نحن بحاجة فورية لتصحيح سريع في الأجور يعوّض القدرة الشرائية التي تقلّصت إلى النصف منذ مطلع هذه السنة، وإلا سنشهد تطوّراً دراماتيكياً مضاعفاً للاضطرابات الاجتماعية وتزايداً في حالات السرقة والعنف وسواها، هذا ما عبّر عنه صراحة الخبير الإقتصادي كمال حمدان. هو يعتقد أن هناك استسهال في طبع النقد لتعويض جزء من هذه القدرة بمثابة «لحس المبرد» والتمهيد لـ«قنبلة كامنة» ستنفجر يوماً ما على شكل ارتفاعات أعلى في الأسعار، وتسارُع أكبر في التضخّم، وطلب على الدولار. برأيه لا يمكن تعويض القدرة الشرائية عبر سياسات نقدية توسّعية، ولا بالدعم الاستهدافي الذي يُخشى من أن يتحوّل إلى أداة لشراء الولاءات بيد المنظومة الحاكمة. القدرة الشرائية لا تعوّض إلا بسياسة للأسعار وتصحيح دوري وتعديلات في النظام الضريبي... باختصار القدرة الشرائية لا تعوَّض إلّا بمشروع بديل للحكم.
لغاية شهر آب تضخّمت الأسعار بنسبة مرتفعة لكن لم نرَ أيّ بحث بعد في مسألة تعويض القدرة الشرائية وتصحيح الأجور رغم أن إنعاش الحركة الاستهلاكية يتطلّب مثل هذا الإنعاش، وهو أمر مفيد اقتصادياً لأصحاب العمل كما يفيد العمال. في ظل هذا الوضع، ما هي القدرة الشرائية الفعلية والتضخّم الذي يجب تعويضه؟
- قبل 17 تشرين الأول 2019 كان هناك وضع مختلف عمّا بعده. فمن درس تصحيحات الأجور المتتالية في السنوات الماضية، خرج الاستنتاج الآتي: حصل تصحيح أجور مبتور في عام 2008 لإسكان الناس، ثم حصل تصحيح ثانٍ في 2012 استفاد منه أيضاً القطاعان العام والخاص بما يوازي 25% كأثر وسطي، لكنّ القطاع العام وحده استفاد من تصحيح الأجور في 2017 في إطار سلسلة الرتب والرواتب التي أدّت إلى أثر تراكمي تصحيحي يعوّض عن نسبة كبيرة من التضّخم المتراكم ما بين 1996 و2015 والمقدر يومها بما يتراوح بين 121% و135%، أي إنّ التصحيح الوسطي في القطاع العام كان يوازي 100% تقريباً، بينما الأثر التراكمي للقطاع الخاص توقّف عند التصحيحَين في 2008 و2012، أي حصل أُجراء القطاع الخاص على تعويض يوازي نصف التضخّم التراكمي في السنوات الماضية.
هذا الأمر يبقى كلّه نظرياً في ظلّ غياب المعطيات التي تسمح بالفصل بين المؤسسات الكبيرة والمتوسطة التي أعطت أُجراءها تصحيحات طوعية وذاتية من أجل الحفاظ على مواردها البشرية أو لأهداف أخرى، وبين المؤسسات الصغيرة التي يقلّ عدد عمالها عن 10 التي بالكاد قدّمت أيّ تصحيحات.


مع ذلك، أجزم، انطلاقاً من تقاطع معلومات كليّة من دراسات عدّة، بأن الأجر الوسطي الفعلي في القطاع العام أعلى من القطاع الخاص، وهذا ما عزّز شهية جمهور الطوائف عبر عصبيات الزبائنية أن يمارس ضغطاً على الطبقة السياسية لفتح باب العمل في القطاع العام بسبب التقديمات والضمانات التي يقدّمها القطاع العام.
وإذا استثنينا أجراء الدولة، فإنّ نصف أجراء القطاع الخاص غير نظاميين وليسوا مسجلين في الضمان، ولا يحصلون على بدلات نقل، وليس لديهم احتياطات للتقاعد، بل متروكون للقدر. هذا وضع يطاول عشرات آلاف العمال في القطاع الخاص بمن فيهم السوريون والفلسطينيون. تبعاً لإنتاجية العمل التي عبّرت عنها دراسات عدة، فإنها في القطاع الخاص مضاعفة مقارنة مع القطاع العام في مقابل مستوى أجور أدنى في القطاع الخاص. للأسف، استُخدم هذا الأمر كحجّة لترشيق الدولة والذهاب إلى الخصخصة وتسريح الفائض من العمالة والإصلاح الإداري، وهي حجج حقّ يُراد بها باطل، لأنّ النظام لا يخلق عدداً كافياً من الوظائف وفرص العمل للأجيال التي تدخل سنوياً إلى قطاع العمل وتُدفع نحو الزبائنية والالتجاء إلى الطوائف ومراكز القوى ومكونات السلطة للحصول على الوظيفة. هذه بنية سوق العمل في لبنان.
بعد 17 تشرين الأول الماضي والانهيار الاقتصادي، فإنّ كل المشاكل الكبيرة في قطاع العمل المأجور الخاص، تضاعفت مرات عدّة. لم يعد هذا الأمر محمولاً. فالتضخّم الشهري (معدل سنوي على فترة 12 شهراً مضت) في 2019 يشير إلى أنه في السابق كانت هناك قدرة لدى الناس على لملمة أوضاعهم، لكن ظهرت مسألة تحلل الدولة بعد كانون الأول 2019، فنشأت أسعار صرف متعدّدة وتُرك سعر السوق يأخذ مداه، ما انعكس بتسارع معدلات البطالة والتضخّم. بحسب رقم الإحصاء المركزي، فإنه في آب تضخمت الأسعار بمعدل 120%، بينما بحسب رقم مؤسسة البحوث والاستشارات تضخمت الأسعار بنسبة 94% (الفرق يمكن تفسيره بوجود تباين علميّ في أوزان المؤشّر بين المصدرَين). وبنتيجة ذلك، فإنّ الأجر الوسطي في هذه المرحلة، وبكثير من التحفّظ حول الرقم بسبب عدم وجود دراسة دقيقة بعد، أقدّر أن الأجور خسرت خلال الأشهر الـ 12 الماضية (آب 2019 ـ آب 2020) ما بين 48% و54% من قوّتها الشرائية (تبعاً لاعتماد أي مؤشر).

بأيّ درجة تقدّر الحاجة إلى تصحيح الأجور؟
- هناك حاجة لتصحيح فوريّ للأجور وخصوصاً للمؤسسات التي لم تطبّق تصحيحات طوعية وذاتية، وإلا سنشهد تزايد الاضطرابات الاجتماعية بشكل مضاعف من عنف وسرقة وسواها.

ألا يشكّل الدعم الذي يقدّمه مصرف لبنان لسحب الودائع على سعر «المنصّة» (3900 ليرة لكل دولار) نوعاً من التعويض عن تدهور القدرة الشرائية؟
- بالنسبة إلى سحب الودائع على سعر «المنصّة»، فإنّ هذا الأمر يفيد من كانت أجوره بالدولار وواظب صاحب العمل على تسديدها بالدولار المحلي. عندها يضطر الأجير إلى مفاوضة المصارف على كيفية سحب هذه الأموال. بعض المصارف تفرض سقفاً محدّداً لكل فئة من الحسابات لديها، وبعضها الآخر يفرض سقفاً موحّداً للجميع. مثل هذا الأمر خفّف من التراجع في قوة الأجر، إلا أنه لا يمكن تعميم هذه المسألة نظراً إلى كونها لا تفيد إلا جزءاً من الأجراء. لا بل إن أضرارها واسعة لجهة خلق النقد. فالاستسهال في خلق النقد يشبه «لحس المبرد» لأنه يمهّد لـ«قنبلة كامنة» ستنفجر يوماً ما على شكل ارتفاعات أعلى في الأسعار ومعدلات تضخّم أكبر، وطلب كامن على الدولار نتيجة التضخّم الكبير في حجم الكتلة النقدية بالليرة. لا يمكن تعويض القدرة الشرائية عبر سياسات توسعية نقدية. لا تعوَّض القدرة الشرائية إلا بسياسة للأسعار والأجور وتصحيح دوري وتعديلات أساسية في النظام الضريبي.

