لغاية نهاية عام 2018، بلغت قيمة القروض التي منحها مصرف لبنان للمصارف بالعملات الأجنبية نحو 1.5 مليار دولار. يومها لم يستحوذ الأمر على أهمية كبيرة بسبب حجم المبلغ الصغير نسبياً، ونظراً إلى حالة الإنكار التي طغت على كل تعامل القوى الفاعلة مع مؤشرات الأزمة «الآتية». لم يكن أحد يقرّ بأن هناك أزمة آتية فعلاً، بل كان هناك رهان واسع على أن المجتمع الدولي لن يترك لبنان للغرق، وأن لبنان «منيع» ضدّ الغرق. فبرغم كل التحذيرات التي صدرت عن وكالات التصنيف، وعن صندوق النقد الدولي، وعن أطراف أخرى متابعة للبنان بسبب مصالحها في السوق المالية لسندات اليوروبوندز، إلا أن هذه الأصوات صنّفت «نشازاً» يغرّد خارج سرب العبارة الشهرية التي أطلقها حاكم مصرف لبنان عشية التجديد لولاية جديدة له: «طالما أنا حاكم لمصرف لبنان، الليرة ستبقى بخير».
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

مضت الأيام واستمرّ سلامة في منصبه كحاكم، فيما هوت الليرة وارتفع سعر صرف الدولار مقابلها، خلال أقلّ من سنة، من 1507.5 ليرات وسطياً لغاية 8700 ليرة في نهاية الأسبوع الماضي (في السوق الموازية). أما مصرف لبنان، فقد زاد قروضه بالعملات الأجنبية للمصارف، من 1.5 مليار دولار في نهاية 2018، إلى 8 مليارات دولار في نهاية آذار 2020. ثمة تكهنات عن مبالغ قروض إضافية في الفترة الممتدة بين آذار وأيلول من السنة الجارية، إلا أنه لا تأكيدات بوجودها فعلاً. ولغاية نهاية آذار، كان عدد المصارف التي استحوذت على هذه القروض 15 مصرفاً، أما نسب التركّز في القروض فقد جاءت على النحو الآتي: مصرف واحد استحوذ على 34% من القروض الإجمالية، مصرفان استحوذا على 58.5% من القروض الإجمالية، أربعة مصارف نالت 88.5% من القروض الإجمالية، وستة مصارف حصلت على 97.4% من القروض.

15 %

هي نسبة الإيداع الإلزامي الذي فرضه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على ودائع المصارف بالدولار، وذلك بموجب تعميم داخلي وليس بموجب أي نصّ قانوني كما هي مفروضة على الودائع بالليرة. لذا هناك تمييز بين الودائع الإلزامية التي لا ترتبط إطلاقاً بالاحتياطات الإلزامية المفروضة بموجب القرار الأساسي 7835 بعنوان «الاحتياط الإلزامي»


القروض التي منحها مصرف لبنان للمصارف كانت بالعملات الأجنبية القابلة للتحويل إلى الخارج، وهي خاضعة لفائدة نسبتها 20%، اي أنها فائدة مرتفعة وتوحي بأن الهدف من وجودها كبح جماح المصارف للحصول على هذه الأموال. لكن في المقابل، تبيّن أن المسألة غير ذلك تماماً. فهذه الأموال التي حصلت عليها المصارف من العملات الأجنبية الحرّة، أي ما يُسمّى بـ«دولارات فريش» أو «دولارات طازجة» أو حتى «دولارات حقيقة»، سُجّلت في موازنة مصرف لبنان كموجودات (أصول) بينما الفائدة عليها كانت تسددها المصارف بما يُسمى «دولارات وهمية» أو «دولارات محلية». بمعنى آخر، فيما كانت المصارف تستفيد من الأموال الطازجة لتسديد التزامات عليها تجاه الخارج، سواء كانت هذه الالتزامات عبارة عن أموال محوّلة «مهرّبة»، أم اعتمادات مفتوحة مع مصارف المراسلة، أم تغطية مراكز تجاه استثمارات خاسرة... كانت تسدّد فائدة هذه الأموال من الدولارات المحجوزة لدى مصرف لبنان والتي سبق أن وظّفتها أو أودعتها لديه طمعاً بفائدة مرتفعة. وهذه الأموال الطازجة، بدلاً من أن يستعملها مصرف لبنان بـ«حكمة» من أجل تمويل استيراد السلع الأساسية لأطول فترة ممكنة، قرّر أن يستعملها لإنقاذ المصارف من المأزق الذي أوقعت نفسها فيه.
في نهاية 2018، كان مصرف لبنان يملك حسابات خارجية بالعملات الأجنبية بقيمة 32 مليار دولار بالتوازي مع قروض للمصارف بقيمة 1.5 مليار دولار، ولكن في نهاية 2019 بلغت قيمة المبالغ في الحسابات الخارجية 24.2 مليار دولار فيما بلغت قيمة القروض للمصارف 5.4 مليارات دولار، ثم انتهى الأمر في آذار بانخفاض في قيمة الحسابات إلى 20.4 مليار دولار مقابل قروض للمصارف بقيمة 8 مليارات دولار.

خلال 15 شهراً انتهت في آذار 2020 انخفضت قيمة الدولارات في الحسابات الخارجية بنحو 11.6 مليار دولار منها 70% ذهبت للمصارف

التدنّي في الحسابات الخارجية، خلال هذه الفترة (15 شهراً) بلغ 11.6 مليار دولار نحو 70% منها صبّ في موازنات المصارف. هذه هي أولويات سلامة، وهي لم تتبدّل خلال الأشهر التي تلت، أي بين آذار وأيلول من السنة الجارية، وإنما اختلفت الآليات والقنوات التي يستعملها، ففي هذه الفترة خلق كتلة نقدية هائلة ضخّها في السوق، فيما تذبذبت قراراته لجهة تسديد التحويلات الآتية من الخارج، بالعملة التي حُوّلت فيها (دولار أو يورو يُحتسب على سعر صرفه مقابل الدولار)، أو فرض تسديدها بالعملة المحليّة بسعر صرف حدّده هو اعتباطياً. لغاية نهاية أيلول بلغت قيمة الكتلة النقدية بالليرة 23743 مليار ليرة، أي بزيادة 13180 مليار ليرة مقارنة مع نهاية كانون الأول 2019، و17269 مليار ليرة مقارنة مع نهاية أيلول 2019. مقابل هذه الكتلة، كانت تقديرات سلامة نفسه تشير إلى أن الدولارات المتوافرة في السوق المحليّة والتي سُحب القسم الأكبر منها بهدف التخزين في المنازل، لم تكن تتجاوز الـ 5 مليارات دولار. بمعنى آخر، إن حجم الكتلة بالليرة يوازي 6 مليارات دولار على سعر صرف 3900 ليرة (المنصّة) الذي يعتقد أنه مكوّن من مجموعة حسابات تأخذ في الاعتبار الطلب الاستهلاكي على الدولار من الحجم السوقي للسلع المستوردة المدعومة وتلك غير المدعومة. ورغم أن هناك تقديرات تشير إلى أن رقم الـ5 مليارات دولار كان مبالغاً فيه، فإن اختلال التوازن بين حجم الكتلة النقدية المتداولة بالليرة وبالدولار، هو مؤشّر على ما يقوم به المصرف المركزي من إصدارات إضافية للنقود تقود لبنان نحو تضخّم هائل في الأسعار لنصل إلى القعر بعد سنوات حيث جهنّم الموعودة.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا