجيه - لبنان) عقداً مع مجلس الإنماء والإعمار يتضمّن عدّة مهام منها تحديث مخطّط 1977. إلّا أن العمل الميداني الذي قام به الفريق الهندسي المسؤول عن المشروع بإدارة الدكتور شربل نحاس، أظهر أن هناك فرقاً واضحاً بين واقع الوسط التجاري عام 1977 وواقعه عام 1983. في عام 1977، كان الهدف منع عودة أصحاب الحقوق قبل انتهاء أعمال إعادة التأهيل. إلّا أنه بعد 1983 اعتاد اللبنانيون على العيش من دون وسط بيروت التجاري. فاستمرار الحرب وانقسام العاصمة إلى جزء شرقي، وآخر غربي، أدّى إلى ظهور أسواق تجارية في أحيائها السكنية وفي ضواحيها. وقد نتج من ذلك نقاش حول إعادة توحيد بيروت وإعادة خلق مركزية مدينية. واقتُرحت مقاربات عديدة تتناول الاقتصاد، وإعادة ترتيب الوسط وتنسيق أعمال البنى التحتية فيه.
تُوجّت الدراسات التفصيلية التي أعدتها شركة أوجيه – لبنان بتنفيذ مشروع إعادة تأهيل حيّ في الوسط، كان الهدف منه، بالإضافة إلى اختبار التقنيات والمواد، إقناع أصحاب القرار باعتماد خيار إعادة إعمار وسط بيروت المقترح. إلّا أن عودة المعارك مجدّداً في شباط 1984، أوقفت المشروع وانتقل الفريق الهندسي المكلّف بهذه المهمّة إلى باريس لإنجاز مهام أخرى: توثيق ما تمّ إنجازه، إعداد ملف تنفيذيّ للمرحلة التمهيدية، وإعداد برنامج للهيكلية الإدارية.
في هذا الإطار، دفع الواقع العقاري والقانوني المعقّد للوسط التجاري إلى التفكير بآليات إعادة توزيع الحقوق العقارية، فتم اقتراح أداتين لذلك؛ المؤسسة العامة، وصندوق لإعادة توزيع الحقوق العقارية. كان الهدف البحث في عواقب عودة أصحاب الحقوق والمستخدمين إلى الوسط بعد إنجاز المشروع. وأُخذ في الاعتبار إعادة بناء بعض العقارات بمعدّلات استثمار مختلفة، فضلاً عن تفتّت الملكية، وحقوق المستأجرين، وتغيّر القيمة العقارية بعد تطبيق معدلات الاستثمار الجديدة والمخالفات التي تمّت تسويتها سابقاً.
رفض رفيق الحريري هذه المقترحات «المعقّدة» وقرّر إنشاء شركة خاصة لإعادة إعمار وسط بيروت بعدما حُلّ الفريق الهندسي الذي أعدّ مخطط 1984، ودخل العمل السياسي عبر مشاركته في الاجتماعات الدولية المخصّصة لحلّ الأزمة اللبنانية كممثّل للمملكة العربية السعودية. ومع توقّف الحرب عام 1990 وتعيينه رئيساً للحكومة عام 1992، أعطى لنفسه الوسائل السياسية لتحقيق طموحاته فأنشأ «الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت» عام 1994، والتي عُرفت باسم شركة «سوليدير».

فراغ في المدينة
كانت الرؤية من خلال مشروع «الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت» خلق ديناميكية اقتصادية مركزية تنهض بالوسط ثم تمتدّ لاحقاً إلى جميع الأراضي اللبنانية في إطار خطّة للإنماء المتوازن. قضت خطّة النهوض بإنشاء شركة عقارية لتطوير البنى التحتية وترميم المباني التي تضرّرت وبناء أبنية جديدة، بالإضافة إلى خطة تسويقية لجذب المستثمرين العرب والأجانب. ورافق ذلك إعداد تصميم توجيهي عُدّل مرّات عدّة تحت ضغط الرأي العام اللبناني والدولي، إلّا أنه، رغم ذلك، أدّى إلى اختفاء الأسواق القديمة ومعظم الأبنية التقليدية وإبعاد أصحاب الحقوق. فالهدف الحقيقيّ من المشروع كان خلق «مركز أعمال» (Central District) لا وسط تجاري (Down Town) لسكان العاصمة ومحيطها. الحسابات والرهانات المحلّية والإقليمية والدولية في مشروع تطوير وسط بيروت لم تفلح بتحقيق الرؤية التي سبق ذكرها، بل أسهمت في تحويله إلى فراغ مديني.

الهدف الحقيقي من إنشاء «سوليدير» المشروع كان خلق «مركز أعمال» (Central District) لا وسط تجاري (Down Town) لسكان العاصمة ومحيطها ما أسهم في تحويله إلى فراغ مديني


هكذا فشلت خطّة إعادة إعمار لبنان بشكل عام ووسط بيروت بشكل خاص. فشل ناجم عن غياب السياسات العامة الواقعية والبنّاءة والمصلحة العامة عند ائتلاف رجال الأعمال وزعماء الطوائف والميليشيات، فضلاً عن رغبتهم في المحاصصة وإرساء نظام الزبائنية. فمن دون الإرادة السياسية الجامعة والصادقة والواقعية، ومن دون إشراك أصحاب الحقوق والسكان في عملية تطوير وسط بيروت، لا أمل في أيّ مشروع على المدى البعيد، وسيظل هذا الأخير فراغاً لا دور له سوى مكان للاحتجاجات.
وبعد نحو 30 سنة على إطلاق خطّة إعادة إعمار وسط بيروت وتحوّله إلى فراغ في المدينة، لا يزال الائتلاف الطائفي الحاكم هو نفسه، وحال البلد من سيّئ إلى أسوأ. يحيط بهذا الفراغ مناطق الامتداد الأولى التي أصابها التشظّي العمراني. فبعدما كانت هذه المناطق تدور في فلك وسط بيروت، أصبحت كل واحدة منها تحت تأثير عوامل مختلفة ولا تجمعها إلّا الجغرافيا.

أي مستقبل؟
إذاً، هل من سبيل لإعادة إحياء الوسط والمناطق المحيطة به في ظلّ النظام السياسي الحالي؟ هل لا تزال بيروت بحاجة إلى وسطها؟ وهل الأحياء المحيطة به هي بحاجة إليه؟
بطبيعة الحال، هناك ثلاث حقائق لا يمكن التغاضي عنها ويجب الأخذ بها في هذا الصدد؛
- الحقيقة الأولى: إن شركة سوليدير، وبعد 26 سنة على إنشائها، فشلت في مهمتها.
- الحقيقة الثانية: إن الواقع العمراني اختلف كثيراً عما كان عليه قبل الحرب وبعدها. إن مخطّطَي 1978 و1984 ومشروع «الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت» (سوليدير) لإعادة إعمار وسط بيروت انقضوا.
- الحقيقة الثالثة: إن مناطق الامتداد تفكّكت متأثرة بنتائج الحرب الأهلية الاقتصادية والاجتماعية، وبنتائج الحروب الإسرائيلية التي أدّت الى تهجير سكان من الجنوب باتجاه العاصمة وضواحيها، والمضاربات العقارية أيضاً. فأيّ رؤية جديدة يمكن اقتراحها لهذا المكان المثير للجدل؟
مجدّداً، ليكتب النجاح لأيّ رؤية مستقبلية لوسط بيروت، يجب أن تأتي وفقاً لإرادة سياسية جامعة تعمل بالتعاون مع الجهات المحلّية المختلفة على وضع خطّة متكاملة ومستدامة لها. هل من خطوط ودلائل يمكن للخطة البناء عليها؟ الأمر بحاجة إلى تفكير ودراسة معمّقة للإجابة على هذا السؤال، لكن هناك أمران يمكن العمل عليهما:
- أوّلاً، التحوّلات العفوية التي عرفتها المساحات العامة في وسط بيروت خلال الاحتجاجات الأخيرة، والتي أنتجت مشهديات متفرّقة ذكّرتنا بالأسواق الشعبية وكورنيش البحر قبل الحرب.
- ثانياً، القيام بخطوة جريئة تقضي بإعداد مخطّط تفصيلي لوسط بيروت والأحياء المحيطة به ليحلّ مكان مخطّط شركة «سوليدير»، ومكان قانون «حماية المناطق المتضررة بنتيجة الانفجار في مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها» الذي صدر أخيراً مشوباً بعيوب كثيرة. يجب أن تصبح هذه الحماية دائمة بدلاً من مؤقتة. أمّا إعادة الحياة إلى الوسط، فيجب أن تُبنى على مقاربات واقعية تأخذ في الاعتبار المصلحة العامة، وتشجّع المنتديات الفكرية، والنقاشات في المساحات العامة، وتجعل هذه الأخيرة نواة إعادة توحيد اللبنانيين. هل هذا رهان مستحيلٌ أيضاً في ظلّ الطبقة الحاكمة حالياً؟

* معمار ومخطط مدن، أستاذ في الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا