في شباط الماضي، أعدّ أستاذ العلاقات الدولية وسياسات الشرق الأوسط في جامعة سانت أندرو، ريموند هينبوش، ورقة عمل بعنوان «معركة إعادة بناء سوريا» خلص فيها إلى أن «سوريا بلا إعادة إعمار، ستبقى دولة فاشلة ولن يكون اقتصادها قادراً على استعادة الاستقرار، بل ستكون هناك مخاطر مرتفعة من العنف والإرهاب وتدفق اللاجئين...». برأيه، إن هذا الوضع في سوريا سيبقى مصدراً للأزمات والاضطرابات نظراً إلى الدور المحوري الذي تلعبه سوريا في المنطقة. اللاعبون الرئيسيون في إعادة الإعمار، أي أوروبا وروسيا لديهم مصلحة بتجنّب مثل هذا المسار السلبي ولديهم القدرة على تخفيف المخاطر أيضاً.ما الذي يعيق إنجاز تسوية كهذه؟ يقول هينبوش: للأسف، هناك مجموعة عوامل تعيق هذه التسوية:
- مقاومة النظام لاتفاق سياسي يتساوى مع عدم رغبة المجتمع الدولي في الالتزام بإعادة إعمار البلاد من دون تسوية كهذه.
- بالإضافة إلى استراتيجية النظام السوري في استخدام إعادة الإعمار لتعزيز موقعه وقوته وتهميش خصومه، فإن احتكار العقود من قِبل الرأسماليين المحسوبين على النظام وانعدام الأمان في حقوق الملكية، لا تؤدّي إلى استبعاد الغرب بشكل واسع عن عملية إعادة الإعمار، بل حتى تبعد الشركات التي ليس لديها أجندة سياسية.
- انقسام البلاد إلى مناطق تتنافس على التأثير في المخاطر المتصلة بعملية رسم إعادة الإعمار، ما يمكن أن يزيد الانقاسم حدّة ويقوض سيادة البلاد.
- الدور المسموم الذي تمارسه الولايات المتّحدة الذي يفضل أن يرى إعادة إعمار فاشلة طالما أن نجاح المشروع يعدّ انتصاراً لروسيا وإيران وفشله يدفعهما نحو المستنقع. إذا كانت استراتيجية واشنطن، أن إلحاق الأذى بالشعب السوري أملاً بأن هذا النوع من الضغط يولّد ثورة ضدّ النظام، فإن هذا المسار غير واقعي كما أظهر تجارب العقوبات على العراق، وليس مساراً أخلاقياً أيضاً.
هذه العوامل هي نتيجة ثماني سنوات من الصراع الجيوسياسي العنيف. صراع قد يطيح بمستقبل سوريا. لكن الثابت والأكيد «عدم وجود أي طرف في وضع يسمح له بالانتصار كلياً، ما قد يدفع جميع الأطراف لتقديم تنازلات». تموضع الأطراف وقدرة كلّ منها ضرورية لاستكشاف أي طرق واقعية متاحة للنهوض. لذا، ينطلق هينبوش من تحديد موقع الأزمة السورية في السياق الأوسع للصراع على السلطة محلياً وإقليمياً ودولياً. فإعادة الإعمار ترتبط بالصراع الداخلي على السلطة، ترتبط أيضاً بالصراع الجيوسياسي على سوريا الذي تُرجم سابقاً في المرحلة العسكرية، ثم انتقل إلى معركة جيوسياسية دولية حول إعادة الإعمار.

أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

في هذا السياق، يبني هينبوش دراسته على تتبع العلاقة المتبادلة بين ثلاثة عوامل لفهم معركة سوريا حول إعادة الإعمار: أوّلاً، سعي المستوى الداخلي لجذب تدفقات الموارد والعقود واستخدامها لتعزيز السلطة. ثانياً، الصراع الجيوسياسي الإقليمي المركّز من أجل النفوذ، واستخدام إعادة البناء لأهدافٍ جيوسياسية متنافسة. ثالثاً، الصراع الجغرافي الاقتصادي العالمي، والذي سيظهر إذا كانت الموارد ستصبح متاحة لإعادة الإعمار وعلى أيّ شروط.
ونظراً إلى كون القوى الأقوى جيوسياسياً على الأرض في سوريا (روسيا وإيران) هي أضعف جغرافياً واقتصادياً من أولئك الذين خسروا الصراع الجيوسياسي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج)، فإن هذه الأخيرة تستخدم رأس المال عبر حجبه وعرقلته، لتتمكّن بمساعدة البنك الدولي من المشاركة بتسوية سياسية.
هكذا تبدو مخاطر معركة إعادة الإعمار متركّزة في قدرة النظام على استخدام إعادة الإعمار لتعزيز قوّته، وقدرة الخارج للحفاظ على مناطق نفوذ، واحتمالات التمويل الخارجي.
عملياً، يقوم النظام بتكييف نفسه بشكل أكبر لإدارة إعادة الإعمار بطريقة تعزّز قبضته على السلطة. كانت القوّة تعتمد دائماً على الرعاية اللازمة لإرضاء النخب الموالية. ومع ذلك، فقد تم استنزاف خزائن النظام وتراكمت الديون على حلفاء سوريا. إن محور الاستراتيجية الاقتصادية للحكومة التي تهدف إلى إعادة الإعمار، هي إنشاء الشراكات بين القطاعين العام والخاص. يمكن للهيئات العامة مثل المدن والمحافظات تشكيل شركات استثمار خاصة، عبر توفير الأراضي العامة ودعوة التمويل من شركاء القطاع الخاص. يمكن للشركات الخاصة أيضاً إدارة أصول الدولة وتطويرها، وبالتالي، من المرجّح أن يسيطر المستثمرون على بقايا القطاع العام في حين أن الشركات الجديدة سيكون لها شركاء بشكل ظاهري يسمحون للدولة بالسيطرة على النشاط الاقتصادي. قد يجذب هذا المستثمرين الجدد ويعزّز الدعم للنظام بين الرعاة الرئيسيين وعملائهم، ولكنه قد يؤدّي أيضاً إلى تخصيص القطاع العام على حساب خزينة الدولة.
يبدو النظام السوري مرجّحاً للارتباط اقتصادياً بطريقة غير مسبوقة مع روسيا وإيران، مقابل انخفاض روابطه الاقتصادية السابقة مع الغرب (الوجهة السابقة لأغلب نفطه) وتركيا والخليج العربي (مصادر الاستثمار)


ورغم أن هناك نقاشاً متصلاً بعدم حاجة سوريا إلى تمويل ضخم من الخارج والقدرة على التمويل المحلي، يتّجه النظام لتطوير استراتيجيات جذب التمويل الخارجي، عبر فرض ضرائب على جميع التدفقات المالية من الأموال التي يرسلها المغتربون إلى أسرهم التي لا تزال في سوريا. يسعى النظام أيضاً إلى اجتذاب 100 مليار دولار من الأموال السورية التي يُقال إنها محتجزة خارج البلاد، وذلك من خلال الإعفاءات الضريبية السخية وإنشاء الجمعية السورية الدولية للأعمال (SIBA) تحت رعاية البنك الدولي. كذلك أعلنت الحكومة السورية منح عقود إعادة الإعمار لحلفائها، وليس للدول الأجنبية التي دعمت «الإرهابيين» المعارضين. التنازلات عن الممتلكات العقارية والموارد المعدنية هي أحد الأشياء القليلة التي يمكن للنظام استخدامها بهدف جذب الاستثمار وتعويض حلفائه الروس والإيرانيين، لكن هذا قد يرهن استقلال سوريا الاقتصادي في المستقبل. يبدو النظام السوري مرجّحاً للارتباط اقتصادياً بطريقة غير مسبوقة مع روسيا وإيران، مقابل انخفاض روابطه الاقتصادية السابقة مع الغرب (الوجهة السابقة لأغلب نفطه) وتركيا والخليج العربي (مصادر الاستثمار).
تحذّر التجارب من إعادة الإعمار في بلدان ما بعد الحرب، حيث يزيد الفساد والرأسمالية والقوانين «المزيفة» من سوء المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ويساهم في زيادة العنف. سوريا تخاطر بتكرار هذا الاتجاه. إن موقع سوريا الاستراتيجي حوّل مصيرها إلى مسألة منافسة بين القوى الإقليمية، فاجتذبت الأزمة السورية القوى العظمى عالمياً. هكذا، أصبحت سوريا ساحةً لخلاف بين محاولة واشنطن الحفاظ على هيمنتها العالمية باسم نظام عالمي ليبرالي، وجهود القوى العظمى المتنافسة، لا سيما روسيا والصين.

* نُشرت في غلوبال بوليس فوروم

روسيا: رعاية إعادة الإعمار
تعدّ روسيا القوة الرائدة التي تعزز إعادة إعمار سوريا تبعاً لدوافعها الاستراتيجية. هي تطمح إلى تحقيق الاستقرار لتعزيز دورها الجيوسياسي المحوري في الساحتين الإقليمية والدولية، وقدمت للنظام السوري دعماً عسكرياً واقتصادياً هائلاً على مدى فترات طويلة، كما أعفت سوريا من ديونها أكثر من مرّة. من المؤكّد أن روسيا سعت للحصول على امتيازات اقتصادية في سوريا لاسترداد بعض استثماراتها الكبيرة في الدفاع عن النظام وإنقاذ الاستثمارات السابقة التي تعرّضت للخطر بسبب الانتفاضة. وقد بلغت الاستثمارات الروسية في البنية التحتية والطاقة 20 مليار دولار في عام 2008.
مُنحت روسيا دوراً تفضيلياً في إعادة بناء قطاعي الطاقة والبنية التحتية في سوريا. وعُرض على شركة روسية لأمن الطاقة 25% من أرباح حقول النفط والغاز التي يمكن أن تحصل عليها أثناء عملية إعادة الإعمار. رغم ذلك، يبقى الاستثمار الروسي محفوفاً بالمخاطر، وهو عرضة للتهديد بالعقوبات الأميركية. يبدو أن الشركات الأكثر استعداداً للعمل في سوريا هي تلك الشركات التي تديرها الأوليغارشية القريبة من بوتين والتي تخضع بالفعل للعقوبات.

أوروبا: بين أميركا وروسيا
وُضِع الاتحاد الأوروبي على المحك في النزاع السوري منذ أن تسببت أزمة اللاجئين في توتير نسيجه الاجتماعي السياسي. كان الاتحاد الأوروبي جهة مانحة رئيسية لمساعدة اللاجئين السوريين في البلدان المجاورة (نحو 10.8 مليارات يورو)، لكنه يمتلك قدرة أقل بكثير من الولايات المتحدة أو روسيا للتأثير على النتائج في سوريا. الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي هو أنه لن يشارك في إعادة الإعمار حتى يتم التوصل إلى حلّ سياسي موثوق «يتماشى مع قرار مجلس الأمن 2254 وبيان جنيف». وبالتالي لا يزال الاتحاد الأوروبي معارضاً لتقديم المساعدة التي من المرجّح أن تعزّز حكومة الأسد.

إيران: موطئ قدم للردع
يندرج وجود إيران في سوريا ضمن الإطار الجيوسياسي الجوهري: الحصول على موطئ قدم دائم في البلاد، ما يمكّنها من توسيع قدرتها الرادعة ضد إسرائيل وإبقاء منافستها السعودية خارجاً. سوريا مدينة مالياً لإيران بوتيرة متزايدة. هذه الأخيرة ساعدت نظام الأسد بأكثر من 16 مليار دولار منذ عام 2012. وفتحت طهران خط ائتمان بقيمة 3.5 مليار دولار في عام 2013، ثم مدّدت ذلك بمقدار مليار دولار في عام 2015، ما ساعد على إبقاء الاقتصاد السوري في حالة تعويم، كما منحت 6.4 مليار دولار للنظام و700 مليون دولار للميليشيات الموالية لإيران في سوريا. ومع ذلك، حاولت إيران استرداد بعض استثماراتها في بقاء النظام من خلال امتيازات إعادة الإعمار. لقد أبدت اهتماماً بإعادة بناء البنية التحتية في سوريا، كما كان لها أكبر حضور في معرض إعادة الإعمار الدولي لعام 2018 في دمشق. إضافةً إلى ذلك، وقّع الحرس الثوري عقوداً كبيرة مع سوريا، بما في ذلك ترخيص لخدمة الهاتف المحمول وتعدين الفوسفات. تعهّدت إيران بمليار دولار لإعادة الإعمار، وهو جزء بسيط مما هو مطلوب، ومن المرجّح أن يكون الدور الإيراني في إعادة الإعمار السوري مقيّداً بشكل كبير بعقوباتٍ أميركية على اقتصادها الخاص.