حالياً يتم تعويض بعض من تدهور القدرة الشرائية الناتج عن تضخم الأسعار، عبر دعم مصرف لبنان لشراء السلع الأساسية (على سعر 1520 لكل دولار) والغذائية (على سعر 3900 ليرة لكل دولار)، لكن يتردّد أن أسعار هذه السلع ستحرّر مقابل دعم استهدافي عبر ما يسمّى بطاقات الدعم، للتخفيف من الضغوطات على العملات الأجنبية التي يملكها مصرف لبنان والقابلة للاستعمال والتحويل إلى الخارج، فما هي نتائج خطوة كهذه؟
- حتى الآن، تبدو الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة كأنها خبط عشواء. كل إجراء له مفاعيل متناقضة مع إجراء آخر. فمن جهة طرحت فكرة توقيف الدعم عن السلع الأساسية الثلاث (محروقات، طحين، دواء ومستلزمات طبية)، لكن ثمة مفاوضات جارية من أجل تخصيص دولار للطلاب، ودولار آخر للمواد الأولية للصناعة، ودولار للسلّة الغذائية... المشكلة أن كلّ هذا الدعم يتغذّى من مصدر واحد: النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان. في تقديري، إن الالتزام بدعم السلع الثلاث الأساسية والذي يكلّف عدّة مليارات دولار، علماً بأنه لا أرقام موثوقة ودقيقة في قيمة هذا الدعم، لن يبقى على حاله. انطباعي عن هذه الإجراءات المتناقضة المفاعيل وعن نتائجها الموحّدة كونها تتموّل من دولارات محدودة، أن هناك فكرة تراود القيّمين على السياسات النقدية تهدف إلى اللجوء إلى تقليص الدعم وإعادة توجيه جزء منه بالطرق الاستهدافية. هناك شكّ بأن هذا الأمر ذو جدوى، طالما أنه ليست لدينا معطيات إحصائية دقيقة عن عدد المقيمين في لبنان (4 ملايين نسمة أو 6 ملايين نسمة) ومن هم الفقراء؟ من هم الذين يرزحون تحت خطّ الفقر؟ أو فوقه قليلاً؟ من هم المهمّشون؟ ما هي خصائص الأُسر المستهدفة؟ أخشى في ظلّ هذه الشكوك أن تصبح التحويلات العشوائية في سياسات الدعم مرتهنة أكثر فأكثر لاستمرار سيطرة المنظومة الحاكمة من أجل إعادة تجديد قدرتها على شراء الولاءات عبر تحكّمها بتوجيه هذا الدعم الجزئي والاستهدافي إلى الجماعات التي تخصّها.
في ظلّ غياب المعطيات الإحصائية الدقيقة عن السكان، يُخشى من أن يعمّق التحوّلُ نحو الدعم الاستهدافي سيطرةَ المنظومة الحاكمة، ويجدّد قدرتها على شراء الولاءات عبر التحكّم بتوجيه الدعم


بالمطلق، قبل تشرين الأول وبعده، كان هناك اعوجاج هائل في سياسات الدعم: إذا بحثنا عن دعم السكن يُثار الكثير من الأسئلة: من استفاد من قروض الـ800 ألف دولار، وهو السقف الأعلى لدعم السكن والذي رُفع بشكل اعتباطي؟ من هم هؤلاء؟ ما حصّتهم من الدعم؟ هذا النوع كان عبارة عن برنامج استهدافي لمساعدة شرائح الطبقات الوسطى وما دون، لكن فوجئنا بأنّ جزءاً كبيراً من الدعم ذهب لأولاد الذوات وسواهم. لذا، برأيي إن هناك مراهنة للانتقال من الدعم الموجّه لكل المستهلكين، إلى أشكال أخرى من الدعم بنتيجتها سيُخفّض المبلغ الإجمالي المرصود للدعم إلى النصف أو الثلث من أجل إطالة أمد المرحلة الرمادية (لحس المبرد، تدوير الزوايا، تعميم الوعود)، من دون أن تكون هناك قناعة فعلاً بوجود حلّ مستدام. كلّما طالت الخلافات على استصدار قانون للرقابة على التحويلات، وعلى تحديد برامج «الهيركات»، واستمرار التعايش مع أسعار الدولار المتعددة، وتحديد الفخت المالي في علاقة المصارف بوزارة المال، كلما ارتفعت أكلاف الخسائر وصارت أعظم.

