هناك صيغٌ عدّة مطروحة لتعديل آلية دعم السلع الأساسية. الفكرة الأبرز التي جرى نقاشها في المجلس المركزي لمصرف لبنان والتي يناقشها حاكم مصرف لبنان حالياً مع جهات فرنسية، تتضمّن الانتقال إلى آلية الدعم بواسطة البطاقة التموينية. ففي مقابل تحرير استيراد السلع والتوقف عن تمويلها بدولارات مصرف لبنان، أي أنها ستصبح مسعّرة على أساس الدولار السوقي، سيتم توزيع بطاقة فيها مبلغ من المال بالليرة اللبنانية على الأسر التي تحمل الهوية اللبنانية حصراً. بمعنى آخر، فإنّ المبالغ التي ستُضخّ في هذه البطاقات هي عبارة عن كتلة نقدية إضافية سيخلقها مصرف لبنان وستكون مخصّصة لحاملي الهويات اللبنانية وسيتم استثناء الفلسطينيين والسوريين. بالنسبة إلى مصرف لبنان ليس مهماً أي الشرائح ستستفيد من الدعم طالما هي لبنانية! الفقير اللبناني سيتساوى مع الثري اللبناني في الحصول على مال الدعم، بينما سيتساوى الفقير الأجنبي مع الثري الأجنبي في الاستثناء المبنيّ على العنصرية اللبنانية.


دوافع الانتقال إلى آلية جديدة تكمن في هذه العنصرية تحديداً، وفي مقولة غير دقيقة عن أن الانتقال من آلية تمويل السلع بدولارات مصرف لبنان إلى آلية دعم الأُسر بمبلغ من الليرة اللبنانية، سيخفّف الضغوط عن الاحتياطات بالعملة الأجنبية لدى مصرف لبنان. في الواقع، إن الآلية الجديدة لا تُعفي مصرف لبنان من استخدام احتياطاته في تمويل استيراد السلع لأنه مهما تغيّرت الآليات وسعر الدولار مقابل الليرة، فإن مصرف لبنان يتوجب عليه ألا يحرم السوق من السلع الأساسية، لذا فإن الفرق الوحيد بين الآلية المطروحة والآلية الحالية، هو سعر صرف الليرة والتوسّع النقدي بالليرة مقابل القدرة على إعادة امتصاصها من السوق. بعبارة أخرى، فإن مصرف لبنان سيبيع دولاراته في السوق لتمويل استيراد السلع، والفرق هو في سعر البيع وسعر السلعة النهائي للمستهلك.
على أي حال، إن الآلية القائمة حالياً قائمة على التعاون بين أربعة أطراف: المستورد أو التجار، المصارف التجارية، الإدارات الرسمية المعنية (وزارات الاقتصاد والصناعة والزراعة)، مصرف لبنان. هذا الأخير لديه الدولارات التي يموّل فيها استيراد السلع، والإدارة الرسمية لديها مهمة الموافقة على طلبات التجار أو المستوردين، بينما المصارف تنفّذ عملية تحويل الأموال أو تسديد الاعتمادات أو أياً يكن شكل ونوع العملية مع الخارج. ليست هناك حدود واضحة في الأدوار المرسومة لكل من هذه الأطراف، ما يجعل إمكانية التسرّب أو الوصول إلى حصّة أكبر من الدولارات الرخيصة أمراً متاحاً لأيّ طرف يملك النفوذ أو يملك الخبرة والسلطة السياسية. وبهذه العملية، يبيع مصرف لبنان دولاراته بسعر 1520 ليرة، إذا كان الطلب مخصّصاً لشراء بنزين أو مازوت أو فيول أو غاز أو دواء أو قمح، وهو لا يموّل أكثر من 90% من قيمة الشحنات لهذه السلع و50% من قيمة الشحنات للمستلزمات الطبية، بينما يبيع الدولارات لمستوردي سلّة الغذاء الصادرة عن الوزارات الثلاث (اقتصاد، زراعة، صناعة) بقيمة 3900 ليرة، علماً بأن نسبة تمويل السلع أيضاً ليست 100%.

165 مليون دولار

هي قيمة الموافقات الصادرة عن مصرف لبنان من أجل تمويل استيراد السلع الغذائية بسعر 3900 ليرة للدولار من بينها 12 مليون دولار ثمن حليب أطفال و80 مليون للسلع الزراعية


مساوئ الآلية القائمة حالياً، بحسب المعنيين، كثيرة، لكن الأسوأ فيها أن نتائجها غير ظاهرة ولا يُعرف إذا كانت مجدية وتصيب الفقراء، خصوصاً في ما يتعلّق بالسلع المدعومة عبر الوزارات الثلاث، لأنّ تسعير الدواء والمحروقات هو تسعير رسميّ موحّد يمكن التحكّم به خلافاً لتسعير السلّة الغذائية التي يتحكّم كل تاجر بجزء منها. يكرّر المسؤولون عن الدعم أنه يندر وجود سلع غذائية في السوق، وإذا عُرض بعضها على رفوف السوبرماركت، فهو يكون عرضاً هامشياً ولا يلبّي الطلب الفعليّ وربما ضمن تركّز جغرافي يضع الدعم في جيبة منطقة على حساب مناطق أخرى قد تكون أكثر حاجة، أو ربما يضع الدعم بمتناول شريحة اجتماعية لديها قدرات شرائية مرتفعة. لا بل يذهب بعض المعنيين للقول إن «التجار حققوا ثروات من خلال آلية الدعم الحالية»، فلا أحد يمكنه مراقبتهم أو مراقبة مخزوناتهم، أو مراقبة تدفّق السلع، ولا أسعار مبيعها لتجار المفرق أو نصف المفرق أو مبيعها للمستهلك النهائي، ولا يمكن فرض عرضها بشكل متواصل أو معرفة كيفية نفادها أو حتى بيعها على أنها سلع غير مدعومة... أما بالنسبة إلى السلع التي تحدّد الدولة أسعارها (الدواء والمحروقات والخبز) فهي لا تخلق أزمة ندرة المواد بل يحصل الأمر بشكل متقطّع، لكن الشكوى الأساسية تكمن في أن التجّار يستعملون دولارات مصرف لبنان لتحقيق ثروات هائلة أيضاً. هم يستوردون بتمويل من دولارات مصرف لبنان لتحقيق أرباح يتم تحويلها إلى دولارات لا تتم رسملتها.
بهذه الذرائع والحجج سيعمل مصرف لبنان على آلية دعم جديدة تخلّصه من كل هذه الأعباء. المستوى المستهدف من التعديل مثير للسخرية، لأنه مبنيّ على «عنصرية» حاكم مصرف لبنان وبعض داعمي هذا المشروع. هم يعتقدون أن الدعم يزيد استنزاف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بسبب استفادة 1.6 مليون فلسطيني وسوري مقيمين في لبنان، فضلاً عن وجود عمليات تهريب للسلع المدعومة أو المموّلة بدولارات مصرف لبنان «الثمينة» إلى سوريا.
إذاً، الهدف هو التخلّص من دعم استهلاك السوريين والفلسطينيين، والتحايل على «أسطورة» التهريب إلى سوريا. كذلك يعوّل مصرف لبنان على أن الأسر اللبنانية من الطبقات المتوسطة العليا والأثرياء ستكون محرجة في الحصول على بطاقات تموينية، وبالتالي فإن الدعم لن يطاول أكثر من 50% من الأسر، أي ما بين 650 ألفاً و750 ألف أسرة، بينما سيكون الهدف من البطاقة إجبار المجتمع الدولي على مساعدة السوريين والفلسطينيين.

دخل إلى لبنان أكثر من 10 مليارات دولار كمساعدات مخصصة من الدول والجهات المانحة للنازحين السوريين في لبنان


هذه الآلية يناقشها سلامة مع جهات فرنسية حالياً باعتبار أن السوريين والفلسطينيين أسهموا في زيادة الأعباء على الاحتياطات، لكن الإحصاءات الصادرة عن الجهات الدولية تشير إلى أن لبنان تلقى سنوياً من الأمم المتحدة أكثر من مليار دولار جرى توزيعها على سوريين أو فلسطينيين أو حتى استفاد منها لبنانيون في إطار مشاريع تمكين المجتمعات المضيفة، وقد بلغت قيمة المبالغ المرسَلة في هذا الإطار نحو 10 مليارات دولار بين عامي 2011 و2019.
لم تتضح بعد قيمة المبالغ التي سيدفعها مصرف لبنان للعائلات اللبنانية لمساعدتها على تحرير الأسعار. أصلاً لم تتضح بعد نتائج خطوة تعديل آلية الدعم وانعكاسها على تطوّر سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وليس واضحاً ما هو مدى وقدرة السياسات النقدية على التعاطي مع مسائل من هذا النوع ليست ضمن اختصاصها وليست ضمن أهدافها. فالسيولة التي ستخلقها البطاقة التموينية، ستزيد الطلب على الدولار مهما حاول مصرف لبنان أن يسرّع من عملية امتصاص السيولة وتضييق الدورة المالية لهذه المبالغ في السوق، خصوصاً أن مصرف لبنان سيواصل تسديد الودائع بالدولار على سعر 3900 ليرة. حالياً هو يطبع أكثر من 1300 مليار ليرة شهرياً لتعويض هذا الفرق. وإذا قرّر مصرف لبنان أن يدفع كامل قيمة الدعم الحالية التي يزعم بأنها 710 ملايين دولار شهرياً على سعر 1520، فهو مضطر أن يخلق 1080 مليار ليرة شهرياً، أي أن حصّة الفرد الشهرية ستبلغ 220 ألف ليرة، لكن الأمر لن يعوّض سوى جزء بسيط من تضخّم الأسعار الذي سجّل في تموز الماضي 112%. لا شيء يمنع أن تكون هناك معايير أخرى للدعم، كأن تصدر عن إدارة الإحصاء المركزي دراسة حديثة لميزانية الأسرة في لبنان لمعرفة حصّة أبواب الإنفاق من مداخيلها.
ربما يمكن توفير الكثير على مصرف لبنان إذا زيدت الأجور والرواتب لتعويض القدرة الشرائية، فبهذه الحال سيكون بإمكان الشرائح استهلاك السلع الأساسية من دون مساعدة، وقد يكون الأمر مجدياً أكثر إذا كان مفروضاً على مصرف لبنان خلق النقد من أجل الدعم. وسيكون مجدياً أكثر لوقف الزبائنية السياسية التي ستَنتج عن إصدار بطاقة وتوزيعها عبر آليات الأحزاب وأصحاب النفوذ والسياسيين، وقد يكون مجدياً أكثر من إصدار بطاقة سرعان ما تتحوّل إلى عملة إضافية لها سعرها وزبائنها ومداولاتها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا