المصارف المركزية ليست مصارف تجارية. هي لا تسعى إلى تحقيق الربح، ولا تواجه القيود المالية المفروضة على المؤسّسات المصرفية الخاصة لجهة متطلبات الملاءة والسيولة. عملياً، هذا يعني أن عناصر الربحية والقيمة السوقية ليست أساسية لتقويم نجاح المصرف المركزي، بل مدى قدرته على تحقيق الأهداف التي نشأ من أجلها والمنصوص عليها صراحة في قوانين إنشائه. فبإمكان أي مصرف مركزي أن يخسر مبلغاً من المال كافياً لتحويل رأسماله إلى قيمة سلبية ومواصلة «عمله» بنجاح تام، أو تحقيق أرباح طائلة وسط عجز عن تحقيق الأهداف. فالمعيار الأساسي لنجاح مصرف مركزي ما، هو الاستخدام الفعّال والكفوء للأدوات الموضوعة بتصرفه لتوجيه الاقتصاد، والقدرة على خلق ظروف جيدة تؤدّي في النهاية إلى تعزيز النموّ الاقتصادي، وتحقيق استقرار الأسعار والاستقرار المالي. وفي مقابل ذلك، يُشدد الاقتصاديون على أهمية «القوة المالية» للمصرف المركزي في تحديد نتائج سياساته ونجاحها، لأن المصارف المركزية ذات رأس المال الضئيل (أو السلبي طبعاً) غالباً ما تكون مقيدة في سياساتها، ووجود رأسمال «كافٍ» هو ضروري لتنفيذ السياسات، وخصوصاً لجهة تحقيق استقرار الأسعار وضبط التضخم.


مسار الخسائر التراكمي
مصرف لبنان يحوز رأسمالاً دفترياً يبلغ 5.61 تريليونات ليرة، بحسب ميزانيته الموقوفة بتاريخ 15 أيار 2020. ورغم تراكم خسائره لتبلغ 68.85 تريليون ليرة لغاية منتصف أيار من السنة الجارية، إلا أنها لم تُشطب أو تنزّل من رأسماله، بل سُجّلت خسائر «غير محقّقة»، ورُحّلت مقابل إيرادات مستقبلية. ورغم أن هذا الإجراء متّبع فعلاً من مصارف مركزية حول العالم، إلا أنه يُعتمد، عادة، لفترات زمنية محدودة ونتيجة ظروف استثنائية. وقد ركّزت خطّة الحكومة للإصلاح على مصرف لبنان ورأسماله بشكل مفصل انطلاقاً من إعادة هيكلته، فأوصت بشطب الخسائر المتراكمة التي تكبدها خلال السنوات الماضية وإعادة رسملته.
لتحديد مبلغ الخسائر، سنعتمد المقاربة والمنهجية نفسها المعتمدة في خطة الحكومة لاحتساب خسائر مصرف لبنان. أي مجموع بيانيّ «موجودات ناتجة من عمليات مبادلة لأدوات مالية» و«موجودات أخرى». في نهاية عام 1990، بلغت الخسائر المتراكمة لمصرف لبنان 31.1 مليار ليرة، و100.2 مليار ليرة في نهاية 1991، و82.1 مليار ليرة في نهاية عام 1992. ورغم ازدياد الخسائر خلال بعض سنوات عقد التسعينيات (وبالتحديد خلال سنوات 1994، 1995، و1998)، إلا أنها بقيت محدودة نسبياً وكان مصرف لبنان يقوم بإطفاء جزء منها مقابل الإيرادات التي جناها آنذاك أو الناجمة عن عمليات إعادة تقييم موجوداته.
لكن ابتداء من عام 2002، بدأت تلك الخسائر بالتزايد سنوياً بشكل لم يعد بالإمكان إطفاؤها من الإيرادات المحقّقة فعلاً، ما اضطر مصرف لبنان الى اللجوء إلى الأدوات المحاسبية التي تتيح له «ترحيلها مقابل إيرادات مستقبلية» أملاً بإطفائها مستقبلاً، رغم أن الأمر بدا صعب التحقيق. فلم تعد الإيرادات تكفي لإطفاء الخسائر المتراكمة الناتجة من أكثر من مصدر وتسارع وتيرة تراكمها. سبب تعدّد مصادر الخسائر يعزى إلى توسيع مصرف لبنان نشاطاته وبرامجه وسياساته بشكل كبير جداً ــــ سواء تلك المرتبطة فعلاً بمهامه وبوظائفه وبالسياسة النقدية المُناطة به، أو تلك التي تخرج كلياً عن مهام المصارف المركزية ــــ والتي كبّده بعضها خسائر كبيرة. هنا يمكن تعداد الفوائد المرتفعة التي دفعها بهدف اجتذاب العملات الأجنبية للمحافظة على تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار، والخسائر الناجمة عن التدخل في سوق القطع، وخصوصاً خلال الأزمات السياسية والأمنية، فضلاً عن تمويل عجز الموازنة عبر إصدار شهادات إيداع عالية الفوائد واستثمار أموالها في سندات خزينة بفائدة أدنى، وتمويل عجز ميزان المدفوعات، والقروض المدعومة بمختلف أشكالها، وتمويل عمليات الدمج المصرفي، وغيرها من العمليات شبه المالية (quasi-fiscal) التي قام بها.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


أنقر على الرسم البياني لتكبيره


أنقر على الرسم البياني لتكبيره

علماً بأن تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (آخرها في 11 تموز 2019)، حذّرت باستمرار من مواصلة مصرف لبنان التوسّع الكبير في نشاطاته (استعملت عبارة overstretch) وأثر هذه العمليات على متانته المالية، ودعته إلى العودة لاعتماد السياسات والأدوات التقليدية في عمله.
لا يمكن حصر خسائر مصرف لبنان بالهندسات المالية التي نفذت في عام 2016 وما تلاها، بل هي تراكمت على مدى 20 سنة. المحطّة الأساسية في هذا التراكم ظهرت بعد عام 2009. يومها تبيّن أن الخسائر زادت بنسبة 45.9% وبلغت نسبة زيادتها في 2010 نحو 34.7%. في ذلك الوقت نجم الأمر عن عمليات «تعقيم السيولة» التي نفذها مصرف لبنان لاستيعاب التدفقات المالية الكبيرة إلى لبنان بسبب الأزمة المالية العالمية. ولا شك بأن الحرب في سوريا، وإقفال خطوط التصدير البريّة، أدت الى تراجع التصدير فانعكس الأمر زيادة في عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات. بالنتيجة، زادت الضغوط على احتياطات مصرف لبنان وتسارعت وتيرة مراكمة الخسائر، لتبلغ 51.6% في 2019 و15.9% في الربع الأول من 2020. في المحصلة، تراكمت الخسائر لتبلغ في منتصف أيار 2020 نحو 68.9 تريليون ليرة (أي 45.7 مليار دولار بحسب سعر الصرف الرسمي).
بحسب بياناته المعلنة، واجه مصرف لبنان هذه الخسائر عبر اللجوء إلى إطفاء جزء منها في شهر كانون الأول من كل سنة (وأحياناً في أشهر أخرى)، إلا أن هذا الأمر لم يؤدّ إلا إلى تخفيض محدود للخسائر المتراكمة.

منطق الهيركات
أشارت خطة الحكومة إلى أنها ستعتمد برنامجاً للتعامل مع خسائر مصرف لبنان يركّز على «تقييم كامل للوضع المالي لمصرف لبنان وتحديد التدابير المحتملة التي تهدف الى معالجة حالات عدم التطابق في احتياطات العملات الأجنبية المتراكمة في ميزانيته العمومة، بما في ذلك مساهمة من القطاع المصرفي في إعادة الهيكلة هذه». لذا، بات واضحاً أن خطة الحكومة تسعى إلى تحميل القطاع المصرفي خسائر مصرف لبنان. وأضافت: «ستنظر عملية التقييم هذه في إعادة الهيكلة الكاملة للميزانية العمومية لمصرف لبنان، بما في ذلك شطب الخسائر غير المحقة المتراكمة في الماضي وأثر إعادة هيكلة الديون الحكومية على حيازات مصرف لبنان من سندات اليوروبوند وسندات الخزينة». وأوضحت أن الحكومة تسعى إلى شطب 20 مليار دولار من حيازات مصرف لبنان من سندات الخزينة (بالدولار وبالليرة)، كجزء من إعادة هيكلة الدين العام.
وبهدف إعادة هيكلة مصرف لبنان والقطاع المصرفي، تستند الخطة إلى تحويل خسائر مصرف لبنان («غير المحققة» مضافاً إليها تلك الناجمة عن شطب الـ 20 مليار دولار) إلى القطاع المصرفي. مع الإشارة الى أن مجموع هذه الخسائر سيبلغ 99 تريليون ليرة (أي 65.7 مليار دولار بحسب سعر الصرف الرسمي).
إن شطب جزء من الودائع سيكون فعلياً استرداداً للفوائد غير المنطقيّة التي تكبّدها مصرف لبنان والاقتصاد اللبناني


لا شك بأن «هضم» تحويل مبلغ 85.9 تريليون ليرة (أي ما يوازي 57 مليار دولار بحسب سعر الصرف الرسمي) من خسائر مصرف لبنان إلى القطاع المصرفي، وبالتالي شطبها من التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف، لن يكون أمراً سهلاً، وخصوصاً أن هذا الشطب يستتبع، تلقائياً، شطباً لجزء من الودائع لدى المصارف (Haircut). علماً بأن المبلغ المُراد شطبه يساوي 50.6% من مجمل ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، و38.4% من مجمل ودائع المصارف التجارية، التي بلغت (دفترياً) 223.4 تريليون ليرة في نهاية آذار 2020. هذا في الظاهر. أما فعلياً، فإنه لم يتم إيداع كل هذا المبلغ (أي 223.4 تريليون ليرة) في المصارف على الإطلاق، وهو ليس ناجماً حصراً عن إيداعات، بل إن جزءاً مهماً منه هو عبارة عن تراكم فوائد على الودائع الأساسية. علاوة على ذلك، يجب التدقيق في الودائع التي تم سحبها تدريجياً ابتداء من شهر كانون الثاني 2019 حين بلغ حجم الودائع حدّه الأعلى تاريخياً، وهو 261.1 تريليون ليرة. ويجب تقسيم المبلغ المسحوب حتى آذار 2020، والبالغ 37.7 تريليون ليرة، بين ودائع حقيقية وفوائد متراكمة، واسترداد جزء من تلك الفوائد.
هكذا، يمكن إطفاء خسائر مصرف لبنان عبر استعادة جزء من الفوائد التي دفعها مصرف لبنان للمصارف، وذلك بالتوازي مع استعادة المصارف لجزء من الفوائد التي دفعتها للمودعين، وبغض النظر عن حجم الوديعة.
إن معدلات الفائدة العالية جداً التي سادت في لبنان منذ عام 1993 لغاية اليوم، أدّت إلى تضخيم حجم الودائع اصطناعياً، عدا عن الأثر السلبي على الاقتصاد. وهكذا، يمكن أن تقوم المصارف بشطب جزء من الفوائد المتراكمة في ميزانياتها (والتي تظهر كودائع)، ويقوم مصرف لبنان بشطب ما يساويها من ودائع المصارف لديه. إن شطب جزء من الودائع سيكون فعلياً استرداداً للفوائد غير المنطقية التي تكبّدها مصرف لبنان والاقتصاد اللبناني.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية