مذ بدأت عجلة الانهيار الاقتصادي في لبنان، يربط السواد الأعظم من الخبراء والمنظرين الذين يتوالون على شاشات التلفزة هذه الأزمة الاقتصادية بفساد الصفقات والتلزيمات بالتراضي والأموال المنهوبة. وانعكس هذا التشخيص للمشكلة بشكل واضح وجليّ عند الرأي العام اللبناني الذي بات كلّما سُئل عن رأيه بالأزمة الحاصلة لا يردّد سوى عبارة «ما سرقوهن للمصريّات».بالطبع إنّه تشخيص خاطئ، وكأنّه يعبّر عن أن الذي أوصلنا إلى الانهيار هو فساد أشخاص وليس فساد نظام. أو أنّه إذا تم استرداد الأموال المنهوبة سيعود الانهيار الاقتصادي أدراجه، وبالتالي ستعود أوضاع الناس المعيشية إلى سيرتها الأولى قبل الأزمة. الحقيقة أن جوهر الفساد في لبنان يكمن في البنية الاقتصادية التي تم بناؤها في عام 1992، أي عند تشكيل حكومة رفيق الحريري الأولى.
ما تم إرساؤه منذ ذلك التاريخ، هو بنية اقتصادية غير منتجة قائمة على مجموعة من السماسرة والكسالى، أي ما يُعرف بالاقتصاد الريعي الذي يتّكل بشكل تام على المنظومة الغربية التي تتزعّمها الولايات المتحدة الأميركية. وفي النتيجة، فإن أغلب احتياجات المجتمع اللبناني، والتي يقدّرها الخبراء بـ80% من مجمل احتياجاته، أصبحت تُستورد من الخارج، ما رفع بشكل جنوني كميّات الدولار التي تخرج من لبنان، وهو مكمن المعضلة التي يقبع فيها البلد اليوم.
ذلك جاء نتيجة الشروع بخطوتين أساسيّتين: زيادة أسعار الفوائد بشكل جنوني على الودائع التي ذهبت كلّها لتمويل الاستيراد وديوناً على الدولة. وتثبيت سعر صرف الدولار على مستوى وهمي هو في الحقيقة مضخّم مقارنة بقيمة الليرة اللبنانيّة الحقيقية، الأمر الذي سهّل أكثر وأكثر التوجّه الى الاستيراد. هذان الأمران جذبا رؤوس أموال تموّل الاستيراد مما دمّر القطاعات الإنتاجية في البلد وخصوصاً الصناعة والزراعة بشكل ممنهج والذي جعل البلد بكلّه وكلكله مرهوناً بتدفق الدولارات عليه، أي مرهوناً برضى الولايات المتّحدة الأميركية. هذا يعني أنّه حتّى لو أن الذين تسلّموا السلطة من التسعينات إلى اليوم لم ينخرطوا في عمليات الفساد لكنّا وصلنا إلى الأزمة نفسها في ظل هذه البنية الاقتصادية، علماً بأن كل الأموال المنهوبة لا تساوي عشر الأموال التي صُرفت في الاستهلاك. بينما، لو أن السياسة الاقتصادية التي صيغت في التسعينات كانت مبنيّة على أسس إنتاجية لتُعزّز القطاع الإنتاجي لتدفقت دولارات كثيرة إلى لبنان عبر التصدير.
وما الفساد الذي يتحدّث عنه المنظّرون على شاشات التلفزة إلا نتيجة وعارض من عوارض البنية الاقتصادية المشؤومة. وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن بعض من ينظّر لهذا التشخيص يريد من خلال ذلك حرف المسار الإصلاحي الحقيقي الذي يقوده حزب الله إلى مسار تآمري عليه من خلال الترويج لسرديّة أن حلفاء الحزب فاسدون، والحزب يحميهم، والفساد هذا هو المسؤول بالدرجة الأولى عن الأزمة الاقتصادية. فالنتيجة أن وجود حزب الله يشكّل عائقاً أمام أي محاولة إصلاح.
بينما المعركة الحقيقية اليوم هي في نقل الاقتصاد اللبناني من كسالته وريعيته إلى اقتصاد منتج يخفض الطلب على الدولار إلى حدّه الأدنى ويجلب في الوقت ذاته دولارات جديدة عبر التصدير. وأولى الخطوات في هذا المسار هي فك الحصار الأميركي عن حدودنا الشمالية والشرقية لفتح أسواق جديدة يصرّف فيها إنتاجنا الوطني المحتمل.
هي باختصار معركة التحرير الاقتصادي. لا تقلّ أهميّة هذه المعركة عن معركة التحرير من الاحتلال العسكري. هي معركة تحرير الاقتصاد اللبناني من الهيمنة الأميركية التي تنتهج سياسة تجويع اللبنانيين. والمستهدف بشكل أساسي هو البيئة الحاضنة للمقاومة لتنقلب عليها. إذا استحضرنا تاريخ المنطقة، فإنها معركة الكوفة بين الإدارة الأميركية وحزب الله. وجمهور المقاومة لن يكون إلّا كما أثبت في كل معركة، أنّه لن يكون من الملّة المتديّنة بالدنانير، وإنما دينها وديدنها التحرّر الوطني. والواجب اليوم هو تشكيل رأي عام يضغط على كل المعنيّين إلى بناء الاقتصاد المنتج وأحد شروطه الموجبة التوجه نحو الشرق. والحكومة الحالية تقع على رأس قائمة المعنيّين.