لمن يجب أن يذهب الدعم، وما هو البديل الذي يجب أن نلجأ إليه في أوقات الأزمات كالتي نمر بها اليوم؟
حالياً، نصف السكان صاروا فقراء، وربع السكان تحت خطّ الفقر المدقع. بالأولوية يجب أن يستفيد هؤلاء من الدعم وليس غيرهم. لكن برأيي يجب أن يكون الدعم إجراءً مؤقتاً. إن استهداف فئات بعينها لتخفيف وطأة العيش عنها ممكنٌ عندما تكون بؤر هذه الفئات تمثّل 10% أو 15% من السكان، لكن عندما ترتفع إلى 50% و55 وقد تبلغ 70% مع مفاعيل رفع الدعم، فإنّ المفاضلة بين المقاربات الاستهدافية لبؤر بعينها وبين المقاربات الكلية، ترجّح بالمنطق والتحليل خيار المقاربات الكلية، أي السياسات الاجتماعية، وهذا مشروط بحكومة مستقلة من خارج المنظومة وبصلاحيات تشريعية وبنظام ضريبي تصاعدي... أي بمشروع حكم بديل. بالمطلق يجب ألّا يكون الدعم مطيّة لتسجيل انتصارات وهمية حول التضامن الاجتماعي كبديل من استراتيجية التنمية الاجتماعية التي يكون فيها موضوع كفاية الدخل والضمانات الاجتماعية المتممة من أسس النظام عبر نظام ضريبي ومؤسسات ضامنة، وتغطية صحية شاملة، ونوعية تعليم رسمي «تليق»... هذه بعض الأسس. الإكثار من الحديث عن الفقر والفقراء، يصبح كذبة عندما يُستعمل الدعم كحلّ مستدام وكبديل من إعادة النظر في مجمل الاستراتيجية الاجتماعية.

ما هو الأثر الذي سيترتّب على المجتمع في ظل انكفاء الدولة عن الدعم أو تعديل آلياته وتقليص مبالغه أو تخصيصه من دون سياسة اجتماعية؟
تاريخ الدعم في لبنان كان على العمياني. كان دعماً قابلاً للتحمّل عندما كانت حنفيات التدفقات مفتوحة على لبنان من الاستثمارات وصادرات السلع والخدمات، بينما اليوم صار المال المتاح للدعم محدوداً. لذا، فإنّ ما يُقلق هو أن الكلفة الأكبر لهذا التزامن بين الانهيار وتداعيات جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، ستكون محصّلته النهائية هجرة القوى الواعدة من الطبقة الوسطى كمهنيين ورجال أعمال متوسطي الحال وباحثين وأطباء ومهندسين... الميل نحو الهجرة في صفوف هذه الفئات سيكون مرتفعاً، ما يجعل من تحولات العوامل الديموغرافية مقلقة كونها ستكون شاملة وعميقة وتضعنا أمام بلد لا نعرفه تكون فيه غالبية الناس فقراء أو مهمشين وبلا قدرات إبداعية تتيح لهم الانتقال نحو اقتصاد منتج، في بلد فيه بالحدّ الأدنى مليون سوري مقيم يضغط المجتمع الدولي لإبقائهم في لبنان كورقة ضغط سياسية في التفاوض على الحلول في سوريا، ونحو 400 ألف من غير السوريين بمن فيهم عاملات المنازل.
هناك دول نجحت إلى حدّ ما في سياسات الدعم الاستهدافي، إلا أن هذا الأمر يتطلب وجود رقم مالي لكلّ شخص وانتظام حساباته المالية وتصاريحه الضريبية ويخضع لنظام ضريبي تصاعدي. يمكن توجيه سياسة الدعم بشكل أفضل بكثير وأذكى. لكن نحن نعيش في بلد تمنعنا السرية المصرفية فيه عن معرفة أيّ شيء عن أيّ شخص.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا