بمقتضى المادة الثانية من قانون النقد والتسليف: «يحدد القانون قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص». أي إن القانون يحدّد قيمة العملة اللبنانية قياساً إلى العملات الأخرى وليس الصرافين أو العرض والطلب. المادة واضحة لجهة أن قيمة الليرة تُحدد بموجب قانون. وهذا ما أكدته استشارة صادرة عن هيئة التشريع والاستشارات تحت الرقم 881/1985 تاريخ 9/10/1985، والتي أوردت ما يلي: «تجدر الإشارة هنا إلى أن تحديد سعر قانوني جديد لليرة يستوجب تدخل المشترع كما نصت المادتان 2 و229 من قانون النقد والمادة الأولى من القانون المنشور بالمرسوم 6105 ذاته،... إذ أن تحديد سعر الليرة يدخل في النطاق التشريعي وليس في دائرة التنظيم».وإذا كانت قد درجت العادة على أن يبيع الصرافون بسعر الصرف الرسمي، فمرد ذلك إلى عدم وجود أي إشكالية في ظل تدخّل مصرف لبنان شراء وبيعاً بالقيمة المذكورة. أي إن العملة الأجنبية كانت متوفّرة بالسعر الرسمي المحدّد من قبل مصرف لبنان، ويستطيع كل فرد الاستحصال عليها عبر المصارف.

مصرف لبنان متواطئ بالاحتكار
في تشرين الأول 2019، وبعد امتناع المصارف عن تصريف العملات الأجنبية نشأت سوق سوداء بواسطة الصرافين، حددوا بموجبها أسعار مغايرة للسعر الرسمي متذرّعين بمبدأ العرض والطلب في ظل عدم وجود عملات أجنبية في السوق اللبنانية، أي في ظل تزايد الطلب على العملات الأجنبية وتزايد العرض بالعملة اللبنانية.
الحقيقة، إن عملية تحديد سعر الصرف لا يحكمها العرض والطلب، بل إن عدداً من حائزي العملة الأجنبية في السوق اللبنانية، يحتكرون الجزء الأكبر من العملات الأجنبية، ويحدّدون سعر الصرف بإرادتهم المنفردة من دون أي رقابة من الدولة. وقد حققوا أرباحاً طائلة بتواطؤ واضح من بعض المصارف وحاكم مصرف لبنان الذي أصدر عدداً من التعاميم لخدمة احتكار الصرافين، ويضاف إليهم ناقلو الأموال والعمليات الكبيرة للمال الآتي من تبييض الأموال.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

لو افترضنا أنه في ظل الغياب التشريعي يراعى مبدأ العرض والطلب، فإن آليات العرض والطلب مفقودة في سوق الصرافين، لا بل إن الواقع يفيد أن كبار الصرافين الحائزي السيولة الكبرى يحدّدون أسعار الصرف وفقاً لمزاجهم في ظل غياب معايير حساب العرض والطلب وعدم وجود آلية لتسجيل العمليات الصرفية في السوق ما يدخلهم في دائرة الاحتكار المجرمة قانوناً.
إن عملهم باحتكار تحديد سعر العملة اللبنانية المتوجب تحديده بقانون ومن دون أسس تراعي مقداراً مقبولاً للأرباح يشكل احتكاراً مجرماً بمقتضى مبادئ حماية المستهلك، والعملة تدخل من ضمن أساسيات حماية المستهلك وهي المعيار الأساسي لتحديد أسعار السلع.
أما مصرف لبنان فيقوم بدور المتواطئ مع الصرافين من خلال:
- التخلي التام عن موجباته في حماية النقد الوطني والتدخل في سوق القطع.
- تسهيل عمل كبار الصرافين باحتكار العملات الأجنبية والتحكم بقيمة الليرة اللبنانية والتحكم بأسعار المواد والسلع الأولية وفي الحياة الاقتصادية اللبنانية.
- إصدار التعميمات المتلاحقة التي ترمي إلى تحويل أموال المودعين بالعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية وبسعر صرف أقل من السعر المفروض من الصرافين ما يؤمن السيولة بالليرة اللبنانية لدى الجمهور ويدفعهم إلى إبدالها بالعملات الأجنبية ولا سيما الدولار الأميركي، وما يجعل قيمة الليرة تتدنّى بفعل الإقبال على استبدال الليرة بالدولار.
- عدم التدخل لدى المستوردين لتوفير الدولار الأميركي لهم بسعر الصرف الرسمي أو بسعر مدعوم ما يدفعهم إلى التصريف لدى الصرافين.
- سياسة الـfresh money، كما أسمتها المصارف، والتي تقوم على إمكان التصرف بالمبالغ المودعة حديثاً بالعملات الأجنبية ما يدفع التجار والمستوردين إلى التصريف لدى الصرافين لوضع المبالغ بالعملات الأجنبية في حساباتهم وإيفائها للمورّدين سواء بحوالات أو اعتمادات مستندية أو شيكات أو غيرها، كون هذه المبالغ وحدها يمكن التصرف بها.
- إصدار تعميم إلى شبكات التحويل المالية بإلزام الجمهور بقبض تحويلاتهم بالعملة اللبنانية وبسعر صرف أدنى من سعر الصراف ما سيجعل هؤلاء أيضاً يتوجهون إلى الصرافين لشراء العملات الأجنبية وزيادة الطلب على العملات الأجنبية وتأمين العرض بالعملة اللبنانية لها.
باختصار إن حاكم مصرف لبنان، يهدف إلى تأمين العملات اللبنانية بيد الجمهور وحجب العملات الأجنبية عنهم ودفعهم للتوجه إلى الصرافين ليؤمنوا العملة الأجنبية بسعر أعلى. بنتيجة هذا التوجه هناك ثلاث نتائج حتمية:
1- تدني قيمة العملة اللبنانية بفعل التضخم فيها وشحّ العملات الأجنبية.
2- تغذية سوق الصرافين بتحويل العملات الأجنبية بأسعار أقل من السعر المتداول لديهم ودفع الجمهور إلى تصريفها. والمرجع الوحيد للتصريف هم الصرافون.
3- رفع الأسعار نتيجة إلزام الشركات المستوردة بالتصريف وبالتالي البيع وفقاً لسعر الصرافين.

■ ■ ■


ثمة سؤال آخر يتطلب الإجابة عليه لجلاء الصورة بشكل أوضح: من أين يستحصل الصرافون على أموالهم بالعملات الأجنبية؟
لا شك في أن هنالك مصدراً معترفاً به من الصرافين ولا جدال حوله وهو العملات الأجنبية المتوافرة لدى الجمهور ومصادر أخرى.
أولاً: المصدر العلني
يتمثل المصدر العلني والمشروع بتلقّي الصرافين العملات الأجنبية من العامة الذين يعرضونها ويبيعونها إلى جمهور يعرض شراءها.
يزعم الصرافون أن موجوداتهم بالعملات الأجنبية هي على هذا النحو وأن كل حاجة السوق تُغذّى من العامة الذين يحوزون العملات الأجنبية. لكن هذا الزعم زائف للأسباب التالية:
1- إن منطق الوساطة المالية في الأوضاع الطبيعية يستقيم مع معادلة العرض والطلب. أما في وضع الأزمات وشحّ العملات الأجنبية، فينتفي هذا الأمر لأن الجمهور لا يقدم على عرض العملات الأجنبية طالما أنها في ارتفاع مستمر وبالعكس يتراكض لتبديل الليرة اللبنانية بالعملات الأجنبية.
2- هنا لا بد من إيضاح زيف زعم الصرافين بأن مبدأ العرض والطلب يحدّد السعر، لأن المواطن لا يعرض بل يتوجه إلى الصراف ويسأله عن السعر الذي يحدّده كبار الصرافين. فإما أن يناسبه السعر أو لا يناسبه وبالتالي إذا لم يناسبه يحجم عن البيع. هنا إذاً، يتراكض الصرافون لعرض شراء العملات الأجنبية بسعر مرتفع بهدف سحب العملات الأجنبية من يد العامة، ثم يحبسون العملات الأجنبية ليبيعوها بأعلى الأسعار. أي إنه لا عرض وطلب، بل مبادرة من الصرافين لاحتكار العملات الأجنبية.
3- إن تلبية كل الحاجات التجارية للشركات والمواطنين إضافة إلى تلبية حاجات المواطنين أمر لا يمكن أن ينتج من العملات الأجنبية الموجودة بحوزة الجمهور.
كبار الصرافين الحائزي السيولة الكبرى يحدّدون أسعار الصرف وفقاً لمزاجهم في ظل غياب معايير حساب العرض والطلب وعدم وجود آلية لتسجيل العمليات الصرفية في السوق


4- إن وجود العملة اللبنانية بيد العامة لا يمكن أن يُنتج إلا طلباً وشحاً للعملات الأجنبية فلا بد من منابع لسحبها من خارج السوق اللبنانية، أي من خارج أيدي الجمهور الذي لا يحوز إلا قدراً قليلاً منها.
5- إن التعامل في السوق اللبنانية، يتم بالعملة اللبنانية ولا مصادر لجني العملات الأجنبية من قبل العامة إلا الصرافون.
لذا وجب التساؤل عن مصادر العملات الأجنبية التي تضاف إلى ودائع الصرافين.
ثانياً: المصادر غير المعلن عنها
يمكن ردّ هذه الموارد إلى عنصرين:
1- مصادر داخلية:
تتمثل هذه المصادر بأموال صادرة عن المصارف سواء مباشرة من أموال المودعين أو غير مباشرة عبر تغطية المستندات اللازمة لنقل الأموال من الخارج ومن ثم تأمينها للصرافين وأحياناً مباشرة من شركات نقل الأموال إلى الصرافين المجاز لهم إجراء التحويلات المالية أي الفئة «ب».
2- مصادر خارجية:
تتمثّل بأموال تُنقل بالتهريب عبر الحدود البرية أو البحرية أو الجوية وبعائدات تبييض الأموال المتّصلة بعمليات صرف في بلدان أخرى.
ويضاف إليها عملية صرف الشيكات المصرفية بعمولات مرتفعة التي لا تؤمّن عملات أجنبية نقديّة لكنها تدخل في السوق إيفاء لديون وتأميناً لخدمات الإيفاء بعد حسم عمولة مرتفعة للصراف.

■ ■ ■


في هذا الإطار ثمة مقترحات يمكن تقديمها على النحو الآتي:
1- ينبغي التقدم بمشروع قانون تعديل المادة الثانية من قانون النقد والتسليف، بحيث تحدد آلية تحديد سعر العملات الأجنبية عبر منصة آلية موحّدة يشترك فيها جميع الصرافين وتلزمهم وتسجل فيها عمليات العرض والطلب تحت طائلة الحبس والغرامة ومصادرة الأموال لمصلحة الخزينة.
2- عبر المنصة الآلية يتم تسجيل جميع العمليات المصرفية لتحدد مجموعها سعر صرف العملات الأجنبية، بناءً على معايير العرض والطلب وسائر المقوّمات الاقتصادية للعملة الوطنية، ويعطى كل من يصرف أموالاً إيصالا صادراً عن النظام الإلكتروني كما يتيح لوزارة المال إجراء الرقابة على أرباح الصرافين لفرض الضريبة عليهم.
3- التشدّد في تطبيق القوانين المرعية الإجراء على الصرافين والعملاء، ولا سيما قانون تبييض الأموال الذي يُلزم كل من يصرف مبلغاً يفوق الحد الذي يعيّنه مصرف لبنان، بالتصريح لدى الصراف، الذي عليه أن يعلم مصرف لبنان لإجراء رقابته، وقانون الإثراء غير المشروع لمراقبة الإثراء والأرباح غير المنطقية وقانون العقوبات لجهة المواد المتعلقة بالتأثير بالعملة الوطنية...
4- ملاحقة المرابين واستصدار قانون بإبطال انتقال الملكية العقارية بسبب دين ربوي وتكليف محكمة خاصة بالتحقيق في أصل الدين والمدفوع منه وتحرير العقار بمجرد دفع الرصيد المتبقي من أصل الدين.
5- تحرّك وزارة المال والحجز فوراً على أموال الصرافين والمصرفيين وناقلي الأموال تحصيلاً للضرائب والرسوم والغرامات، وتكليف لجنة قضائية مالية تعمد إلى التقدير المباشر للضرائب المفروضة عن السنوات العشر المنصرمة إضافة إلى الضرائب المقرّرة وسحب رخصة الترخيص من أي صراف لا يكون بريء الذمة تجاه الإدارة الضرائبية سواء كانت مالية أو بلدية أو أي دين لمصلحة الدولة اللبنانية لأي سبب كان.
6- تحريك القضاء المختص ولا سيما النيابة العامة المالية والضابطة العدلية المتخصّصة وتعزيزها بالكفاءات لملاحقة التلاعب بسعر صرف العملة اللبنانية.
7- رفع السرية المصرفية عن المشتركين بجرائم التلاعب بالعملة الوطنية من عائلات الصرافين والمصرفيين والصرافين غير الشرعيين والحسابات التي قد يملكها الصرافون بأسماء مستعارة وناقلي الأموال وكل من يثبت ضلوعه بالتلاعب بسعر العملة الوطنية، ومراقبة تقيّد المصارف والصرافين بقانون مكافحة تبييض الأموال، وتقيّد المصارف بعدم فتح حسابات مصرفية لمصلحة الصرافين وفق ما ينص عليه القانون.

* محام