الفساد سياق. اختبارات علم النفس الاجتماعي بما في ذلك اختبار ستانفورد توضح أنه إذا وُضع الإنسان في جوّ مسموم اجتماعياً، فإنه يتصرف بلا إنسانية. وفي حادثة حقيقية تدرّس كاختبار في السنة الأولى في دراسات علم النفس الاجتماعي، تُغتصَب فتاة على مرأى من سكان مبنى في نيويورك، فلا يتصل أحد بالشرطة لإنقاذها. سياق الظروف الاجتماعية يُفرز بشراً مستلبي الإرادة، مستغرَبين (مصطلح الاستغراب يعني أن الإنسان سلعة يُضحّى بها) عن وضعهم الحقيقي وعن ذاتهم ومجتمعهم. هذه ليست حالات استثنائية إنما هي الحال في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. كلما زاد التسليع والتنقيد، زادت المنتجات والكم النقدي بأكثر من حاجة المجتمع. كلما زاد التلوّث والدين المنوط بفائض الإنتاج، تبيّن للشعب أن النُّدرة زادت وأنهم مسؤولون عن تراكم الدين.والسياق هذا هو عبارة عن فكرة طُبّقت بسياسات معينة. المستفيدون من توسّع الإنتاج الملوّث والمديونية، يطبّقون هذه السياقات بالتوازي مع المبادئ والفئات الفكرية التي تطوّر الإنسان المتقبّل لهذا الوضع. الإنسان يُنتج، بحكم آليات الفكر والمعرفة: من مفاهيم الثقافة الشعبية إلى المفاهيم الأكثر تعقيداً التي تنتجها الجامعات، كي يدجّن. والفساد في لبنان، كما الآخرون، هو فكرة مهيمنة، أي أيديولوجيا مهيمنة لها مؤسساتها وتطبّق من خلال آليات إنتاج المعرفة. هذه الآليات هي نتاج توازن قوى سياسي ترجّح به كفّة المستفيد الأقوى. إذاً، هي سياق فاسد يخلق فاسدين. هذا حال معظم المجتمعات التي تفلت العنان لاقتصاد السوق. درجة الفساد هي درجة تحرير الاقتصاد من دون ضوابط اجتماعية.

أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

الفكرة السائدة هذه، تسمّى في أيامنا «النيوليبرالية». ببساطة، النيوليبرالية توسّع القنوات التي تنقل موارد الناس العامة إلى موارد خاصة، أي إنها الفساد بذاته. والنيوليبرالية تمارَس بدرجات متفاوتة وبنتائج مختلفة تبعاً لخصوصية البلد الذي تُمارس فيه،وموارده. ففي دول آسيا الفقيرة هناك العمالة الرخيصة، وفي البلاد المنجميّة هناك خصخصة المناجم، وفي لبنان هناك التموقع الجيوسياسي والريع المتصل به، وهكذا دواليك. طبعاً للبنان قطاع خدمات وقطاع سياحي، لكن منتج أو ريع هذه القطاعات يتقزّم أمام منتج أو ريع المورد الجيوسياسي. المستفيدون في لبنان هم الطبقة المالية أو العلاقة الاجتماعية الحاكمة. هذه طبقة أو علاقة كونية لا تنتهي لقومية. هذه علاقة ككل العلاقات الاجتماعية كالصداقة والعائلة. هذه علاقة إعادة إنتاج ثراء بأقل الطرق كلفة. لها قوانينها وعرفها المتوارث والمرتبط برمز الثراء، أي المال. وبما أن المال فقد صيغته الوطنية مع النيوليبرالية وأصبح الدولار هو العملة الواحدة التي تجمع كل المستفيدين، زادت روابط التماهي بين هؤلاء المستفيدين إلى ما هو أبعد من حدود الوطن.
والطبقة المالية لها ناسها في الأوطان لكنها أكبر منهم وأقدم منهم، وهي كذلك تمثّل سياقهم وترتكز في مركز المال، أي الولايات المتحدة. إذا صحّ القول، كل ما هو مدولر منوط بقرار صانع الدولار. لذا، في هذه التركيبة أو العلاقة أو الطبقة، هناك ترتيب هرمي تُمسك بخيوطه الطبقة المالية في الولايات المتحدة. السياسات تجسّد أفكاراً مستقاة من الفكر السائد الذي يرسّخ حكم الطبقة المالية. فلنأت بمثال عن السياسات التي تخلق السياق الفاسد والفاسدين. إحدى سياسات النيوليبرالية تفرض تثبيت سعر العملة على الدولار. التثبيت يسهّل التبادل التجاري فعلاً، لكنه عندما كان كذلك إبان الحرب العالمية الثانية، كان مرفقاً بتسكير، أو التحكم بتدفق رأس المال النقدي. من دون هذا الشرط الذي كان متبعاً بين عامَي 1945 و1980، تُضطر الدولة التي تعاني من عجز في ميزانها التجاري لأن ترفع سعر الفائدة كي تحتفظ بالدولارات لشراء ما تستورده، أي لسدّ العجز في الميزان التجاري. ولسعر الفائدة هذا، وظائف عدة منها تحديد نسبة الادخار، ونسبة الاستثمار، والكم النقدي والتوازن المتبقي ما بين الاستثمار والادخار لتفعيل الإنتاج وخلق الوظائف. كل هذه الوظائف تسقط من يد الدولة إذا حُرّر حساب رأس المال في ظل عجز تجاري وتثبيت الدولار. عندئذ يرتفع سعر الفائدة إلى مستوى يعكس مخاطر الاقتصاد الوطني. فإذا كان سعر الفائدة في لبنان مثلاً، 15%، وكان سعر الفائدة في أميركا 1%، هذا يعني أن علاوة المخاطر في لبنان هي 15-1 = 14، أي أنها نسبة عالية جداً. وفي هذه الحال، وما بعد القيود التي فُرضت على المصارف الدولية بعد أزمة 2008 -2009، يفضل أن تحتفظ المصارف بأصولها في مجالات آمنة، لكن لسبب جيوسياسي خاطرت المصارف.
على أي حال، في لبنان كان سعر الفائدة على الديون يساوي سعر الفائدة العالمي المتدني جداً مع سعر المخاطر، أي علاوة الاستثمار. رغم ذلك وضعت المصارف كل بيضها في مجالات غير آمنة كلياً. صار الاستثمار في الدين العام والادّخار العملية الاقتصادية الأهم، لكن غالبية مصادر المال المستودع في المصارف اللبنانية كانت لرأس مال يتوخى الربح السريع نظراً إلى ارتفاع الفائدة أو إلى رأس مال لا يقدر، لأسباب سياسية، أن يلجأ إلى سوق أكثر ضمانة أو أقلّ خطراً. امتصت المصارف الكم النقدي الهائل. وبما لطابع المصارف اللبنانية من سريّة مصرفية، كانت الودائع المصرفية الهاربة من القيود الأميركية كبرى الحصص. أي ودائع سوريا وتجار أفريقيا واليمن والعراق. كانت هذه الودائع تعطي حيّزاً من الحرية المالية لقوى سياسية تريد أن تتحرّك خارج دائرة الدولار لكنها محكومة به. للتذكير من يُصدِر الدولار يتحكّم بالدولار.
ومنذ تثبيت الليرة، في أوائل التسعينيات، توقف الدافع الإنتاجي، وارتفعت الديون وارتفعت فاتورة الصادرات، وتقلصت حصّة الأجور من الناتج القومي. لقد أتت المديونية بكلفة عالية وانكماش نقدي ومالي على بنية المعرفة الإنتاجية. اضمحلت شبكة العرض التي تعطي المنتج قيمة مضافة من خلال تقنية تثري القدرة على المضاربة في التصدير. فصار لبنان لا ينتج ولا يصدّر. وتدنّت قدرة الدولة على خدمة الديون بما أن قرار المصارف المشاركة في مغامرة خسائرها أكيدة كانت متخذة بقرار سياسي، كل هذه العوامل أدّت إلى القضاء على ما تبقى بعد الحرب. كان كل هذا على مرأى من الجميع.
يجب التركيز دوماً على تدنّي حصّة الأجور، فللناتج القومي حصّتان؛ حصّة الطبقة المالية وحصّة المأجورين. فقدان السيادة على إصدار النقد يعني تدنّي حصّة الأجور من الناتج. كانت الريوع الجيوسياسية أي ما يسمى بالمساعدات والضمانات لحرية حركة رأس المال والكفالات الصورية الأميركية للمصارف، كلها كانت إجراءات تمتصّ السيولة من الداخل ومن الخارج وتعيد استثمارها إن بتمويل الهدر أو بتوزيع بعض الأرباح جلّها إلى الخارج. السياسة النيوليبرالية استكملت عملية التدمير التي بدأتها الحرب.
وأقول ما يسمى بالمساعدات لأنه من السذاجة التصديق بأن منظومة رأس المال القائمة على اقتناص الثروة ستسعى للمساعدة. ليس هناك ما يسمّى مساعدة. فهذه ليست إلا استثمارات جيوسياسية هدفها تمكين أميركا في منطقة استراتيجية. لأن التحكم الاستراتيجي هو البديل لاحتياط الذهب للدولار كعملة تداول وادخار دولية والآلية الرئيسية للريوع، أي التحكّم الذي يمكّن أميركا من إصدار ورق يسمى دولاراً، لتشتري به ما تشاء وتتحكم بما تشاء، لأن دولارها يمثّل عملة التداول والادخار الدولي ويستحوذ على ثراء الآخرين الحقيقي، أي يقتنص القيمة. فما بالك إذا تحكمت أميركا بمنطقة كمنطقتنا حتى لو أنفقت تريليونات الدولارات، إذ لا حدود لإصدار الدولارات إذا كانت الامبراطورية مستمسكة بمرافق جيواستراتيجية حيوية. بمعنى آخر، إذا كان التحكّم الفعلي والأيديولوجي هو مصدر الثراء والكافل للدولار، فلا حدود لقدرة أميركا على إصدار الديون.
السياسة النيوليبرالية كانت سياسة تحكّم أولاً، فلا المصارف اللبنانية ولا دين لبنان بالكمّ النقدي يمثلان قيمة عالية لأميركا التي تُصدِر الدولار ولها سيادة نقدية كونية


شنّ حروب مكلفة جداً على شعوب فقيرة جداً يفسّر بمقدار تحكم أميركا بطرق تداول القيمة النقدية الدولية من خلال الدولار. فبينما كنا سابقاً نضطر إلى تخزين كمّ أكبر من الذهب لنصدر العملة الوطنية، باتت هذه العملة تُصدر بلا سيادة في ظل الدولار. في أميركا، بدلاً من الذهب تكدّس القوّة، اي قدرات التحكم بموارد الشعوب كافة. فعندما يتداول الكل بالدولار يصبح مصدر الدولار متحكّماً ومالك كل شيء على سبيل التبسيط.
وتكديس القوّة كي يكفل الإصدار الهائل من الدين بالدولار يعني إلغاء قدرة الشعوب على الاستقلال وغالباً بالعنف. إذاً العنف ملازم لتوسع الدولار. ليس هناك تقدير دقيق للمديونية بالدولار، لكن بعض التخمينات تضع الرقم بمثابة ثلاثة أضعاف ونصف الناتج القومي الأميركي.
ما أقوله هنا هو أن التحكّم والأولوية السياسية، أولوية على الربحية الآتية، لأن من يتحكم بامكانه تسعير كل شيء بعملته، وفي البرهة الأخيرة يستملك كل شيء. بمعنى أوضح إذا أرادت الولايات المتحدة أن تتحكّم ببلد استراتيجي ما، وكان منتوج البلد نحو 40 مليار دولار، ثم أنفقت أميركا 6 تريليونات دولار لاحتلال وتطويع هذا البلد، فهل هي خاسرة؟ كلا بالمطلق، لأن التحكّم بالبلد الفقير يبعث من القوّة للمكانة الأميركية بما يمكنها من إصدار أضعاف هذا الدين واستملاك القريب والنائي. بورقها تسلب العالم رزقه، وبدولارها تشتري ما يصدره العالم.
إذاً، هذه السياسة النيوليبرالية كانت سياسة تحكّم أولاً، فلا المصارف اللبنانية ولا دين لبنان بالكمّ النقدي يمثلان قيمة عالية لأميركا التي تصدِر الدولار ولها سيادة نقدية كونية. إذا كان التحّكم وتخزين القوّة هما الذهب الجديد، فلا حق لأي دولة أن تستحوذ حتى على هامش ضيّق من السيادة. طبعاً، بالنسبة إلى الموالين لأي دولة تسعى للسيادة، هو خيار بالضرورة للعلاقة الحاكمة الدولية التي تتخذ من البنى التحتية الأميركية شكلها السياسي. كان للشعب اللبناني كذلك خيارات؛ خيار السيادة على العملة والقدرات الإنتاجية، أم إعادة التسليم بالسياسات النيوليبرالية. لم يكن اللبنانيون استثناءً، فغالبية شعوب العالم جرفها تيار النيوليبرالية. لكن كما ذكرت سابقاً، لبنان يبيع ما هو أهم من التموقع الاستراتيجي الذي ينتج من خلال إضعاف البنى الاجتماعية حتى تُستلب منها قدرة البقاء. بينما كانت هذه السياسات تطبق وتنكمش حصّة الأجور، كانت حصّة الأرباح المصرفية تتوسع مقابل تدني الإنتاج وتدهور البيئة وتدني متوسط الأعمار الكامن وتهجير القوى العاملة. وبما أن الدخل مدولر، كانت أميركا قادرة على تفكيك بيت الورق المبني على المديونية.
هذا ما حصل يومياً عبر تثبيت سعر العملة الوطنية وتحرير حساب رأس المال ودفع المصارف لاستباحة أمن الشعب المعيشي في بوتقة فساد تعوّدت على الارتكاز إلى فتات الريع الجيوسياسي من خلال تجذير انقسام الطبقة العاملة بطائفية مفروضة بخيارات كولونيالية سابقة.
الحالة الديمقراطية تحال إلى أمرين اثنين؛ أرباب السياسة النيوليبرالية والشعب الذي يصوّت على هذه السياسة لأن الأرضية التاريخية التي يتحرّك عليها، صنعها الاستعمار سابقاً والطائف لاحقاً، أي كما كان المتحولون محكومين بقواعد اختبار ستانفورد النيوليبرالي، كان الشعب حبيس هزيمته التاريخية، أي حبيساً للدساتير والقوانين والأعراف التي بموازاة وعيه الزائف تسلبه الإرادة.
السياق الفاسد هذا، هو حالة فكرية شاملة ترعى إلى أقصى حدود إلغاء الجماهير من المعادلة السياسية. عندما تُلغى الطبقة بالطائفة أو بالعرق، يُلغى كذلك البديل الأيديولوجي. ينتج رأس المال، أي العلاقة الاحتكارية المالية الدولية، ذاتها بعملية استلاب وتشييء للإنسان. يصبح الإنسان شيئاً بمحض مشيئته ويستهلك ذاته بما في ذلك إفناء الذات من أجل إحياء رأس المال.
في السياق أو البيئة التي اختيرت لضبط المسلك الاجتماعي، يتحرّك الفرد بمحض إرادته كما يظن، لكنه على الأرجح، عبارة عن أصل من أصول العلاقة المالية الحاكمة. فعندما يسيل لعابه الاستهلاكي في جوّ موسوم بالندرة، طبعاً الندرة المصطنعة والمفروضة مسبقاً بالفاعل التاريخي، كذلك يفعل الآخرون. وفي خضم الهوس بملاحقة السلع على المستوى الاجتماعي، تتضح صورة كليّة فيها يستهلك المجتمع ذاته. بهذه العملية، أي استهلاك الذات، مع سياسات تسريب الأصول إلى الخارج، ومع استمرار التمسّك بمفاهيم مهيمنة ألحقت ضرراً بالمجتمع أصلاً، يكون الفرد قد حوّل نفسه إلى سلعة تُستهلك وتباع في عملية تقايض جيواستراتيجي يبيع فيه نفسه ومستقبل الأجيال القادمة مقابل تمكين طغمة المال.