الولايات المتّحدة كمخرّب
أنشأت واشنطن مناطق نفوذ في شمال شرق سوريا تستخدمها لعرقلة طموح الأسد باستعادة السيطرة على الأراضي تمهيداً لإعادة الإعمار المتكاملة. كذلك حرمت النظام من الوصول إلى موارد الطاقة الحاسمة لإعادة الإعمار. وقد حاولت إدارة ترامب تحميل السعوديين عبء إعادة الإعمار (تطلب 4 مليارات دولار) لكن الرياض عرضت مبالغ أقل بكثير. كان هدف الولايات المتحدة بدء عملية إعادة إعمار لردع أيّ تحرك في المنطقة من قِبل الجهات التي قد تنضم إلى جهود إعادة الإعمار التي يرعاها النظام.
أمّا بالنسبة إلى الأجزاء التي يسيطر عليها النظام في سوريا، فقد تحركت واشنطن لعرقلة تمويل إعادة الإعمار في هذه المناطق. في نيسان 2018، أصدر الكونغرس الأميركي قانون عدم تقديم المساعدة للأسد بهدف منع أيّ انحراف عن المساعدة الإنسانية لتحقيق استقرار إعادة الإعمار. وفي الواقع، إن الولايات المتحدة لديها تاريخ طويل في توجيه تدفق رأس المال العالمي من خلال العقوبات وما إلى ذلك لأغراضها الجيوسياسية. ففي سوريا، تسعى إلى التلاعب بالمال (الاقتصاد الجغرافي) للحصول على ما لا يمكنها تحقيقه من خلال الجغرافيا السياسية، وهو إبقاء سوريا دولة فاشلة تجعلها عبئاً يستنزف الموارد لروسيا وإيران. ومع ذلك، كما أشار النقاد، فإن عدم الاستقرار يخاطر بإبقاء سوريا «حفرةً سوداء» تضرّ بأوروبا (لا سيما من خلال ردع عودة اللاجئين أو النازحين) وملايين السوريين الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها النظام.

تركيا والدول العربية
لا تزال تركيا واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لسوريا. ازدهر رجال الأعمال السوريون المنفيون في تركيا واستثمروا في البلاد، في عام 2014 تأسّست أكثر من 26% من جميع الشركات الأجنبية الجديدة في تركيا، من قِبل مستثمرين سوريين، خاصةً في المناطق الحدودية. كانت العديد من هذه الشركات داعمة للمعارضة ويمكن تجنيدها في إعادة إعمار المنطقة، بالتوازي مع عودة اللاجئين السوريين إلى المنطقة، إلى جانب القرب الجغرافي لتركيا من سوريا ما شجّع التطلعات التركية في جزء كبير من عملية إعادة الإعمار في مدينة حلب. تُعارض الحكومة السورية ذلك، لكن الوساطة الروسية قد تسهّل الموضوع في ضوء احتياجات إعادة الإعمار الهائلة في حلب. يمكن للدول الخليجية المساهمة في إعادة الإعمار، غير أن مشاركتهم في ذلك تتوقف على خروج إيران من البلاد. ومع ذلك، أشارت الإمارات العربية المتحدة إلى أنها قد تشارك كوسيلة للحدّ من النفوذ الإيراني.

الصين وآسيا
كجزء من جهوده الرامية إلى نقل تبعياته الاقتصادية بعيداً عن خصومه الغربيين/ العرب، وكذلك لتنويع اعتماده على روسيا وإيران، يسعى النظام السوري إلى استقطاب الاستثمارات الآسيوية. تعد الصين أحد أكبر الشركاء التجاريين لسوريا، وقد أبدت اهتماماً بالمشاركة في إعادة إعمارها نظراً إلى مصلحتها الاقتصادية في البلاد. اجتذب حدث إعادة الإعمار نحو 1000 شركة صينية، وقد خصصت الحكومة الصينية ملياري دولار لإعادة البناء الصناعي في سوريا.
تمتلك سوريا بعض الموارد الطبيعية التي تجذب عادةً الاستثمارات الصينية، وقد حصلت الصين في فترة ما قبل الانتفاضة على بعض الامتيازات النفطية في سوريا، غير أنها تقع الآن في المنطقة الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة. وبالمثل، تتمتّع الهند بموارد استثمار هائلة محتملة. لم تقطع الهند علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا خلال الانتفاضة، وقد عرضت 4 مليارات للمساعدة في البناء.