يمكن أن تؤدّي العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية دورَين في مواجهة التحدّيات الجديدة؛ الأول، هو المساهمة في تحقيق التكيّف الاجتماعي مع الثورات التكنولوجية والعلمية، وإيجاد الخلفية النظرية التي تسوّغ إجراءات قد لا تصادف قبولاً حسناً من المنتجين والمستهلكين، مثل تقييد الولوج إلى الفضاء السيبراني، ومنع العبث بالقيم بما يتناسب مع الحداثة الرقميّة وما بعدها، وإعادة تنظيم جدول الأعمال الاجتماعي بحيث تحفظ المصالح الجوهرية للمجتمع. والثاني، يتعلّق بإزالة العقبات من أمام انبثاق الثورات العلمية أو تطوّرها المطّرد كالتبعية للتمويل وتقنيات الاستهلاك، وللمؤسسات الكبرى واختلال العلاقة بين مجالات العلم، والتعريف المختزل لمعنى اقتصاد المعرفة الذي يفرض على الناس مقياساً قاصراً لحاجاتهم. ومن الخطأ التنكر أيضاً لوجود مكوّن اجتماعي في العلم. إنّ النقاش بخصوص الخلايا الجذعية مثلاً، ليس نقاشاً علمياً صرفاً، بل له علاقة بالنظرة إلى ما هو جائز وما هو ممنوع في التعامل مع الأجنّة (الإجهاض)، فإذا كانت آراؤنا الأخلاقية صارمة وعدَدنا الأجنّة كائنات حيّة من بداياتها، فهذا سيعرقل أبحاث الخلايا الجذعية، والعكس بالعكس. وبالتعبير الفقهي، كلّما كان نفخ الروح مبكّراً ومقترناً بانعقاد النطفة كان صعباً المضي قدماً في هذا النوع من الأبحاث.
وإذا أردنا تصوّر وظيفة مشتركة ورئيسية للعلوم، فإنها الضبط المتبادل الذي يمنع هيمنة علم على آخر. العلوم الإنسانية تسهم في الرقابة على اختراق العلوم التطبيقية للمجتمع، بما في ذلك استيعاب الآثار الناشئة عن فائض التكنولوجيا في حياتنا اليومية. العلوم الطبيعية تضع حدّاً للأوهام التي تغذّي تصوّراتنا الخاطئة أو المحرّفة عن الإنسان والطبيعة والبشرية والكون. أمّا العلوم الاجتماعية والاقتصادية فبإمكانها إذا أحسنّا استعمالها، أن تقلّل المفاعيل السلبية لعدم المساواة في توزيع نواتج الحداثة التقنية والعلمية والرفاه الناشئ عنها.

فجوة التكيّف الاجتماعي مع الابتكارات التقنية
تُسهم السلع الجديدة التي تولّدها الثورات التكنولوجية في إحداث تحوّلات في الأنظمة الاجتماعية بمعناها الواسع، ما يُدخل المجتمع في فجوة التكيّف. وتنشأ هذه الفجوة من اختلاف وتائر التقدّم السريعة على الصعيد التكنولوجي، والبطيئة على مستوى النظم السياسية والعوامل الاقتصادية/الاجتماعية المطلوبة لاستيعاب الفورات التقنية. والتباين أيضاً ما زال قائماً بين الاتّساع الهائل في المجال الافتراضي والنموّ الطبيعي للابتكارات والتجديدات في المجال المادي الملموس (لاحظ الفرق بين زيادة سرعة الاتصالات من جهة، والمواصلات من جهة ثانية). وستزداد فجوات التكيّف خطورة كلّما كان التوازن مختلاً بين العلوم الطبيعية من جهة، وتقدّم العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة ثانية، وكلّما كان الاختلال حاضراً أيضاً بين البحوث التطبيقية الأكثر خضوعاً لمبادئ السوق وقوانينها والبحوث النظرية الأقرب إلى تمثيل المصلحة العامة والخاضعة لقواعد الاختيار العام.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

هناك العديد من الأمثلة على التغيّرات الاجتماعية والسياسية الناتجة عن الثورات التكنولوجية. ففي السياسة حدث انزياح في فهم الديموقراطية من تمثيل الغالبية إلى بناء الإجماع، إذ يكفي أن تحتجّ أقلية بمسميات المجتمع المدني أو غيره، حتى تُقوّض نتائج عمليات ديموقراطية. وفي الاجتماع، اتّسع مفهوم الخصوصية السيبرانية ليخترق الأسرة ويهدّد بتفكيكها. وفي الاقتصاد: تغيّر معنى التبادل (النقدي) مع بروز ظاهرة المقايضة «الرقمية»، والانتقال من اقتصاد تبادل الملكية إلى اقتصاد تبادل المنفعة (اقتصاد الشبكات)... لكن الأكثر حراجة مما سبق، الفوضى الثقافية التي أوجدتها التكنولوجيا، دافعة إلى السطح المعاني الهشّة على حساب المعاني المركبّة والعميقة، ومقوّضة بذلك التراث الانتقادي الذي جسّد التعددية بأبعد معانيها. فعاد الاستقطاب حول اعتقادات أو انتماءات أولية ليسود من جديد، ولم يعُد الجدل أو الحوار (كالذي نجده في مواقع التواصل الاجتماعي) يتمتّع بالجدية والصدقيّة اللازمين لإنتاج معارف أو توافقات جديدة، فيما هو يوغل في تعبئة عالم قائم على ثنائيات صارمة.
لنوسّع دائرة الرؤية قليلاً. تفرض التكنولوجيا إيقاعها على العلوم الثلاثة، فتدفع العلوم الدقيقة إلى الأمام في تغذية راجعة، فيما تُبدي العلوم الإنسانية والاجتماعية استجابة أقلّ. المشكلة في هذه الأخيرة أنها تقدّم ردوداً ناقصة وأحياناً في اتجاه واحد، على الأسئلة التي يطرحها التقدم التكنولوجي. لننظر مثلاً إلى الطريقة التي تعالج فيها هذه العلوم أثر وسائل الاتصال والميديا على المحيط الاجتماعي للأفراد، فتضع نصب أعينها ضبط السلوك البشري تجاه الابتكارات الجديدة في هذا المجال، لكنّها لا تتعدى ذلك إلى محاولة فرض قواعد وشروط على إنتاج التكنولوجيا نفسها وتحديد ما يجب تطويره واستحداثه منها وما لا يجب. بقول آخر، تنطلق العلوم الإنسانية والاجتماعية في هذا المجال، من فرضية مفادها أننا قادرون على التحكّم بسلوك المنخرطين في عالم الاتصال، أمّا تكنولوجيا الاتصال نفسها ومنتجاتها، فيُتعامل معها بوصفها موضوعاً مستقلّاً يقع خارج متناول العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولديه قوانين ذاتية للنموّ والتطور.

انحناءات الفضاء الاجتماعي
تؤدّي الثورات التكنولوجية إلى انحناءات (بتعبير آينشتاين) في الفضاء الاجتماعي (والاقتصادي - السياسي)، فتتغير محاور الجذب وتحصل تبدّلات في خطوط القوّة واتجاهاتها، ما يبرز الحاجة، في سبيل التكيّف، إلى الانتقال من التوازن القائم إلى توازن جديد.
وبوسعنا أن نرى كيف يُحدِث التقدّم التكنولوجي تموّجات في المجتمع والمجال العام على نحو يصعب التحكم به والاستجابة له إلّا بعد مدة طويلة من الزمن. وتقود الابتكارات التكنولوجية التي تأتي على شكل موجات إلى تغيّرات عميقة في العالم، فارضة إيقاعها القوي على الصعد كافة، بما فيها العلوم الطبيعية. وهكذا نشهد تسلسلاً مخالفاً لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الأمور، حيث صار الطلب على التكنولوجيا هو قاطرة البحوث التطبيقية، وهذه بدورها توجّه الأبحاث الأساسية والنظرية، بدلاً من أن يحدث العكس. وفي حين يفترض أن يكون دور العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية ضبط الآثار الجانبية للثورات التكنولوجية، نراها تُستَتبع أكثر فأكثر لمصادر القوّة الاقتصادية والسياسية النابعة من الاقتصاد الجديد.
لا شك بأنّ للتقنيات الجديدة فضلاً في تحقيق قفزات إلى الأمام في النظرية العلمية، لكن تطوّرها يأتي على خلفية متطلّبات جيوسياسية أو اقتصادية، كالحاجات العسكرية في الحروب، وتطوّر نماذج الاستهلاك في السوق. ويمكن أن نضرب مثالاً بالتقدّم التكنولوجي أثناء الحرب العالمية الثانية، وانعكاسه على العلوم. فالجيولوجيون عكفوا على مشروعات وثيقة الصلة بالحروب البحرية، ما أحدث تطوراً هائلاً في تكنولوجيا الاستشعار البحري وتحليل قاع المحيطات. وقد ساعد هذا الأمر على حسم جدالات بشأن نظريات علميّة كانت موضع جدل كنظرية الزحزحة القارية (غريبين؛ 175؛ 2012).
ولا يقف الأمر عند تبعية العلوم للتكنولوجيا، بل تُضاف إليها التبعية للسلطات التي تخلقها التكنولوجيا ولمؤسّسات السلطة عموماً. فالمؤسّسات تتحكّم بالقسم الأكبر من البحوث. لنقارن مثلاً بين البحوث الاقتصادية التي تُنتج لمصلحة صندوق النقد الدولي، والسياسية التي تُعدّ لمصلحة وكالات الأمن القومي، وبين ما يُنتج من أبحاث لمصلحة الجامعات والمعاهد الأكاديمية بالاستقلال عن البرامج الحكومية والمشاريع التي تديرها الشركات والكارتيلات الاقتصادية العالمية.
تُعطّل تبعيّة العلوم الإنسانية والاجتماعية لعلوم التجريب والثورات التكنولوجية قدرتها على إطلاق ثورات موازية للثورات العلمية، وهو أمر لا بدّ منه للانخراط في عمليّة الضبط المتبادل بين المجالات العلمية المختلفة، ولجعل التطوّر البشري متّسماً بالحدّ الضروري من التوازن والاستقرار. وسنلاحظ هنا أن سطوة التكنولوجيا المرتبطة بالسوق أو بالهيمنة أو بالمصالح السياسية، يصعب مقاومتها مجتمعيّاً ما لم يصاحب تطوّرها، تطوّر مماثل في العلوم غير التجريبية.
ولم يكن الأمر على هذا النحو دائماً، ففي السابق كانت مراكز الأبحاث والمعامل والمختبرات في الشركات الكبرى شبيهة بتلك الموجودة في الجامعات، أي كانت تنطلق من حاجات تظنّها مهمّة للمجتمع، أما الآن فكلّ شيء يبدأ بما تفضّله السوق. ولأنّ ما تملكه الشركات الكبرى من رأس مال وخبرة يفوق ما يملكه الآخرون كالجامعات والمعاهد الأكاديمية، فسيكون بمقدورها وضع اليد على أولويات البحث بشقيه النظري والتطبيقي، وترتيبها كما يشاء القائمون عليها.
البحوث الأساسية بخلاف ذلك يصعب إخضاعها للسوق، أو ربطها بمصالح سلطوية أو مادية مباشرة، ولا يمكن للمشتغلين في هذا الحقل وضع توقّعات محدّدة لما ستُفضي إليه أعمالهم من نتائج. ففي المراحل المبكرة للعلم وُجدت مشاريع البحث النظري بسبب رغبة تساور العلماء إلى دفع حدود المعرفة إلى أقصى حدّ ممكن في الفضاءات المعرفية غير المستكشقة، وليس تلبية لنداء خارجي مصدره السوق أو السلطة، وهذا يحيلنا إلى وجه من وجوه الشبه بين ما يدور في عقل باحث وبين ما يختلج في وجدان أديب أو خيال فنان.

إصلاح السياسات
اعتاد كثير من الاقتصاديين، على الاستخفاف بسياسات الأمن الغذائي أو الطاقوي، بدعوى أن اللجوء إلى البلدان الأخرى يسيرٌ في عالم معولم. لكنهم لم يعوا أن الحدود ستستعيد مجدها في الظروف الطارئة. كانت أزمة فيروس كورونا تذكيراً قوياً بأن الوحدة السياسية والاقتصادية الأساسية لا تزال الدولة القوميّة، وهذه عادت إلى تزمّتها القديم في التمسكّ من دون هوادة بما تملكه من معدّات ومنتجات طبيّة للوقاية في مواجهة الخطر.
لقد أقمنا سلاسل إنتاج طويلة لخفض الكلفة، مفترضين دوام الانفتاح بين الدول. كان علينا تعلم دروس الأزمة المالية عام 2008، إذ لولا عمليات الإنقاذ الحكومية الضخمة، لحدث ضررٌ أشمل وأكثر إيلاماً. لقد أغرانا الإنقاذ ذو الكلفة الباهظة بتجاهل العبر التي مرت على ما يبدو مرور الكرام فوق رؤوسنا.
إنّ أيّ نظام اقتصادي نعتزم بناءه بعد هذا الوباء، يجب أن يتحلّى ببُعد النظر والمرونة في الأجل الطويل، وأن يأخذ في الاعتبار أن العولمة الاقتصادية تجاوزت كثيراً العولمة السياسية، أي إن المصالح السياسة أقلّ تشابكاً بين الدول مقارنة بالتشابك بين المصالح الاقتصادية، بل إنها قادرة على تعطيلها.
وإلى جانب ذلك، إنّ مبرر وجود الحكومات لا ينحصر في إدارة الأزمات أو معالجتها، بل يتعدّاه إلى تسليط الضوء على المخاطر المستقبلية، واتّخاذ إجراءات استباقية تجاهها. ولا يمكن الاستسلام للوضع الحالي، الذي تسيطر فيه السياسات الليبرالية على عقول متّخذي القرار، وهو ما من شأنه إضعاف الأمن الحيوي للمجتمعات، وتحريك النزاعات وشدّ مستويات الرفاه نحو الأسفل، ومنع العلوم الإنسانية والاجتماعية والدقيقة من القيام بدورها في هذا المجال. والقرينة على ذلك، هي استسهال الدول خلق سيولة نقدية جديدة بدلاً من إعادة توزيع جريئة للثروة والمداخيل، وتغذية الوهم القائل بأنّ المصارف المركزية تستطيع التصرف «برشاقة وجرأة وإبداع» في الأوقات العصيبة، وعلى نحو أفضل مما تفعله الحكومات، وإنها خطّ دفاع قوي ضدّ الأزمات الاقتصادية والمالية.

الخلاصة
أبرزت الكوارث وآخرها جائحة كورونا، أن أزمة العلوم التي هي في صلب أزماتنا الكبرى، تعبّر عنها وجوه متعدّدة من الاختلالات والفشل، وعقبات تبطئ مضيّها قدماً إلى الأمام، وهذا من شأنه أن يعرقل تدفّق الإنجازات العملية، أو ينحرف بها عن جادتها الصحيحة.
إنّ أول ما يحضرنا في تحليل أزمة العلوم هذه، اضطراب التوازن بين العلوم الثلاثة الطبيعية والإنسانية والاجتماعية/الاقتصادية، واختلاله ثانياً بين العلوم النظرية والعلوم التطبيقية التي باتت بيدها زمام المبادرة، وفشل العلوم الاجتماعية والإنسانية ثالثاً في المساعدة على تحقيق التكيّف الاجتماعي مع الموجات التكنولوجية المتواترة والتي خلّفت وراءها انحناءات في الفضاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وتلوح في أفق الأزمات رابعاً، التبعية المتزايدة في مشاريع البحث العلمي للتمويل والبيروقراطيات الحكومية والشركات الضحمة التي انتقل الولاء إليها بدلاً من المؤسسات والمعاهد الأكاديمية والجامعية الأم، ويزداد إلى جانبها خضوع أجندات البحث العلمي ومواضيعه لمتطلّبات الصراع والحروب والمشاريع العسكرية.
أما العقبات التي تعرقل النمو التكاملي للعلوم، سواء أتى ذلك على شكل ثورات أو كان تراكميّاً مطّرداً، فتُعزى غالبيتها إلى قوّة المجاميع العلمية ورسوخ النماذج الإرشادية وانغلاقها على نفسها، ما يصعّب مرور النظريات الجديدة. وغالباً ما تكون فترات الانتظار بين انعطافة علميّة وأخرى، طويلة جداً في العلوم الإنسانية والاجتماعية مقارنة بالعلوم الطبيعية.
لا يمكن الاستسلام للوضع الحالي، الذي تسيطر فيه السياسات الليبرالية على عقول متّخذي القرار، وهو ما من شأنه إضعاف الأمن الحيوي للمجتمعات، وتحريك النزاعات وشدّ مستويات الرفاه نحو الأسفل، ومنع العلوم الإنسانية والاجتماعية والدقيقة من القيام بدورها في هذا المجال. والقرينة على ذلك، هي استسهال الدول خلق سيولة نقدية جديدة بدلاً من إعادة توزيع جريئة للثروة والمداخيل، وتغذية الوهم القائل بأنّ المصارف المركزية تستطيع التصرف «برشاقة وجرأة وإبداع» في الأوقات العصيبة، وعلى نحو أفضل مما تفعله الحكومات، وإنها خطّ دفاع قوي ضدّ الأزمات الاقتصادية والمالية


وقد تُعزى العثرات المزروعة في طريق العلم إلى الاقتصاد السياسي لتمويل الأبحاث، أو إلى سوسيولوجيا العلم التي تعكسها الانقسامات غير المبرّرة في مجتمع البحث العلمي والمنافسة غير النزيهة بين باحثيه. وقد ظهر واضحاً بدلالة الجائحة وغيرها من الكوارث، أن قوانين السوق لا تصلح لحلّ مشكلة الإنتاج العلمي على المدى الطويل لانحيازها إلى تلبية الحاجات المباشرة، وضعف قدرتها على التقاط الطلب الاجتماعي الذي لا تعبّر عنه مؤشّرات السوق، مثل التعامل الاستباقي مع الكوارث.
تبدأ رحلة الخروج من الأزمة بإعطاء قيمة متساوية للعلوم وتحقيق التكامل في ما بينها، وانتزاع زمام القيادة من يد التكنولوجيا المحكومة لمجتمع الاستهلاك أو المنشئة له. وبذلك تصبح الجادة التي تسير عليها العلوم نحو المستقبل أكثر رحابة، ولديها ما يكفي من السعة لاستيعاب جميع المسارات الممكنة والضرورية. ولا نعود مضطرين، والحال هذه، إلى المفاضلة مثلاً بين تطوير تكنولوجيا الاتصالات أو زيادة جهوزيتنا لمواجهة الجوائح، أو إقامة أنظمة مبكرة لرصد الكوارث والمعالجة الاستباقية لها، كما لا نكون ملزمين مثلاً بتطوير دراسات الاقتصاد الجزئي على حساب أبحاث التنمية التي تعطّل نموها تقريباً في الربع الثالث من القرن الماضي. ولا يكون الوصول إلى عمق الأفلاك السماوية، متزامناً بالضرورة مع انهيار مفاجئ لأبحاث الحرب ضد مرض السرطان، كما حصل في سبعينات القرن الماضي.
إنّنا بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى نهضة معرفية موازية أو حتى مقابلة للثورات التكنولوجية، لكبح جماحها ولإعادة العلوم النظرية والأبحاث الأساسية إلى المنصة الرئيسيّة للمجتمعات، أو بعبارة أخرى، لا مناص من إخضاع العلوم ولا سيما التطبيقية منها، لمتطلبات التقدم الاجتماعي وللسياق التاريخي لنمو الحضارة الإنسانية، وهذا يحتاج إلى فلسفة سياسية جديدة ذات وظيفتين تحليلية في مجال التفسير والتأويل، وتأسيسية في مجال إيجاد البدائل. وهذه هي المهمة التي لا مناص منها لبناء مجتمع جديد، متوازن ومستقر، عابر للتكنولوجيا الرقمية بالخصوص، وقادر على مواجهة ما ينتظرنا من أزمات وكوارث وفوضى، بأقل الخسائر وأدنى الأثمان.

مقتطف من ورقة عمل نُشرت كاملة في مجلة الاستغراب الفصلية (العدد 20 - صيف 2020).
* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق وأستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا